تشهد الجمهورية العراقية في 11 نوفمبر 2025 انتخابات برلمانية جديدة، يتحدد على أساسها شكل الحكومة العراقية المقبلة، وهذه الانتخابات هي السادسة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. وتأتي في ظل واقع سياسي معقد يتأرجح بين إرث الانقسام الطائفي والحزبي. فمنذ عام 2003 وحتى اليوم، ظلّت العملية السياسية قائمة على توازنات وصراعات دقيقة بين المكوّنات الشعبية الرئيسة الثلاثة، وهم: الشيعة، السنة، والأكراد، لكن مع مرور الوقت ازدادت قوة الميليشيات المسلحة التي ظهرت بكثرة بعد احتلال العراق، وانتشار تنظيمات إرهابية عديدة مثل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وتحولت بعض فصائلها إلى أذرع سياسية تنافس في الانتخابات وتؤثر في تشكيل الحكومات.
غير أن الساحة الإقليمية في الوقت الحالي تعج بالعديد من الصراعات والتحولات السياسية الكبرى، فقد انهار نظام بشار الأسد في سوريا في 8 ديسمبر 2024، الذي يُعَدّ أحد أبرز الأنظمة الموالية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقد دوى صدى هذا الانهيار في الداخلين اللبناني والعراقي نظرًا لكثرة الفصائل والجماعات الشيعية فيهما. كما أدت المواجهات العسكرية الأخيرة بين إسرائيل وإيران في يونيو 2025، والتي استمرت نحو 12 يومًا، وإضعاف حزب الله في لبنان من قبل إسرائيل، إلى العديد من التحولات السياسية في المنطقة، حيث أسهمت في تقليص النفوذ الإيراني وتقويض دعمه للجماعات المسلحة التابعة له أو للفصائل الشيعية التي تسانده، أو ما يُعرف بمحور المقاومة. ومن شأن هذه التحولات أن تؤثر بدورها في الانتخابات البرلمانية القادمة في العراق، في ظل تغيّر موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط وانعكاساتها على التحالفات الداخلية العراقية.
وانطلاقًا مما سبق، يسعى هذا المقال التحليلي إلى استعراض أهم ملامح الإطار التشريعي والانتخابي في العراق، وتوضيح القوانين المنظمة لهذه العملية. كما يتناول المشهد الحزبي وصراع القوى السياسية في العراق، مستعرضًا أبرز القوى المهيمنة على الساحة، وكيف يمكن للتحولات الإقليمية الجارية في المنطقة أن تغيّر موازين القوى في الداخل العراقي وتنعكس على الانتخابات البرلمانية القادمة.
أولًا: الإطار التشريعي والنظام الانتخابي في العراق
الجمهورية العراقية هي دولة ذات نظام سياسي قائم على النظام الجمهوري البرلماني. وقد تشكّل النظام السياسي في العراق بصورته الحالية فعليًا بعد احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للبلاد عام 2003، حيث جرى وضع إطار قانوني ودستوري جديد،، وأُعيد تشكيل نظامها السياسي عبر دساتير وتشريعات جديدة تختلف عما كان معمولًا به في ظل النظام السابق. ومن بين هذه التغييرات النظام الانتخابي والإطار التشريعي الناظم للعملية السياسية. ويقوم النظام الانتخابي في العراق على أساس الدستور الدائم الذي أُصدر في عام 2005 الذي أُقر عقب الاحتلال الأمريكي، حيث وضع الأسس العامة لتنظيم العملية السياسية وبناء مؤسسات الدولة. ويقوم العرف السياسي في العراق على تقاسم السلطة بين المكوّنات الشعبية الرئيسة الثلاثة: الشيعة، السنة، والأكراد. ويُعدّ مجلس النواب هو السلطة التشريعية الأساسية في العراق، حيث يتم انتخاب أعضائه مباشرة من الشعب، ويُطلب منه انتخاب رئيس الجمهورية، ومنح الثقة لرئيس الوزراء وحكومته، بعد اختيار رئيس الجمهورية لرئيس الوزراء. وعلى الرغم من أنّ الدستور العراقي لعام 2005 لم ينص صراحةً على مبدأ المحاصصة السياسية أو توزيع المناصب على أسس طائفية أو قومية، إلا أنّ عرفًا سياسيًا ترسخ بعد عام 2003 أدى إلى تقاسم السلطة بين المكوّنات الرئيسة، بحيث يُسند منصب رئاسة الوزراء عادةً إلى شخصية من المكوّن الشيعي، ورئاسة مجلس النواب إلى شخصية سنية، ورئاسة الجمهورية إلى شخصية كردية.[1]
ومن هنا نجد أن المكوّن الطائفي يشكّل عاملًا حاسمًا في كافة العمليات السياسية والاجتماعية المختلفة في العراق، وهو ما انعكس أيضًا على التعديلات المتعاقية للنظام الانتخابي العراقي، ولا سيما تلك المتعلقة بالمجالس النيابية ومجالس المحافظات للحد من هيمنة الطائفية والحزبية. حيث شهد النظام الانتخابي العراقي عدة تعديلات متعاقبة، كان أبرزها قانون الانتخابات لعام 2020 الذي أُقرّ في أعقاب احتجاجات أكتوبر 2019، وهي احتجاجات انطلقت نتيجة تفشي الفساد وتردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وقد وصلت مطالب هذه الاحتجاجات إلى حدّ إسقاط النظام، بالإضافة إلى تعديل قانون الانتخابات عام 2023.[2] وقد شهد قانون عام 2020 تغيرات جذرية أستجابة لمطالب الشعب العراقي، حيث اعتمد على الاكثرية بدلا من النسبية، وقسّم المحافظة التي كانت تُعد في القوانين السابقة دائرة انتخابية واحدة إلى عدة دوائر أصغر، حيث قُسمت الدوائر الانتخابية إلى 83 دائرة على مستوى المحافظات العراقية بدلًا من النظام القديم الذي حدد أن كل محافظة تمثل دائرة انتخابية واحدة، واعتُمد هذا النظام في انتخابات عام 2021.[3] وقد أسهم هذا التغيير في فتح المجال أمام المرشحين المستقلين، إذ فاز العديد منهم لأول مرة في تاريخ العراق السياسي الحديث، فيما تراجعت حظوظ غالبية الأحزاب التقليدية التي عجزت عن تحقيق الأغلبية. وبناءً على ذلك، دفعت هذه التغيرات الأحزاب التقليدية إلى السعي لتغير هذه القوانين لتصبح العملية الأنتخابية في صالحها مرة أخرى.[4]
نجحت الضغوطات الحزبية في تغيير القانون الأنتخابي مرة أخرى في عام 2023، وإعادته مرة أخرى إلى نظام الدائرة الواحدة لكل محافظة، رغم وجود العديد من الاعتراضات من الأحزاب الصغيرة والمرشحين المستقلين. كما أعادت تعديلات 2023 إلى العمل على نظام “سانت لاغو” المعدل الذي تم تقديمه في انتخابات 2014، والذي يعتمد على صيغة معقدة لتوزيع المقاعد وتميل إلى تفضيل الأحزاب القائمة في البرلمان. ولهذا، اعتُبرت هذه التعديلات وسيلة لتعزيز هيمنة وسيطرة الأحزاب الكبيرة على العملية السياسية والانتخابية.[5]
ورغم المحاولات المتكررة لإصلاح القانون الانتخابي وتوسيع نطاق الدوائر أو تعديلها، إلا أن هذه الجهود غالبًا ما تواجه معارضة شديدة من الأحزاب الكبيرة والتقليدية. ويُضاف إلى ذلك التأثير البالغ للعشائر، والمال السياسي، والسلاح المنفلت في نتائج الاقتراع الانتخابي. كما لا تزال المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، وهي الجهة المشرفة على العملية، تواجه تحديات تتعلق بالشفافية والثقة الشعبية، خصوصًا مع اتهامات متكررة بحدوث تزوير أو تلاعب في النتائج، وخاصة من قبل الإطار التنسيقي في انتخابات عام 2021.[6]
ثانيًا: المشهد الحزبي وصراع القوى السياسية المهيمنة في العراق من 2019 إلى الأن
يتشكل المشهد السياسي في العراق على أساس القوى الطائفية والحزبية أكثر من كونه قائمًا على برامج سياسية أو رؤى اقتصادية واجتماعية. وهو ما انعكس في نظام المحاصصة الذي أصبح قاعدة عرفية غير مكتوبة لتوزيع السلطة بعد عام 2003. فقد اعتمدت الحكومات المتعاقبة على ترضيات سياسية بين المكوّنات المختلفة لضمان تمرير القرارات، الأمر الذي أدى إلى تكريس نفوذ الأحزاب التقليدية وإضعاف فعالية الدولة في إدارة شؤونها. ومع مرور الوقت، أفضى هذا النظام إلى صعود معدلات عالية من الفساد في مختلف القطاعات، وتراجع الخدمات العامة، فضلًأ عن انسداد الأفق السياسي أمام الأحزاب الصغيرة والقوى السياسية المستقلة والشبابية، وحدوث حالة من الشلل المؤسسي داخل هذا النظام. وقد أدت هذه الأوضاع في النهاية إلى اندلاع احتجاجات أكتوبر 2019 الرافضة للتدهور الاقتصادي والسياسي وللمحاصصات السياسية القائمة على الطائيفية والمحاباة، بالإضافة إلى مناهضة النفوذ الإيراني المتصاعد في العراق. وقد أسفرت هذه الاحتجاجات عن استقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي في نهاية نوفمبر 2019، وإصدار قانون الانتخابات الجديد عام 2020، الذي هدف إلى فتح المجال السياسي أمام الأحزاب الصغيرة والقوى المستقلة والشبابية في مواجهة هيمنة الأحزاب التقليدية الكبيرة.[7]
ومن ثم دخل العراق بعدها مرحلة جديدة من الصراع بين الطوائف والأحزاب، كان من أبرزها الصراع القائم بين التيار الصدري الشيعي بزعامة مقتدى الصدر، وبين القوى والأحزاب الشيعية التقليدية الأخرى مثل عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، وائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، ومنظمة بدر وتحالف الفتح بزعامة هادي العامري، وتحالف قوى الدولة بزعامة عمار الحكيم وحيدر العبادي، وحركة عطاء، وحركة حقوق، وحزب الفضيلة، فضلًا عن الفصائل الأخرى المرتبطة بالحشد الشعبي الموالية لإيران. ولقد اتحدت هذه القوى والفصائل في 11 أكتوبر عام 2021 تحت إطار وتحالف واحد يعرف باسم “الإطار التنسيقي” الذي يضم العديد من القوى والأحزاب الشيعية المختلفة الموالية لإيران. ويجدر الإشارة إلى أن التيار الصدري، رغم كونه أحد أبرز القوى الشيعية في العراق، إلا أنه يعد في الوقت نفسه من أبرز الرافضين لأي تدخلات خارجية، بما في ذلك التدخل الإيراني، ولذلك يصنّفه بعض المراقبين والمحليين السياسيين ضمن التيارات المناوئة لإيران في الداخل العراقي.[8]
وعليه، بدا أن الوضع في هذه المرحلة، وخاصة في المرحلة التي تلت احتجاجات 2019، وكأن الجسد الاجتماعي الشيعي في العراق يقاتل ويصارع بعضه البعض من أجل السيطرة على السلطة والاستحواذ عليها. غير أنه كان هناك صراعات داخلية أخرى بين القوى السنية، وكان من أبرزها الصراع الدائر بين محمد الحلبوسي رئيس البرلمان العراقي منذ سبتمبر 2018 وحتى نوفمبر 2023، وهو زعيم تحالف “تقدم” السني، وبين خميس الخنجر رجل الأعمال العراقي وزعيم تحالف “عزم” السني الذي تشكل في عام 2021، وكان الصراع قائمًا بينهم في الأساس في الفترة التي تلت الاحتجاجات حول من يمثل أهل السنة في بغداد والمشرف على ملف إعادة إعمار المناطق المحررة من التنظيمات الإرهابية.[9] بالإضافة إلى ما سبق، كان هناك صراع آخر دائر بين القوى الكردية الداخلية حول تقاسم النفوذ والمناصب، وكان من أبرزها الصراع بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، وبين الاتحاد الوطني الكردستاني الذي كان يعيش مرحلة من التشتت القيادي والإدارة الجماعية بعد وفاة زعيمة جلال طالباني في أكتوبر عام 2017، وكان من أبرز قياداته كوسرت رسول، قبل أن يتولى بافل طالباني القيادة رسميًا في 2020 وحتى الوقت الحالي.[10]
وجدير بالذكر أن الصراع على المشهد السياسي الرئيسي في العراق لم يكن بين القوى السنية والشيعية بعد احتجاجات عام 2019، بل كان بين القوى الشيعية بعضها البعض، وخاصة بين التيار الصدري الشيعي والقوى الحزبية الشيعية المجتمعة تحت الإطار التنسيقي. ويمكن تقسيم مراحل الصراع بينهما إلى ثلاث مراحل أساسية، وهم كالآتي:
أ-مرحلة ما بعد استقالة عادل عبد المهدي وحتى فوز التيار الصدري في الانتخابات النيابية (من نوفمبر 2019 إلى اكتوبر 2021)
بعد استقالة عادل عبد المهدي من منصبه كرئيس للوزراء في العراق في نوفمبر 2019 نتيجة للاحتجاجات الشعبية، بدأ الصراع الشيعي-الشيعي في التصاعد بشكل متسارع لتحديد من سيقود المرحلة القادمة. وقد ظهر مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، في هذه المرحلة كرمز شعبي وزعيم للثورة العراقية، إذ دعم طوال فترة الاحتجاجات جميع المطالب الشعبية الداعية إلى الإصلاح أو إسقاط الحكومة والمطالبة باستقالتها، ودعى إلى حماية المتظاهرين والتوقف عن قتلهم من قبل ميليشيات الحشد الشعبي والقوات الأمنية. كما أعلن التيار الصدري أثناء الاحتجاجات أن كتلته البرلمانية ستتحول إلى المعارضة، وهو ما أظهر مقتدى الصدر وتياره كزعيم للثورة وحامٍ لها. ولقد أكسبت مواقف الصدر أثناء الاحتجاجات شعبية كبيرة وتأيدًا واسعًا في الشارع العراقي، وهو ما انعكس فيما بعد في انتخابات 2021.[11]
وعقب استقالة عادل عبد المهدي، أصبح منصب رئيس الوزراء شاغرًا، وتحولت الحكومة حينها إلى حكومة تصريف أعمال حتى مجيء رئيس وزراء جديد. وفي أبريل 2020، كلف رئيس الجمهورية العراقي برهم صالح مصطفى الكاظمي بتشكيل حكومة عراقية، ومنح مجلس النواب العراقي الثقة له ولحكومته على أن يكون رئيسًا للوزراء خلال المرحلة الانتقالية إلى حين إجراء الانتخابات البرلمانية في عام 2021. وعلى الرغم من حصول مصطفى الكاظمي على تأييد واسع في البرلمان العراقي، إلا أنه قوبل أيضًا بمعارضة شديدة من قبل العديد من الأحزاب والقوى الشيعية، التي اتهمته بالتآمر والتسبب في مقتل القيادي أبو مهدي المهندس، أحد أبرز قادة الحشد الشعبي، وقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، ولكن هذه الاتهامات لم تثبت صحتها.[12]
استمر الكاظمي في رئاسة مجلس الوزراء حتى إجراء الانتخابات النيابية في 10 أكتوبر 2021، واستمر بعدها أيضًا في المنصب نفسه حتى 13 أكتوبر 2022 إلى حين اختيار رئيس مجلس وزراء جديد من قبل القوى الحزبية في البرلمان. وقد ظهرت النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية في 11 أكتوبر 2021، وأظهرت فوز التيار الصدري، أو الكتلة الصدرية، بزعامة مقتدى الصدر، بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان العراقي بواقع نحو 73 مقعدًا. وقد أدى فوز الكتلة الصدرية بأكثرية المقاعد إلى إقصاء العديد من الأحزاب الشيعية الكبرى والبارزة من صدارة المشهد السياسي، وأشعل جدالات حادة بين التيار الصدري والقوى الحزبية الشيعية الأخرى. ونتيجة لذلك، توحدت العديد من القوى الشيعية في 11 أكتوبر 2021 ضمن إطار واحد عُرف باسم “الإطار التنسيقي”، والذي سبق أن أشرنا إلى مكوناته بالتفصيل. كما أعلن الإطار، إلى جانب بعض القوى الشيعية الأخرى المنضوية تحت غطاء الحشد الشعبي، عن نيته الطعن في نتائج الانتخابات التشريعية، معتبرًا أن هناك تلاعبًا في النتائج، ومطالبًا بإعادة النظر فيها وفرزها يدويًا. ومن بعدها دخل العراق مرحلة جديدة تصاعد فيها الصراع والتوترات بين الكتلة الصدرية والإطار التنسيقي، وشهدت هذه المرحلة توترات عديدة بلغت أحيانًأ حدّ الصدام المسلح.[13]
ب-مرحلة تصاعد التوترات بين التيار الصدري والإطار التنسيقي (من أكتوبر 2021 حتى أغسطس 2022)
منذ بداية تقديم الإطار التنسيقي طعونًا في نتائج الانتخابات، بدأت التوترات تتصاعد بشكل كبير بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، حيث نزل أنصار الأخير إلى الشوارع العراقية احتجاجًا على النتائج، وهددت الفصائل المسلحة المنتمية إليه باللجوء إلى القتال إذا جرى المساس بالمتظاهرين الرافضين للنتائج الانتخابية. وتم بالفعل إعادة فرز النتائج الانتخابية يدويًا، وأعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات العراقية في 30 نوفمبر 2021 عن النتائج الانتخابية النهائية، التي أتت في صالح التيار الصدري ومؤكدًا على فوز الكتلة الصدرية بأكبر عدد مقاعد للبرلمان بنحو 73 مقعدًا، تليه كتلة تقدم السنية بزعامة محمد الحلبوسي بـ37 مقعدًا، ثم ائتلاف دولة القانون، الذي يتزعمة نوري المالكي، في المركز الثالث بـ33 مقعدًا، وفي المركز الرابع حصل الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يتزعمة مسعود برزاني على 31 مقعدًا، في حين حاز منافسة الكردي “تحالف كردستان” على 17 مقعدًا. وأكدت المفوضية على عدم وجود أي تزوير أو احتيال في النتائج الانتخابية.[14]
ولكن الأمور لم تهدأ بين التيار الصدري والإطار التنسيقي بعد الإعلان النهائي للنتائج الانتخابية بل أستمرت في التصاعد بينهما. ففي ديسمبر 2021 أعلن الإطار التنسيقي عن تشكيل ثلاث لجان خاصة للتحاور مع كل من الكتلة الصدرية والقوى السنية والكردية، وذلك بهدف توفيق الآراء بينها في سبيل اختيار رئيس وزراء تتوافق عليه الأطراف المختلفة. وقد قام الإطار التنسيقي بإنشاء هذه اللجان نتيجة شعوره بالتهميش أمام التيار الصدري الذي استحوذ على صدارة المشهد السياسي، خاصة وأن الإطار كان يسعى إلى تشكيل حكومة محاصصة توافقية، في حين عارضه التيار الصدري مطالبًا بتشكيل حكومة أغلبية وطنية وعبر عنها بأنها ستكون “لا شرقية ولا غربية”.[15] كما حاول مقتدى الصدر إقامة تحالف مع كل من القوى السنية، المتمثلة في تحالف السيادة السني، والكردية، المتمثلة في الحزب الديمقراطي الكردستاني، فيما عُرف بـ”التحالف الثلاثي”، وذلك من أجل اختيار حكومة وطنية، إلا أن محاولته لم تنجح في التوصل إلى نتيجة مرضية بسبب معارضة قوى الإطار التنسيقي. ويجب الإشارة إلى أنه في العراق تمثل النتائج الانتخابية عاملاً حاسماً في عملية توزيع المناصب العليا ؛ إذ تُظهر التجربة السياسية الحديثة المقامة بعد الغزو الأمريكي للعراق أن معظم من تولّوا الرئاسات الثلاث، أي رئاسة البرلمان والجمهورية والحكومة، لم يصلوا إلى مواقعهم استناداً إلى ثقلهم الجماهيري أو عدد المقاعد التي حققوها في صناديق الاقتراع. بل إن آلية الاختيار غالباً ما تتم عبر توافقات سياسية بين الكتل البرلمانية، بحيث تُقدّم الاعتبارات التفاوضية والتسويات الحزبية على حساب الأوزان الانتخابية الفعلية، وهو ما يُعرف في الأدبيات السياسية بمبدأ “التوافق”، وهو ما كان يحاول مقتدى الصدر إنهاءه عبر السعي لتشكيل حكومة أغلبية وطنية.[16]
ومع استمرار الأزمة، كان لا بدّ للقوى الحزبية من كسر حالة الجمود، حيث أعلن التيار الصدري في 31 مارس 2022 عن منحه فرصة للإطار التنسيقي للتباحث فيما بينهما بشأن تشكيل حكومة أغلبية وطنية والخروج من الأزمة. غير أن الإطار التنسيقي ردّ مطلع أبريل بتمسكه بمطلب تشكيل حكومة توافقية تُرضي جميع الأطراف. وفي مايو من العام نفسه، دعا الإطار مختلف القوى السياسية إلى الجلوس والتشاور من أجل محاولة الخروج من الأزمة واختيار رئيس وزراء وحكومة توافقية، إلا أن هذه الجهود لم تنجح في توفيق وجهات النظر بين الأطراف المختلفة.[17]
ونتيجة لانسداد الأفق السياسي، أعلن مقتدى الصدر في 15 يونيو 2022 انسحابه من العملية السياسية وسحب كتلته من البرلمان. وقد قدم نواب الكتلة الصدرية استقالتهم بالفعل بناءً على طلب مقتدى الصدر في يوم 9 يونيو 2022، وقُبلت هذه الاستقالات في 12 يونيو من العام نفسه، وذلك لعدم تمكن القوى السياسية والأحزاب المختلفة من التوصل إلى اتفاق لتشكيل حكومة عراقية. وذكر الصدر أن انسحابه جاء لأنه لا يرغب في المشاركة مع “الساسة الفاسدين”، وأكد عدم عزمه المشاركة في أي انتخابات مقبلة، قائلاً: “أريد أن أخبركم، في الانتخابات المقبلة لن أشارك بوجود الفاسدين، وهذا عهد بيني وبين الله، وبيني وبينكم ومع شعبي، إلا إذا فرّج الله وأزيح الفاسدون، وكل من نهب العراق وسرقه وأباح الدماء”.[18]
وبعد خروج التيار الصدري من البرلمان، أعادت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات توزيع المقاعد على المرشحين الخاسرين الحاصلين على أعلى نسب تصويت، وكان معظمهم من الإطار التنسيقي والأحزاب الموالية لإيران. ونتيجة لذلك ارتفع عدد مقاعد الإطار التنسيقي في البرلمان إلى 130 مقعدًا، ليصبح الكتلة الأكبر في البرلمان بعد أن كانت من نصيب التيار الصدري.[19]
وفي 25 يوليو 2022 أعلن الإطار التنسيقي ترشيح محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة المقبلة، إلا أن التيار الصدري رفضه باعتباره مقربًا من رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي. ونتيجة لذلك دعا مقتدى الصدر أنصاره إلى الاحتجاج على هذا الترشيح، فخرج أنصاره في 27 يوليو 2022 وتظاهروا في الشوارع واقتحموا مبنى البرلمان العراقي واعتصموا داخله اعتراضًا على ترشيح السوداني، لكنهم عادوا إلى منازلهم في نفس الليلة تلبية لدعوة زعيمهم . ولكن الأمر تكرر مرة أخرى في الأيام التي تلتها، وأعلن أنصار التيار الصدري في 30 يوليو عن اعتصام مفتوح داخل مبنى البرلمان العراقي. في حين دعى الإطار التنسيقي أنصاره إلى التظاهر والدفاع عن الدولة ومؤسساتها وشرعيتها. وفي خلال تلك الأثناء أشتدت حدة الصراع بين قوات الأمن والمتظاهرين المناصرين للتيار الصدري، وبدى وكأن المشهد السياسي في العراق أخذ في التدهور. وعليه، أدت هذه الفوضى إلى تعطيل عمل مجلس النواب وإلغاء جميع جلساته، مما عرقل جهود الكتل السياسية، وعلى رأسها الإطار التنسيقي، في مساعي تشكيل الحكومة المقبلة. وقد شهد شهر أغسطس 2022 تصاعدًا متسارعًا في وتيرة الأحداث، الأمر الذي يجعل من المهم عرضها في تسلسل زمني لفهمها بدقة.[20]
ففي 3 أغسطس 2022، دعا مقتدى الصدر أنصاره إلى الاستمرار في الاعتصام حتى تحقيق مطالبهم المتمثلة في حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة. وبعد أيام قليلة، في 5 أغسطس، نظم التيار صلاة جماعية حاشدة داخل المنطقة الخضراء ببغداد، والتي تحتوي على الوزارات والمؤسسات السيادية الأساسية في العراق، شارك فيها مئات الآلاف من العراقيين، في إشارة إلى قدرته على الحشد والتأثير الشعبي.[21]
وفي 14 أغسطس 2022 تطور الموقف بشكل كبير عندما منح الصدر مجلس القضاء الأعلى مهلة أسبوعًا لحل البرلمان. غير أنّ المجلس أعلن لاحقًا أنه لا يمتلك الصلاحيات الدستورية لذلك، وهو ما أثار احتجاجات أمام مقره. وردّ الصدر في 23 أغسطس بدعوة أنصاره إلى الانسحاب من أمام مجلس القضاء، مع الاستمرار في الاعتصام أمام مبنى البرلمان، بينما كانت المحكمة الاتحادية العليا تنظر في الطعون بشأن حل المجلس النيابي.[22]
وقد شهدت الساحة السياسية العراقية تطورًا هامًأ في 28 أغسطس 2022، مع إعلان المرجع الشيعي آية الله كاظم الحائري استقالته من موقعه الديني ودعوته أتباعه إلى طاعة المرشد الإيراني علي خامنئي. وهذه الخطوة اعتُبرت ضربة لشرعية الصدر، إذ كان الحائري قد منحه سابقًا صفة الممثل الشرعي في العراق. وردّ الصدر بتغريدة اعتبر فيها الاستقالة غير نابعة من إرادة الحائري نفسه، في محاولة لامتصاص أثرها على أتباعه.[23]
وفي 29 أغسطس 2022، أعلن الصدر “انسحابه النهائي” من العمل السياسي، مؤكدًا إغلاق جميع المؤسسات التابعة لتياره باستثناء المراقد والمراكز التراثية. أدى هذا الأعلان إلى اندلاع موجة جديدة من الاحتجاجات الحاشدة التي امتدت إلى القصر الجمهوري داخل المنطقة الخضراء، وأدت إلى فرض حظر تجوال شامل من قبل الجيش العراقي، فيما علّق رئيس الوزراء المؤقت مصطفى كاظمي جلسات الحكومة. ومع حلول الليل اندلعت اشتباكات مسلحة بين “سرايا السلام” التابعة للصدر، التي انتشرت بدعوى حماية المتظاهرين، وبين قوات مرتبطة بالحشد الشعبي، ما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 30 شخصًا وإصابة المئات، فضلًا عن اتساع رقعة الاحتجاجات إلى مدن الجنوب الشيعي.[24]
أمام هذا المشهد المعقد، أُعلن أن مقتدى الصدر دخل في إضراب عن الطعام إلى حين توقف العنف. في الوقت نفسه، أصدرت بعثة الأمم المتحدة في العراق بيانًا وصفت فيه الأحداث بأنها “تصعيد خطير للغاية”، داعيةً المتظاهرين إلى إخلاء المباني الحكومية بما يسمح للحكومة المؤقتة بممارسة مهامها. وفي 30 أغسطس، حسم الصدر الموقف بدعوة أنصاره إلى الانسحاب الكامل من المنطقة الخضراء وإنهاء الاعتصام، في محاولة لاحتواء الأزمة ومنع تفاقم الصدام الداخلي. وانسحب التيار الصدري في الأيام التي تلت الأزمة للتهدئة، وهو ما عزز من وجود الإطار التنسيقي على الساحة.[25]
ج-مرحلة هيمنة الإطار التنسيقي والأحزاب الموالية لإيران (من أغسطس 2022 حتى الآن)
هدأت الأوضاع نسبيًا في العراق بعد الأحداث الدموية التي شهدها الشارع العراقي في أغسطس، إلا أن التوترات بين التيار الصدري والفصائل الشيعية الأخرى في الأشهر التي تلت الأزمة ظلت حاضرة. فقد خرجت المظاهرات بشكل مستمر من أنصار التيار الصدري طوال شهري سبتمبر وأكتوبر احتجاجًا على سياسات وقرارات الإطار التنسيقي. وفي 13 أكتوبر 2022، انتُخب عبد اللطيف رشيد رئيسًا للجمهورية، وكلف على الفور محمد شياع السوداني، مرشح الإطار التنسيقي، بتشكيل الحكومة العراقية. وفي 15 أكتوبر 2022، هاجم مقتدى الصدر حكومة السوداني ووصفها بأنها “حكومة ميليشياوية وتبعية”، لكنه لم يوجّه أتباعه وأنصاره للنزول إلى الشوارع.[26]
ظلت التوترات قائمة بين القوى الحزبية المختلفة، وخاصة بين التيار الصدري والإطار، طوال السنوات التي تلت سيطرة الإطار التنسيقي والقوى الموالية لإيران على العملية البرلمانية. وبالرغم من انسحاب الكتلة الصدرية من البرلمان، إلا أن التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر ما يزال يشكل ثقلًا سياسيًا هامًا في الشارع العراقي، وله تأثير كبير على جموع الشعب، من الشيعة والسنة بل وحتى الأكراد، حيث يعود صوت مقتدى الصدر في الظهور مع حدوث الأزمات الاقتصادية والسياسية الكبيرة.
يمكن تتبع أبرز المحطات والتحولات السياسية والحزبية، فضلًا عن المواقف المختلفة التي أثارت جدلًا واسعًا في الداخل العراقي، وذلك خلال الفترة الممتدة من عام 2024 وحتى الوقت الحالي، باعتبارها من أهم المراحل التي يشهدها العراق، ولا سيما فيما يتعلق بالمواقف المختلفة التي أعلنها كل من التيار الصدري والإطار التنسيقي، وفي المواقف التي تبين مدى هيمنة الإطار التنسيقي على العملية السياسية.
كان من أبرز هذه الصراعات التي أظهرت مدى سيطرة الإطار التنسيقي على العملية السياسية هو الصراع السني-السني الذي قام بين كل من حزب تقدّم بزعامة محمد الحلبوسي والأحزاب السنية الثلاثة، وهي العزم، الحسم الوطني، والسيادة، التي تحالفت فيما بينها مكونة حلف واحد، حول اختيار رئيس برلمان جديد خلفًا لمحمد الحلبوسي. وقد دخل الإطار التنسيقي على خط الأزمة السياسية بين الأحزاب السنية، وأعلن في 7 مايو 2024 منحها مهلة أسبوع واحد للتوصل إلى اتفاق بشأن انتخاب رئيس جديد. هذه الخطوة جاءت في سياق محاولات الإطار التنسيقي للضغط على القوى السياسية السنية لضمان توافق على قيادة المجلس بما يخدم استقرار العملية السياسية ويوازن القوى داخل البرلمان العراقي. ورغم أن هذه الأزمة امتدت حتى 31 أكتوبر 2024، مع انتخاب محمد المشهداني رئيسًا للبرلمان، إلا أنها عكست مدى التأثير الواسع للإطار التنسيقي على الأحزاب السنية.[27]
ثالثًا: موقف القوى السياسية العراقية من المشاركة في الانتخابات البرلمانية القادمة
نتيجة لسيطرة الإطار التنسيقي على العملية السياسية وهيمنته على مختلف القوى الحزبية، الشعية والكردية والسنية، وجدت بعض هذه القوى نفسها في حالة عبث سياسي شديد، وكان أبرزها التيار الصدري الذي اتخذ قرارًا شائكًا خلّف وراءه فوضى سياسية واسعة. فقد أعلن التيار الصدري مقاطعة الانتخابات البرلمانية المقبلة وعدم المشاركة فيها، في خطوة أثارت جدلًا واسعًا داخل العراق. وفي بيان صدر بتاريخ 4 يوليو 2025 بتوقيع “المقاطع مقتدى الصدر”، قال زعيم التيار الصدري: “مقاطعون.. فمن شاء فليقاطع، ومن شاء فليتخذ شهوة السلطة سبيلًا”. [28]وجدد الصدر تأكيده أنه لن يشارك في العملية الانتخابية ما لم تُحلّ الميليشيات المسلحة ويُسلَم “السلاح المنفلت”. يفتح هذا القرار الباب أمام العديد من الجدالات والتوترات، نظرًا لما يتمتع به التيار الصدري من شعبية واسعة في الشارع العراقي، إذ يُعد قوة سياسية مؤثرة لا يقتصر تأثيرها على الساحة الشيعية فحسب، بل يمتد تأثيرها إلى مجمل العملية السياسية. ومع غيابه عن الانتخابات المقبلة، يُطرح أمام أنصاره ومؤيديه، بل وحتى أمام القوى الأخرى المتحالفة معه والمؤيده له، تساؤلًا هامًا حول الخيارات المتاحة. ويتمحور هذا التساؤل حول مدى جدوى الانخراط في العملية الانتخابية ضمن شروطها القائمة، أو تبنّي خيار المقاطعة الشاملة باعتباره تعبيرًا عن موقف احتجاجي تجاه بنية النظام السياسي وآليات عمله. ومع ذلك، يرى عدد من المراقبين أن غياب التيار الصدري عن العملية السياسية لا يعني انكفاءه التام، بل قد يسعى إلى توظيف قنوات بديلة للتأثير، سواء عبر حراك قاعدته الاجتماعية أو من خلال رسائل سياسية غير مباشرة تهدف إلى توجيه الأصوات نحو قوائم محدّدة.[29] وفي هذا السياق، يشير مجموعة من الخبراء إلى أن التجربة السابقة، أي تجربة انتخابات 2021 وما بعدها، أثبتت أن المشهد السياسي العراقي في غياب التيار الصدري يعاني من فراغ ملحوظ، نظراً لكونه يمثل فاعلًا أساسيًا يمتلك قاعدة جماهيرية واسعة وثقلاً مؤثراً في التمثيل السياسي.[30]
وبالإضافة إلى مقاطعة التيار الصدري للانتخابات، هناك العديد من القوى الحزبية والسياسية الأخرى التي أعلنت أيضًا مقاطعتها للانتخابات البرلمانية المقبلة، مثل ائتلاف “النصر” بزعامة رئيس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي، ورئيس الوزراء العراقي الأسبق مصطفى الكاظمي، وحركة “وعي” بزعامة صلاح العرباوي، فضلًا عن عدد من القوى الفردية أو الصغيرة الأخرى وجميع هذه القوى رأوا في ذلك ضرورة، أي ضرورة مقاطعة الانتخابات، بسبب تفشي المال السياسي والفساد، كما رأوا أنه يجب نزع السلاح من الميليشيات وجعل الدولة هي المحتكرة الوحيدة له، وهو ما قوبل بالرفض التام من قبل الجماعات الشيعية المسلحة المنضوية تحت مظلة الإطار التنسيقي والحشد الشعبي.[31]
وعلى الجانب الآخر، يشهد الإطار التنسيقي حالة من التفكك والانقسام برزت بشكل واضح منذ مطلع عام 2025، وإن كانت جذورها ممتدة منذ سنوات هيمنته على العملية السياسية. فقد أعلن الإطار التنسيقي في إبريل 2025 عن عزمه خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة عبر عدة قوائم انتخابية، يُقدر عددها ما بين ست إلى سبعة قوائم، أي أن بعض قوى الإطار يريد الترشح بصورة شبه منفردة، أو منفردة بشكل كامل، بدلًا من الترشح في قائمة موحدة. ويُفسَر هذا التوجه من قبل البعض على أنه انعكاس لحالة الانقسام العميق بين قوى الإطار، يعكس ضعف القدرة على صياغة موقف موحد. وفي هذا السياق، أشار النائب عن تيار الحكمة، علي البنداوي، في تصريح صحفي، إلى أن قوى الإطار التنسيقي تعتزم خوض الانتخابات المقبلة عبر أكثر من قائمة انتخابية، وذلك بهدف تعظيم فرصها في الحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية. ووفقًا له، فإن هذه الاستراتيجية ستُمكن تلك القوى لاحقًا من بلورة تحالف سياسي واسع يتيح لها امتلاك الأغلبية البرلمانية اللازمة لتشكيل الحكومة بسهولة.[32]
وبالرغم من هذه التصريحات التي أدلى بها علي البنداوي، إلا أنه يمكن رصد بعض المظاهر التي تنم عن وجود انقسام فعلي بداخل الإطار. على سبيل المثال، تباين المواقف داخل قوى الإطار إزاء مسعى رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لتجديد ولايته لمرحلة ثانية، وهو ما مثل بدوره محورًأ للانقسام الداخلي. كما تُظهر حركة التحالفات الأخيرة داخل الإطار التنسيقي عمق الانقسام بين مكوناته؛ إذ سرعان ما تراجع محسن المندلاوي، النائب الأول لرئيس البرلمان، عن تقاربه مع نوري المالكي، زعيم ائتلاف دولة القانون، في مؤشر على هشاشة التحالفات. بالإضافة إلى أن هادي العامري، رئيس منظمة بدر، رغم إبدائه تقارباً مع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، فضل الانسحاب من تحالف كان من المقرر أن يجمعه مع فالح الفياض، رئيس هيئة الحشد الشعبي، وأحمد الأسدي، وزير العمل العراقي، الأمر الذي يعكس تباين المواقف وضعف القدرة على بلورة جبهة موحدة. غير أن التحالف الذي أعلنه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في 20 مايو 2025 تحت مسمّى “تحالف الإعمار والتنمية” أثار العديد من المواقف داخل البيت الشيعي، ويضم هذا التحالف سبعة كيانات سياسية وهم: “تيار الفراتين” بزعامة السوداني، و”تجمع بلاد سومر” برئاسة وزير العمل أحمد الأسدي، و”العقد الوطني” بقيادة رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، و”ائتلاف الوطنية” بزعامة إياد علاوي، و”تحالف إبداع كربلاء” برئاسة محافظ كربلاء نصيف الخطابي، و”تجمع أجيال” بزعامة النائب محمد الصيهود، و”تحالف حلول الوطني” بزعامة محمد صاحب الدراجي. ويرى عدد من الباحثين السياسيين أن “تحالف الإعمار والتنمية” الذي أطلقه السوداني يمنحه فرصة واقعية لحصد العديد من الأصوات في الانتخابات المقبلة، بحيث يضعه في موقع المنافسة المباشرة مع رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، بحكم شعبيته الواسعة وموقعه الهام في الإطار. وبهذا نجد أن الإطار التنسيقي انقسم إلى فريقين رئيسيين، الأول يقوده رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، ويمثل التيار المؤيد لفكرة دولة المؤسسات، حيث يتعاطى بإيجابية مع المتغيرات الإقليمية والدولية، ويسعى إلى إعادة تنظيم العلاقة مع إيران بشكل متوازن، أما الثاني فيقوده نوري المالكي، زعيم ائتلاف دولة القانون، إلى جانب قيس الخزعلي، زعيم عصائب أهل الحق، وعدد من قادة الفصائل المسلحة المنضوية في الإطار التنسيقي. ويُنظر إلى هذا الفريق باعتباره ما يزال يرفع شعارات “الممانعة والمقاومة”، ويجاهر بارتباطه الوثيق بإيران وسياساتها، كما يعمل على تكريس مفهوم “الدولة العميقة” في العراق، وفقًا لما يصفه عدد من المراقبين للشأن العراقي.[33] ووفق هذا الطرح، فإن المشهد الانتخابي الجديد لا يقتصر على التنافس على مقاعد البرلمان فحسب، بل يحمل في طياته تداعيات أعمق تتمثل في تفكيك حالة الوحدة النسبية التي ميّزت البيت الشيعي خلال الدورات الانتخابية السابقة. وتتوقع مصادر سياسية أن تؤدي هذه الانقسامات الحادثة داخل الإطار إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي، مع احتمال بروز تحالفات عابرة للطوائف، لكسر هيمنة المحاصصة، غير أن هذا الاحتمال ما يزال محل جدل ونقاش واسعين، ولا يمكن تأكيده في ظل غياب العديد من القوى السياسية عن الانتخابات المقبلة، واستمرار هيمنة “الإطار التنسيقي” على العملية السياسية والبرلمانية، حتى وإن انقسمت قوته في الوقت والحالي.
يُستنتج مما سبق أن الانقسامات الراهنة داخل قوى الإطار التنسيقي ليست ظاهرة جديدة، كما أن مظاهر تفكك الإطار في الوقت الحالي يتزامن مع ضغوطات وتحولات إقليمية ودولية متسارعة. تشمل هذه التحولات استمرار الحرب على غزة منذ أكتوبر 2023، وتراجع نفوذ حزب الله بفعل انخراطه في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وسقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، فضلًا عن تراجع النفوذ الإيراني نتيجة للحرب التي خاضتها طهران مع إسرائيل على مدى 12 يومًا في يونيو 2025. يضاف إلى ذلك التحولات الأوسع المرتبطة بالعلاقات الإيرانية–الإسرائيلية والضغوط الأمريكية والدولية على إيران، الأمر الذي أضعف من قدرة طهران، عبر أذرعها التقليدية ولا سيما الحرس الثوري، على لعب دور “الضابط” للعلاقات بين القوى الشيعية العراقية كما كان الحال في مراحل سابقة. وفي ضوء ذلك، يصبح من الضروري تناول تأثير هذه المتغيرات الإقليمية على الداخل العراقي بمزيد من التفصيل في الجزء التالي.
رابعًا: المتغيرات الإقليمية الراهنة وانعكاساتها على المشهد السياسي العراقي
في الآونة الأخيرة، شهدت المنطقة سلسلة من المتغيرات والتحولات الإقليمية المتسارعة التي بدأت مع اندلاع حرب السابع من أكتوبر 2023. قد أدت هذه الحرب المستمرة إلى إحداث تغييرات عميقة في المشهد الإقليمي، كان من أبرزها اندلاع الحرب بين حزب الله وإسرائيل، حيث ساند حزب الله حركة حماس وفصائل المقاومة في حربها مع إسرائيل منذ الأيام الأولى للحرب. ومع تصاعد وتيرة الصراع، تحولت المواجهة بين الجانبين إلى حرب مفتوحة، قُتل على إثرها الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصر الله والعديد من قيادات الحزب. وتطورت العمليات العسكرية بينهما سريعًا ووصلت إلى حد المواجهات العسكرية البرية. حيث شنت إسرائيل عملية عسكرية برية في جنوب لبنان في 1 أكتوبر 2024، انتهت بانعقاد اتفاقية وقف إطلاق نار بين طرفي الصراع في 27 نوفمبر من العام نفسه. ومع ذلك، ما زالت الهجمات الإسرائيلية مستمرة على مواقع حزب الله، وما زال الصراع محتدمًا بينهما. وقد أسفرت هذه الحرب عن إضعاف الحزب وتقويض قدراته بشكل كبير.[34]
أثرت الحرب الدائرة بين حزب الله وإسرائيل بدورها على الأطراف والدول الإقليمية الأخرى، التي رأت فيها فرصة لإحداث تغييرات جذرية في المنطقة، وكانت سوريا في مقدمتها. فقد استغلت فصائل المعارضة ضعف حزب الله وانشغال إيران في دعمه، إضافة إلى انشغال روسيا في حربها مع أوكرانيا، لتوجيه ضربات عسكرية قوية ضد قوات النظام السوري. حيث أطلقت قوات المعارضة بقيادة أحمد الشرع عملية عسكرية في 27 نوفمبر 2024 تحت اسم “ردع العدوان” ، والتي هدفت في بدايتها إلى إلحاق خسائر بالقوات النظامية ردًّا على استمرار قوات النظام وحلفائه في قصف مناطق سيطرة المعارضة في أرياف إدلب، ولكنها سرعان ما تحولت إلى عملية كبرى لإسقاط النظام، ونتجت عن هذه العملية سقوط نظام بشار الأسد، ذي الخلفية العلوية الشيعية، في 8 ديسمبر 2024. وقد أدى سقوط نظام بشار الأسد في سوريا إلى حدوث أزمة كبيرة لحزب الله، إذ أدى إلى تعطيل أحد أبرز ممراته اللوجستية والمالية. فقد كانت الأراضي السورية تمثل المسار الرئيسي لتدفق الأسلحة والتمويل الإيراني إلى لبنان، ومع انهيار النظام تراجعت قدرة الحزب على الحفاظ على خطوط إمداده التقليدية، ما انعكس سلباً على موقعه الإقليمي.[35]
وفي ظل هذه الأزمات الاستراتيجية والسياسية المتتالية التي تواجه القوى الموالية لإيران، جاءت الحرب الإسرائيلية-الإيرانية لتتوج هذا الصراع. ففي 13 يونيو 2025، شنت إسرائيل غارات جوية على مواقع قيادية حساسة داخل إيران، أسفرت عن مقتل عدد من العلماء النوويين والقيادات العسكرية البارزة، واستمرت الحرب نحو 12 يومًا، وانتهت بتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار دخل حيز التنفيذ في 24 يونيو 2025. أثرت هذه الحرب على قوة إيران ونفوذها في المنطقة، إذ أضعفت قدراتها بشكل كبير، الأمر الذي انعكس سلبًا على قدرتها على استيعاب القوى الموالية لها في المنطقة، وكان من أبرزها العراق.[36]
إذ تُعد العراق جزءًا رئيسيًا من محور المقاومة الشيعي الذي تدعمه إيران. ويُقصد بمحور المقاومة ذلك التحالف السياسي غير الرسمي الذي يضم إيران وعددًا من الفصائل المسلحة والحكومات الموالية لها، من بينها الحشد الشعبي في العراق، وحركة حماس في غزة، ونظام بشار الأسد في سوريا، وحركة أنصار الله (الحوثيون) في اليمن، إلى جانب فصائل وحركات أخرى موالية لإيران.[37] ويُعدّ الإطار التنسيقي من أبرز القوى الموالية لإيران داخل العراق، وهو ما جعله دائمًا موضعَ شكٍّ لدى القوى الوطنية العراقية الرافضة للتدخلات الخارجية. غير أن الحرب الأخيرة في لبنان وسقوط نظام الأسد في سوريا أثّرا بشكل ملحوظ على قدرة إيران في توظيف ما يُعرف بـ”محور المقاومة” كأداة ضغط إقليمية. ومن المتوقع أن ينعكس هذا التراجع على الإطار التنسيقي في العراق، الذي يُمثّل الامتداد السياسي الأبرز للمشروع الإيراني وجزءًا من “الهلال الشيعي” في الشرق الأوسط، الأمر الذي قد يؤدي إلى إضعاف تماسكه الداخلي وتصاعد حدة المنافسة بين أجنحته المختلفة.
ومن الملاحظ أن النظام الإيراني بشكل عام لم يعد قادرًا على ضمان وحدة أحزاب وقوى الإطار التنسيقي وذلك منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر 2023، حيث كشفت تلك الحرب عن حجم الانقسامات العميقة داخل الفصائل المسلحة وتعدد ولاءاتها بين المرجعية الدينية في النجف، وطهران، وحتى بعض المرجعيات الداخلية الصغيرة. وفي الوقت نفسه، تنامى الدور العراقي الداخلي في إعادة ترتيب “البيت الشيعي” وفق اعتبارات المصلحة الوطنية، بعيدًا عن الانتظار التقليدي للتوجيهات المباشرة من طهران. وعلى الرغم من بقاء إيران فاعلًا محوريًا في تشكيل المشهد السياسي العراقي، فإن قدرتها على ضبط إيقاع الساحة الشيعية لم تعد كما كانت، خاصة مع تنامي مشاعر السخط الشعبي تجاه التدخلات الخارجية.[38]
ويمكن ملاحظة هذا التراجع في مواقف أتباع قوى الإطار التنسيقي والحشد الشعبي، وفصائل المقاومة العراقية بشكل عام، من خلال تبني سياسة “النأي بالنفس” أثناء الهجمات الإسرائيلية على إيران وعلى قوى “محور المقاومة” الأخرى، حيث حرصت الحكومة العراقية على إظهار حيادها طوال أشهر الحرب بين إسرائيل وقوى المقاومة وإيران، واكتفت بتصريحاتها الداعمة للمقاومة. إذ حاولت الحكومة العراقية تجنب تكرار مشهد “سقوط النظام” كما حدث في سوريا. بالإضافة إلى ذلك، لم يتجاوز الدور العراقي في دعم إيران أثناء حربها الأخيرة سوى التحذير الصادر عن السيد علي السيستاني، المرجع الشيعي الأعلى في العراق، من استهداف أو اغتيال السيد علي خامنئي، المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وكذلك دعوة وزير الخارجية العراقي إلى اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب يوم 20 يونيو 2025 في إسطنبول بتركيا. كما أن الفصائل المسلحة العراقية أعلنت “استعدادها لحمل السلاح” إذا أقدمت الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل على اغتيال السيد علي الخامنئي. غير أن رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، اكتفى في بيان له يوم 25 يونيو 2025 بإدانة الهجمات الإسرائيلية على إيران، قائلًا: “ثبّتْنا موقف العراق بإدانة ورفض الاعتداء الإسرائيلي على إيران، وتعمده الإضرار بالأمن والسلم في المنطقة”. هذه المواقف تكشف عن تحولات في الداخل العراقي في غير صالح إيران، وتطرح العديد من التساؤلات حول الكيفية التي أدت إلى حدوث مثل هذه التحولات في المواقف العراقية، وكيفية فهم عملية تشكيل السياسة العراقية.[39]
تُقلص هذه المواقف من قدرة إيران على التأثير في المتغيرات السياسية الداخلية القادمة في العراق، فعلى الرغم من موالاة الإطار التنسيقي للجبهة الإيرانية، إلا أنه بات ينظر إلى الوضع الحالي من منظور المصلحة الداخلية، القائمة على مبدأ تقديم المصلحة الوطنية واتباع سياسة “النأي بالنفس” عن الصراعات الإقليمية القائمة. إذ يسعى الإطار في الوقت الراهن إلى كسب أكبر عدد ممكن من الأصوات إلى جانبه، ويستثمر في كل القضايا التي من شأنها أن تعزز من شرعيته وموقفه في الانتخابات المقبلة. على سبيل المثال، يحرص المتشددون الشيعة داخل الإطار التنسيقي وخارجه، منذ إسقاط نظام الأسد في ديسمبر 2024، على صناعة إجماع “وطني” عراقي بخصوص أحمد الشرع، المعروف سابقًا باسم “أبو محمد الجولاني”، من خلال توصيفه باعتباره إرهابيًا و”ذباحًا” أمعن في سفك دماء العراقيين، على حد قولهم، خصوصًا من الطائفة الشيعية. ويتم تقديم هذه التوصيفات ضده على أنها بديهيات لا تستحق نقاشًا أو برهنة، بالمنزلة نفسها التي يحتلها “أبو مصعب الزرقاوي” و”أبو بكر البغدادي” في التصنيف السياسي والشعبي العراقي. وهذا التصور يخدم الإطار التنسيقي في حملته الانتخابية الراهنة، إذ يحاول أن يظهر في صورة الممثل عن الشعب العراقي والمدافع عنه، والمحارب لكل القوى التي سعت إلى تهديد أمنه واستقراره.[40]
يمكن استنتاج أن قوى الإطار التنسيقي تحاول الآن بناء شرعيتها على أساس داخلي، بدلًا من الاعتماد على الدعم الخارجي الذي كان يمنحها شرعية وقوة تفضيلية مقارنةً بالقوى الداخلية الأخرى. إذ تعاني إيران حاليًا، حليفتها الأولى، من ضعف هيكلي واستراتيجي في مختلف أذرعها، ولا سيما في ذراعها العسكري الخارجي المتمثل في “الحرس الثوري”، الذي كان يضبط المعادلة الإقليمية لصالح محور المقاومة والهلال الشيعي، وهو ما لم يعد قادرًا عليه في الوقت الراهن. فضلًا عن إعادة تموضع القوات الأمريكية في الداخل العراقي سيعزز من إعادة إنتاج خطابات السيادة الوطنية، التي ستستغلها الأحزاب الحالية، والإطار التنسيقي في حملته القادمة.[41]
وختامًا، ما زال المشهد السياسي في العراق ضبابيًا إلى حد كبير، ولا يُتوقَّع أن تُسهم الانتخابات البرلمانية القادمة في إعادة تشكيله بهيئة جديدة. فالتداخل الشديد بين القوى الشيعية-الشيعية يكشف مدى فوضوية الوضع، إذ يواصل الإطار التنسيقي هيمنته على المشهد السياسي، ومع غياب قوى حقيقية منافسة للإطار وأحزابه الموالية، كالتيار الصدري الذي يُعد قوةً سياسيةً شيعيةً لا يُستهان بها وغيره من القوى الأخرى، يُتوقع أن الانتخابات البرلمانية القادمة ستتحول إلى ساحة تنافس داخلي بين قوى الإطار التنسيقي نفسها، الأمر الذي يضفي على المعركة الانتخابية طابعًا أحادي القطب، حيث تتنافس المكونات المنضوية تحت مظلة الإطار على قاعدة جماهيرية متشابهة وخطاب سياسي متقارب. ويُحتمل أن يؤدي هذا التنافس إلى تعميق الانقسامات الداخلية ويزيد من تعقيد المشهد السياسي المعقد في الأساس. ومع ذلك، يرى بعض المراقبين أن ما يمكن وصفه بـ”التشتت المنظَّم” الذي يحدث في داخل الإطار، المتمثّل في دخول الإطار الانتخابات بقوائم منفردة، قد يشكّل في جوهره مناورة سياسية محسوبة، تهدف إلى احتواء النزعات التنافسية بين القوى المكوِّنة للإطار، ومنح كل طرف فرصة لإبراز وزنه الانتخابي الحقيقي قبل العودة إلى طاولة التحالف بعد إعلان النتائج. غير أن هذا السيناريو لا يخلو من مخاطر، إذ تبقى تداعياته مفتوحة على احتمالات غير متوقعة، ولا سيما في حال تراجع نسب المشاركة الشعبية أو عجز بعض القوائم عن تجاوز العتبة الانتخابية.
ولكن قد تتيح المتغيرات الإقليمية الراهنة فرصة لبقية القوى الأخرى للصعود إلى السلطة، نتيجة لضعف الداعم الرئيسي للإطار، إيران، عن لعب أي دور فعّال في الداخل العراقي. غير أن هذا السيناريو لا يزال بعيد المنال، نظرًا لانكفاء القوى الأخرى على نفسها، بالإضافة إلى استمرار تمتع قوى الإطار التنسيقي بظهير شعبي كبير في العراق. ورغم أن إيران تعاني من ضعف هيكلي واستراتيجي نتيجة للحرب التي خاضتها والتي أثرت على قدرتها في اخضاع الأطراف الإقليمية واستخدام أذرعها العسكرية المختلفة لخدمتها، إلا أن هذا التراجع لا يتُوقع أن يؤثر على تراجع الإطار التنسيقي. وفي ظل ارتفاع الخطاب الطائفي الهجومي ضد المكوّن الشيعي الأكبر من قبل بعض ما يُسمّى بالزعامات السنية، بما يعكس نزعة تصعيدية قد تُستغل انتخابيًا، تجد القوى الشيعية نفسها مضطرة إلى تبنّي خطاب مضاد يقوم على تفكيك الاتهامات الموجهة إليها عبر الأرقام والإنجازات الملموسة، لا عبر الدخول في مشاحنات مباشرة. وفي هذا السياق، فإن بروز قوى سنية إقليمية جديدة مثل أحمد الشرع في سوريا، وما يحمله من رمزية سياسية وعسكرية، قد يشكّل عامل دفع للقوى السنية داخل العراق للمشاركة بشكل أكبر في الانتخابات المقبلة، مستندة إلى زخم خارجي يعزز ثقتها بنفسها.[42] ومع ذلك، يبقى هذا السيناريو بعيد المنال نتيجة سيطرة الإطار على العملية الانتخابية والسياسية، وهامشية القوى السنية أمام الإطار.
وعليه، يبقى سيناريو فوز الإطار التنسيقي بالانتخابات المقبلة هو الأكثر ترجيحًا، مع الإبقاء على احتمال ظهور انقسامات داخل مكوّناته بعد فوزة في الانتخابات، وهو ما ستكشفه التطورات السياسية في المرحلة اللاحقة، خصوصًا مع تزايد الضغوط الإقليمية والدولية، وتحوّل التوازنات الداخلية بين القوى الشيعية.
1 محمد عبدالزهرة محمد، “العراق : العرف السياسي أم الاحتكام الدستوري“، منصة كتابات، يونيو 2025. العراق : العرف السياسي أم الاحتكام الدستوري – كتابات
2 “مرشح واحد..ما نظام الدوائر الانتخابية المتعددة بالعراق؟”، سكاي نيوز، أكتوبر 2021. “مرشح واحد”.. ما نظام الدوائر الانتخابية المتعددة بالعراق؟ | سكاي نيوز عربية
[3] “Iraqi Parliament Passes Amendments to Election Law.” Xinhua News, March 27, 2023. https://english.news.cn/20230327/b1953df6963a480a842ee907cbc5c1be/c.html.
[4] Ibid.
[5] Mahmoud, Sinan. ““Iraqi Parliament Approves Amendments to Elections Law despite Objections.” The National, March 27, 2023. https://www.thenationalnews.com/mena/iraq/2023/03/27/iraqi-parliament-approves-amendments-to-elections-law-despite-objections/
[6] “Sunday’s Vote in Iraq Clouded by a Disillusioned Electorate.” Al Arabiya English, October 6, 2021. https://english.alarabiya.net/features/2021/10/06/Sunday-s-vote-in-Iraq-clouded-by-a-disillusioned-electorate.
7 عبدالله كمال، “استقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي بعد أيام من الاشتباكات الدامية“، SBS Arabic، نوفمبر 2019.
8 “الإطار التنسيقي الشيعي في العراق“، الجزيرة نت، أغسطس 2022. الإطار التنسيقي الشيعي في العراق | أخبار الموسوعة | الجزيرة نت
[9] “Political Feud in Baghdad: Al-Halbousi’s party accuses Al-Khanjar of conspiracy and mismanagement”, Shafaq News, 2024. Political Feud in Baghdad: Al-Halbousi’s party accuses Al-Khanjar of conspiracy and mismanagement – Shafaq News
See also: Nasrawi, Salah. “Where is the Iraqi Sunni strategic compass?”, ahramonline, May 2022. Where is the Iraqi Sunni strategic compass? – World – Al-Ahram Weekly – Ahram Online
[10] Hama, H. H. “Factionalism Within the Patriotic Union of Kurdistan”. Journal of Asian and African Studies, val.54, no.7, (2019): pp.1012-1032. https://doi.org/10.1177/0021909619854111
11 “بعد سقوط عشرات القتلى باحتجاجات العراق.. الصدر للسياسيين: استقيلوا قبل أن تقالوا“، الجزيرة نت، أكتوبر 2019. بعد سقوط عشرات القتلى باحتجاجات العراق.. الصدر للسياسيين: استقيلوا قبل أن تقالوا | أخبار سياسة | الجزيرة نت
[12] “Who is Mustafa al-Kadhimi, Iraq’s new prime minister?”, AL JAZEERA, May 2020. Who is Mustafa al-Kadhimi, Iraq’s new prime minister? | News | Al Jazeera
See also: Suadad al-Salhy, “REVEALED: The true story behind Kataeb Hezbollah and Kadhimi’s conflict”, Middle East Eye, August 2020. REVEALED: The true story behind Kataeb Hezbollah and Kadhimi’s conflict | Middle East Eye
13 إيليانا داغر، أحمد عبد الحكيم، “ نتائج الانتخابات تشعل معركة بين الصدر والأحزاب القريبة من إيران“، independent عربي، أكتوبر 2021. نتائج الانتخابات تشعل معركة بين الصدر والأحزاب القريبة من إيران | اندبندنت عربية
14 “نتائج الانتخابات العراقية النهائية تؤكد فوز الكتلة الصدرية“، الجزيرة نت، نوفمبر 2021. نتائج الانتخابات العراقية النهائية تؤكد فوز الكتلة الصدرية | أخبار سياسة | الجزيرة نت
15 “تفاهم الصدروالإطار التنسيقي على تشكيل لجان للتوافق على الحكومة العراقية“، الجزيرة نت، ديسمبر 2021. تفاهم الصدر والإطار التنسيقي على تشكيل لجان للتوافق على الحكومة العراقية | أخبار سياسة | الجزيرة نت
16 مثنى العبيدي، “انسحاب “التيار الصدري” في العراق “أداة ضغط” أم مناورة سياسية”؟“، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، يونيو 2022. Future Center – انسحاب “التيار الصدري” في العراق.. “أداة ضغط” أم “مناورة سياسية”؟
17 “الإطار التنسيقي الشيعي في العراق“، مرجع سبق ذكره.
[18] “الصدر يعلن انسحابه من العملية السياسية العراقية احتجاجا على الفساد“، الجزيرة نت، يونيو 2022. الصدر يعلن انسحابه من العملية السياسية العراقية احتجاجا على الفساد | أخبار سياسة | الجزيرة نت
[19] “Explainer: Iraq’s Coordination Framework and Its Rise to Power”, Shafaq News, September 2025. Explainer: Iraq’s Coordination Framework and Its Rise to Power – Shafaq News
[20] “بعد اقتحامه.. أنصار التيار الصدري يعلنون بدء اعتصام مفتوح داخل مقر البرلمان العراقي“، الجزيرة نت، يوليو 2022. بعد اقتحامه.. أنصار التيار الصدري يعلنون بدء اعتصام مفتوح داخل مقر البرلمان العراقي (فيديو) | الجزيرة مباشر
[21] “Timeline: What led to the fighting in Iraq’s capital Baghdad”, AL JAZEERA, Aug 2022. Timeline: What led to the fighting in Iraq’s capital Baghdad | Conflict News | Al Jazeera
[22] Ibid.
[23] Ibid.
[24] Ibid.
[25] Ibid.
[26] “رئيس العراق الجديد يكلف محمد السوداني بتشكيل الحكومة“، العربية، أكتوبر 2022. رئيس العراق الجديد يكلف محمد السوداني بتشكيل الحكومة
[27] حمزة مصطفى، “الإطار التنسيقي يمهل أحزاب السُّنة أسبوعاً لانتخاب رئيس البرلمان“، صحيفة الشرق الأوسط، مايو 2024. «الإطار التنسيقي» يمهل أحزاب السُّنة أسبوعاً لانتخاب رئيس البرلمان
[28] “الصدر يُجدد مقاطعته للانتخابات ويطالب بتسليم السلاح “المنفلت” وحل “الميليشيات““، منصة رووداو، يوليو 2025. الصدر يُجدد مقاطعته للانتخابات ويطالب بتسليم…| رووداو.نيت
[29] صفاء رشيد، “مقاطعة الصدر.. انسحاب تكتيكي أم عودة للشارع؟“، صحيفة العالم الجديد، سبتمبر 2025. مقاطعة الصدر.. انسحاب تكتيكي أم عودة للشارع؟ – Al-Aalem
[30] عصام العبيدي، “انتخابات بلا تيار صدري.. كيف يُعاد رسم الخريطة السياسية في العراق“، إرم NEWS، سبتمبر 2025. انتخابات بلا تيار صدري.. كيف يُعاد رسم الخريطة السياسية في العراق؟ | إرم نيوز
[31] يوسف العلي، “عقب انسحاب الصدر والكاظمي والعبادي.. ما مصير انتخابات العراق؟” صحيفة الاستقلال، 2025. عقب انسحاب الصدر والكاظمي والعبادي.. ما مصير انتخابات العراق؟ – صحيفة الاستقلال
[32] “وجوه جديدة وقوائم منفردة.. انفوبلس ترسم خارطة تحالفات الإطار التنسيقي قبيل موعد الانتخابات“، منصة انفوبلس، مايو 2025. وجوه جديدة وقوائم منفردة.. انفوبلس ترسم خارطة تحالفات الإطار التنسيقي قبيل موعد الانتخابات | إنفوبلاس
[33] سيف العبيدي، “هل يقترب السوداني من الولاية الثانية في ظل انقسام الإطار وغياب الصدر؟“، صحيفة الساعة، أبريل 2025. هل يقترب السوداني من الولاية الثانية في ظل انقسام الإطار وغياب الصدر؟
أنظر أيضًا: مؤيد الطرفي، “شياع السوداني يجهز قائمة “نارية” للانتخابات العراقية“، INDEPENDENT عربية، مايو 2025. شياع السوداني يجهز قائمة “نارية” للانتخابات العراقية | اندبندنت عربية
[34] “بدء سريان هدنة لمدة 60 يوما بين إسرائيل ولبنان بعد أشهر من التصعيد العسكري“، فرانس 24، نوفمبر 2024. بدء سريان هدنة لمدة 60 يوما بين إسرائيل ولبنان بعد أشهر من التصعيد العسكري
[35] “كيف سقط نظام الأسد في 10 أيام بعد صموده 13 عامًا؟“، CNN بالعربي، ديسمبر 2024. كيف سقط نظام الأسد في 10 أيام بعد صموده 13 عامًا؟ – CNN Arabic
[36]” أبرز النقاط حول وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل“، بي بي سي نيوز بالعربي، يونيو 2025. إيران وإسرائيل: تعرّف على تفاصيل اتفاق وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل – BBC News عربي
[37] محمد نادر العمري، “محور المقاومة.. النشأة والتطوّر ووحدة المصير“، منصة الميادين، 2021. محور المقاومة.. النشأة والتطوّر ووحدة المصير | الميادين
[38] عقيل عباس، ““الإطار التنسيقي” العراقي إزاء فشله السوري والإقليمي“، المجلة، يوليو 2025. الصدر يُجدد مقاطعته للانتخابات ويطالب بتسليم…| رووداو.نيت
[39] د.محمد السعيد إدريس، “محور المقاومة والاختبار المرير“، دورية الملف المصري، ع128، 2025، ص27-28.
[40] عقيل عباس، مرجع سبق ذكره، يوليو 2025.
[41] “إعادة انتشار القوات الأمريكية بالعراق.. ما هي تداعياتها على 5 عواصم بينها أربيل؟“، مؤسسة شفق للثقافة والاعلام، أغسطس 2025. إعادة انتشار القوات الأمريكية بالعراق.. ما هي تداعياتها على 5 عواصم بينها أربيل؟ – شفق نيوز
[42] أحمد السهيل، “العراق يستعد سياسيا لموسم الانتخابات بـ”سرديات طائفية““، INDEPENDENT عربية، يوليو 2025. العراق يستعد سياسيا لموسم الانتخابات بـ”سرديات طائفية” | اندبندنت عربية
باحث مساعد في النظم و النظرية السياسية بمركز ترو للدراسات والتدريب