يشهد قطاع غزة واحدة من أشدّ الأزمات الإنسانية في العصر الحديث، إذ تحوّلت المجاعة من تهديدٍ محتمل إلى واقعٍ مأساوي يهدّد حياة أكثر من 2.3 مليون فلسطيني. وهذه الكارثة ليست نتيجة لعوامل طبيعية، بل ثمرة حصارٍ شامل وسياسةٍ ممنهجة تستهدف مقوّمات الحياة الأساسية. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، فرضت إسرائيل حصارًا كاملًا قطعت فيه إمدادات الغذاء والماء والدواء والوقود، بينما استهدفت حملتها العسكرية البنية التحتية الحيوية بشكلٍ منهجي، بما في ذلك المزارع، مخازن الغذاء، شبكات المياه، المستشفيات وطرق النقل. وتشير التقارير الدولية إلى أنّ 93% من السكان يعانون من انعدامٍ حاد للأمن الغذائي، وأنّ أكثر من نصف مليون شخص يقفون على حافة المجاعة، بينما يعاني طفلٌ من بين كل أربعة أطفال من سوء التغذية الحاد.
وتتجلّى الفجوة الصارخة بين الادعاءات الإسرائيلية بـ”تسهيل المساعدات” والواقع الميداني، المتمثل في عرقلة وصول شاحنات الإغاثة، وإتلاف جزء من المساعدات أثناء عمليات التفتيش، وصفوف طويلة من المدنيين المنتظرين، ومنع إدخال الوقود اللازم لتشغيل المستشفيات والمطاحن، بل واستهداف المدنيين أثناء انتظارهم للحصول على الغذاء.
وتتفاقم هذه المأساة الإنسانية مع تدمير القطاع الصحي وانتشار الأمراض، إذ يسجّل الأطباء زيادة مروّعة في العيوب الخَلقية بين حديثي الولادة، مثل استسقاء الرأس والسنسنة المشقوقة، التي ترتبط علميًا بنقص حمض الفوليك أثناء الحمل بسبب سوء التغذية. وقد أجرى استشاري جراحة الأعصاب في مستشفى الشفاء بغزة، خلال أسبوعين فقط، عمليات لستة أطفال مصابين بهذه الحالات، غير أنّ نقص المعدات الطبية والمضادات الحيوية يجعل علاج هذه الحالات المستعصية شبه مستحيل. وتمثّل هذه المجاعة جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني، وتؤكّد أنّ مجاعات القرن الحادي والعشرين لم تعد نتيجةً لنقص الموارد، بل أصبحت أدوات قمع وسياسة عقاب جماعي تستهدف المدنيين العُزّل، في اختبار صارخ لضمير الإنسانية الجماعي.
ويسعى هذا المقال التحليلي إلى تفكيك الفجوة الصارخة بين الرواية الإسرائيلية الرسمية والواقع الملموس على الأرض، من خلال تقديم أدلة واضحة على وقوع المجاعة، وتحليل الآليات المعتمدة التي أدّت إلى هذه الحالة، وفضح الادعاءات الإسرائيلية التي تهدف إلى التمويه والتضليل وإطالة أمد المعاناة، وصولًا إلى هدفها الرئيس المتمثّل في تطبيق سياسة التهجير القسري للفلسطينيين.
أولاً: الإطار القانوني والسياق التاريخي للتجويع كأداة حرب.
1. مفهوم المجاعة في القانون الدولي ومعاير تصنيفها
تُعرَّف المجاعة بوجهٍ عام بأنّها حالة كارثية تتمثّل في انعدامٍ أو نقصٍ شديد في الموارد الغذائية اللازمة لتلبية احتياجات السكان، مما يؤدي إلى سوء تغذية حاد، وارتفاع معدلات الوفيات، وانتشار الأوبئة، واضطراب الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وتُعَدّ المجاعة من أخطر الأزمات الإنسانية التي قد تضرب أي منطقة في أي زمان، إذ لا تقتصر على مكان أو حقبة بعينها. وتتعدّد أسبابها ما بين اندلاع الحروب والنزاعات المسلحة، والكوارث الطبيعية كالجفاف والفيضانات، وفشل المواسم الزراعية، والانفجار السكاني، والفقر المدقع، إضافةً إلى السياسات الحكومية غير الرشيدة والأمراض. وخلال فترات المجاعة يواجه الناس جوعًا شديدًا يستنزف قواهم، وقد يقود في كثيرٍ من الأحيان إلى الموت.[1]
تُعرَّف المجاعة في القانون الدولي الإنساني بأنّها حالة يُحرَم فيها السكان المدنيون من الحصول على المواد الأساسية اللازمة لبقائهم على قيد الحياة كالطعام والماء والدواء سواء نتيجة كوارث طبيعية أو بسبب أفعال متعمّدة من أطراف النزاع. ويُعَدّ تجويع المدنيين أسلوبًا محظورًا من أساليب الحرب بموجب البروتوكول الإضافي الأول (المادة 54) والبروتوكول الإضافي الثاني (المادة 14) لاتفاقيات جنيف، كما نصّ نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على اعتباره جريمة حرب إذا استُخدم عمدًا كوسيلة لتحقيق مكاسب عسكرية أو سياسية.[2]
2. المعاير الدولية لتصنيف المجاعة
- التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)
يُعَدّ التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) أداةً عالمية أساسية لقياس مستويات انعدام الأمن الغذائي وتحليلها. وقد جرى تطويره عام 2004 من قِبل منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) خلال أزمة الصومال، ويُستخدم اليوم في أكثر من 40 دولة عبر وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية. ويضمّ النظام خبراء من 19 وكالة تابعة للأمم المتحدة، مثل منظمة الصحة العالمية واليونيسف، إضافةً إلى أربع دول مانحة، ويعتمد على جمع وتحليل بيانات ميدانية لتوجيه الاستجابات الإنسانية ووضع خطط التدخل. ويستند التصنيف إلى خمس مراحل يتم تحديدها بدقة لقياس شدة الأزمات الغذائية. من خلال ثلاثة مقايس رئيسية:
1. مؤشرات الأمن الغذائي: مثل نسبة السكان الذين يعانون من نقص استهلاك الغذاء، واستراتيجيات التكيف التي يلجأون إليها (مثل بيع الأصول الأساسية).
2. مؤشرات التغذية: مثل معدل انتشار سوء التغذية الحاد بين الأطفال.
3. مؤشرات الوفيات: مثل معدل الوفيات الخام.[3]
المراحل الخمس للتصنيف المرحلي المتكامل:
المرحلة الأولى – الحد الأدنى (Minimal):
تمكّن معظم السكان من تلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية دون اللجوء إلى استراتيجيات تكيّف غير معتادة. وتكون معدلات سوء التغذية منخفضة ومستقرة، وتمثّل هذه المرحلة حالة طبيعية ومستقرة.
المرحلة الثانية – تحت الضغط (Stressed):
تواجه الأسر عجزًا غذائيًا طفيفًا، لكنها ما زالت قادرة على تلبية احتياجاتها الغذائية الأساسية. غير أنّ ذلك يتم على حساب النفقات غير الغذائية الضرورية، مثل التعليم أو الرعاية الصحية. وتصبح هذه الأسر أكثر عرضة للتدهور في حال وقوع صدمات جديدة.
المرحلة الثالثة – أزمة (Crisis):
تظهر فجوات كبيرة أو معتدلة في استهلاك الغذاء، وتُضطر الأسر إلى استخدام استراتيجيات تكيّف قاسية، مثل بيع الماشية أو تقليل عدد الوجبات. وترتفع مستويات سوء التغذية الحاد، خصوصًا بين الفئات الأكثر ضعفًا. وفي هذه المرحلة يصبح التدخل الإنساني ضروريًا لمنع تدهور الوضع إلى مستوى أكثر خطورة.[4]
المرحلة الرابعة – طوارئ (Emergency):
تعاني الأسر من فجوات غذائية حادة جدًا، ويرتفع سوء التغذية والوفيات المرتبطة به بشكل ملحوظ. وتلجأ الأسر إلى استراتيجيات تكيف متطرفة مثل بيع آخر مصادر دخلها أو استهلاك البذور المخصصة للزراعة. الوضع في هذه المرحلة بالغ الخطورة ويستلزم تدخلًا عاجلًا لتجنب المجاعة.
المرحلة الخامسة – مجاعة كارثة إنسانية (Catastrophe Famine):
يحدث انهيار شامل في الأمن الغذائي والتغذية وسبل العيش. وتُعلن المجاعة رسميًا عند تحقق ثلاثة معايير:
- 20% على الأقل من الأسر تواجه فجوات استهلاك غذائية كارثية.
- أكثر من 30% من الأطفال يعانون من سوء تغذية حاد (هزال).
- معدل الوفيات اليومية يتجاوز حالتين لكل 10,000 شخص.
تُعَدّ المجاعة حالة نادرة الحدوث، وغالبًا ما تكون محدودة جغرافيًا أو مقتصرة على مجموعة سكانية معينة، لكنها تتطلّب استجابة عاجلة وواسعة النطاق من قِبل الوكالات الإنسانية.[5]
- الحصار كمقدمة للمجاعة: السياسات الإسرائيلية في استخدام التجويع والتقييد كسلاح تاريخي.
يعَدّ الحصار إحدى الأدوات الأكثر فاعلية وخطورة في تمهيد الطريق لحدوث المجاعة، إذ يُستخدم كوسيلة لعزل السكان ومنع وصول المواد الأساسية إليهم، مثل الغذاء والدواء والمياه والوقود. وعندما يُفرَض الحصار بشكل مطوّل أو شديد، فإنه يؤدّي إلى انهيار سُبُل العيش المحلية، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، واستنزاف الموارد الغذائية، مما يُجبر السكان على اتباع استراتيجيات بقاء قاسية، كخفض عدد الوجبات، أو استهلاك أطعمة غير صالحة، أو بيع الممتلكات لتأمين الغذاء.
ويُعَدّ الحصار في هذه الحالة أداةً للتجويع الممنهج، وقد يرتقي إلى مستوى جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية، خصوصًا إذا استُخدم عمدًا لتجويع السكان كوسيلة ضغط سياسي أو عسكري. وقد وُثِّقت في التاريخ الحديث العديد من الحالات التي تحوّل فيها الحصار إلى مدخل فعلي للمجاعة، مثل حصار الجيش الثالث المصري في حرب أكتوبر 1973، وحصار بيروت عام 1982، وحصار غزة المتكرّر منذ عام 2007، حيث أدّت القيود إلى نقص حاد في الغذاء والدواء والخدمات الأساسية، وخلقت أوضاعًا إنسانية كارثية.
السوابق التاريخية لإسرائيل لإستخدامها سياسة التجويع كأداة حرب .
- الجيش الثالث المصري (حرب أكتوبر 1973 — الحصار والإحاطة شرق القناة)
بعد عبور القوات المصرية لقناة السويس ونجاح الهجوم الأولي في الفترة من 6 إلى 14 أكتوبر 1973، شنّت القوات الإسرائيلية هجومًا مضادًا وأحرزت تقدّمًا على الضفة الغربية للقناة. وفي 23–24 أكتوبر 1973 تمكّنت من إحاطة قوات الجيش الثالث المتمركزة شرق القناة، وقطع خطوط الإمداد البرّي عنها..
وقد جعلت هذه الإحاطة وصول الإمدادات من طعام وماء ووقود وإمدادات غير عسكرية صعبًا للغاية. وأدّت الضغوط الدبلوماسية الأميركية، ولا سيما تدخّل وزير الخارجية هنري كيسنجر، إلى تفاهمات سمحت بإدخال إمدادات غير عسكرية محدودة، وذلك ضمن إطار اتفاقيات معيّنة وجهود لفرض وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى. وقد فصّلت الوثائق الدبلوماسية الأميركية المفاوضات والمطالب الإسرائيلية المتعلّقة بشروط العبور..[6]
يمكن أن يندرج الحصار الذي يقطع الإمدادات عن قوةٍ محاصَرة تحت استخدام التجويع كوسيلة عسكرية إذا استُخدم لإرغامها على الاستسلام أو للتسبّب في مقتل محميّين. غير أنّ تطبيق هذه القواعد يعتمد على التفاصيل، مثل ما إذا كان الهدف عسكريًا مشروعًا، ومدى استمرارية حرمان المدنيين أو المحميّين. وفي هذه الحالة، كانت الضغوط الدبلوماسية مكثّفة للحيلولة دون تدهور إنساني أكبر، كما وُضِعت ترتيبات للسماح بإدخال إمدادات غير عسكرية..[7]
- حصار بيروت (حرب لبنان 1982) والتأثير الغذائي والإنساني
استمر حصار بيروت من منتصف يونيو حتى أواخر أغسطس 1982 (نحو 6–8 أسابيع تبعًا للمراحل)، حين أحاطت القوات الإسرائيلية والمليشيات المتحالفة معها بغرب بيروت في محاولة لإخراج قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والضغط عليها. وقد شمل ذلك حصارًا برّيًا وبحريًا إلى جانب قصفٍ مكثّف للمدينة. وكانت النتيجة سقوط مئات إلى آلاف الضحايا المدنيين، وحدوث تهجير واسع، وصدور نداءات إنسانية متكرّرة.
أفضى الحصار إلى نقصٍ في الغذاء والدواء والماء في المناطق المحاصَرة لأسابيع، وأدّى إلى تدهور ظروف الصحة العامة، وصدور نداءات دولية لإدخال مساعدات إنسانية. وقد صنّفت وثائق أكاديمية وتحقيقات لاحقة هذا الأثر باعتباره أزمة إنسانية ناجمة عن سياسات الحصار وفرض قيود على وصول المساعدات.[8]
اعتبرت منظمات حقوقية (مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمات تحقيقية أكاديمية) أن حصارًا طويل الأمد الذي يقطع إمدادات أساسية يشكّل انتهاكًا لالتزامات حماية المدنيين بموجب القانون الدولي الإنساني إذا لم يُؤمن استثناءات إنسانية كافية، كما أدانت تقارير أن هجمات واسعة النطاق استهدفت مناطق مدنية.[9]
- حصار غزة منذ يونيو 2007 حتي الان
تشكل المجاعة في غزة حالة استثنائية بكل المقاييس، إذ تعود جذورها إلى الحصار الشامل الذي فرضته إسرائيل منذ يونيو 2007 بعد سيطرة حركة “حماس” على القطاع. وقد استمر هذا الحصار لأكثر من 16 عامًا، حيث جرى تقييد حركة الأفراد والبضائع وإغلاق معظم المعابر، ما جعل أكثر من نصف سكان القطاع يعانون من انعدامٍ مزمن في الأمن الغذائي حتى قبل اندلاع الحرب الأخيرة. ومع السابع من أكتوبر 2023، وبعد عملية “طوفان الأقصى”، فرضت إسرائيل حصارًا غير مسبوق على غزة شمل قطع الكهرباء والمياه والوقود، ومنع دخول الغذاء والدواء إلا بكميات ضئيلة للغاية. وقد عبّر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت عن ذلك بوضوح حين أعلن في 9 أكتوبر 2023: “لا كهرباء، لا طعام، لا ماء، لا وقود، كل شيء مغلق.” ومنذ تلك اللحظة بدأت سياسة التجويع تتحوّل إلى أداة مركزية في إدارة الحرب.
خلال شهري أكتوبر ونوفمبر 2023 بدأت ملامح الكارثة الإنسانية بالظهور، إذ أشارت تقارير برنامج الأغذية العالمي إلى أنّ نحو 90% من سكان غزة لم يكونوا يحصلون إلا على وجبة واحدة أو أقل يوميًا. وفي ديسمبر 2023 حذّرت الأمم المتحدة رسميًا من أنّ أكثر من نصف مليون إنسان يواجهون خطر المجاعة المباشر.
مع مرور الأشهر، تفاقمت الأزمة بوتيرة متسارعة، إذ صنّف التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) في مارس 2024 شمال غزة ضمن المرحلة الخامسة: المجاعة، مؤكّدًا أنّ مئات الآلاف يعيشون أيّامًا متتالية من دون غذاء كافٍ. وفي يونيو 2024 أعلنت منظمة الصحة العالمية عن وفاة عشرات الأطفال نتيجة سوء التغذية الحاد ونقص الحليب، في مؤشرٍ على دخول المجاعة حيّز التنفيذ الفعلي.
حلول أغسطس 2025 سجّلت منظمة الصحة العالمية 185 وفاة في شهر واحد فقط بسبب سوء التغذية والجفاف، وهو رقم صادم يعكس سرعة تفاقم الكارثة. ثم في 2 سبتمبر 2025 أعلنت الأمم المتحدة وصول عدد الوفيات المرتبطة مباشرة بالمجاعة إلى 317 حالة مؤكّدة، بينهم 83 طفلًا، وهو ما جعل مجاعة غزة الأسرع تفاقمًا في القرن الحادي والعشرين.
وتختلف مجاعة غزة جذريًا عن مثيلاتها في أماكن أخرى مثل الصومال أو اليمن، إذ لم تلعب الكوارث الطبيعية دورًا فيها، بل هي مجاعة بشرية الصنع بالكامل، تقع على مقربة من مخازن غذاء ممتلئة وفي أرض زراعية خصبة. وهنا تكمن فرادتها المأساوية: شعب يُحاصَر عمدًا ويُمنَع من الغذاء وهو على بُعد كيلومترات من وفرة غذائية تحيط به.[10]
ثانيا: الأدلة الملموسة والمؤشرات على المجاعة في غزة.
تشير الوقائع المستمرة إلى أنّ الحصار الإسرائيلي الشامل المفروض على قطاع غزة، والذي اشتدّ بشكل غير مسبوق بعد أحداث أكتوبر 2023، يُشكّل سياسة ممنهجة تهدف إلى تحويل القطاع إلى سجن مفتوح، حيث يُستخدم التجويع كسلاح حرب لدفع السكان نحو ما يُصوَّر على أنّه “هجرة طوعية”، بينما يمثّل في جوهره شكلًا من أشكال الإبادة الجماعية التي تندرج ضمن جرائم الحرب. ولا تقتصر الانتهاكات على الاستهداف الممنهج للمدنيين الذين يشكّلون نحو 83% من الضحايا، بل تمتد أيضًا إلى الحرمان المتعمّد للسكان من أساسيات المعيشة. ووفقًا لتقارير أممية حديثة، يواجه أكثر من نصف مليون شخص في غزة، بينهم أعداد كبيرة من الأطفال، مستويات كارثية من الجوع (المرحلة الخامسة)، تفوق في أسبابها مجاعات سابقة شهدها العالم، إذ إنّها ناجمة بشكل مباشر عن الحصار والإغلاق المتعمّد لا عن ظروف طبيعية.[11]
وتتصاعد الاتهامات الدولية لإسرائيل من منظمات حقوقية رائدة مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية باستخدامها التجويع كأداة حرب، في مشهد مأساوي تتكدّس فيه آلاف الشاحنات المحمّلة بالمساعدات الغذائية على الجانب المصري من معبر رفح، بينما تتعرّض محتوياتها للتلف بسبب المنع المتعمّد لإدخالها. وفي الوقت الذي يؤكد فيه مسؤولو الأمم المتحدة أنّ الوكالات الدولية، وعلى رأسها “الأونروا”، تمتلك القدرة والخبرة الكافية لتوزيع المساعدات بشكل منظّم، تُصرّ إسرائيل على إعاقة مرورها عبر المعابر، الأمر الذي يفاقم من سرعة تفشّي المجاعة ويدفع غزة نحو حافة الانهيار. ويشير خبراء القانون الدولي إلى أنّ التجويع كأسلوب حرب محظور بشكل صريح بموجب القانون الدولي الإنساني، ويُعَدّ جريمة جسيمة، خاصةً عندما يُمارَس ضد المدنيين، ما يجعل هذه الممارسات انتهاكًا صارخًا لكافة المواثيق والمعاهدات الدولية ذات الصلة.[12]
وقد تطورت هذه الأزمة الإنسانية بسرعة منذ اندلاع الحرب، إذ فرضت إسرائيل حصارًا شاملاً في 9 أكتوبر 2023، قطعت بموجبه التيار الكهربائي ومنعت دخول الوقود والغذاء، ما أدى إلى شحّ حاد في المواد الأساسية. وبعد أسبوعين من الحصار المشدّد، شهدت الأزمة منعطفًا أوليًا في 21 أكتوبر 2023، حين سمح الجانب الآخر بمرور شاحنات لفترة وجيزة، مما أتاح دخول أول 20 شاحنة مساعدات. ومع ذلك لم يستمر هذا التحسّن؛ إذ بقيت كميات المساعدات الداخلة غير كافية للغاية. وقد أكد جون كيربي، المتحدث باسم البيت الأبيض، في 26 أكتوبر 2023 أنّه لم تدخل سوى 74 شاحنة منذ 21 أكتوبر 2023.[13]
ووصلت المعاناة الإنسانية ذروتها في منتصف نوفمبر 2024، عندما توقفت المساعدات تمامًا يوم 14 نوفمبر بسبب نقص الوقود، وهو أول يوم لم تدخل فيه أي مساعدات منذ إعادة فتح المعبر. وتفاقمت الأزمة مع تحذيرات المفوّض العام للأونروا فيليب لازاريني يوم 16 نوفمبر 2024، من أنّ 70% من سكان جنوب غزة يعانون من انعدام الوصول إلى مياه نظيفة، وأن مياه الصرف الصحي الخام بدأت تتدفق في الشوارع، محذّرًا من خطر تعليق كامل للعملية الإنسانية إذا لم يُسمح بإدخال الوقود.
ترسم هذه التطوّرات المتسارعة صورةً قاتمة للوضع الإنساني في غزة، حيث أدّى الحصار الشامل ونقص الوقود وعدم كفاية المساعدات الداخلة إلى أزمة إنسانية متعدّدة الأبعاد تهدّد حياة الملايين من المدنيين العُزّل، في مشهد يستحضر أكبر الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.[14]
فيما يلي إشارة إلي أبرز وأهم التقارير التي توثق بالأدلة حدوث المجاعة:
- تقرير الأمم المتحدة عن المجاعة الصادر في 22 أغسطس2025
في 22 أغسطس 2025 أعلنت الأمم المتحدة رسميًا أنّ محافظة غزة دخلت مرحلة المجاعة وفق التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، وهو أول إعلان من نوعه في الشرق الأوسط. وأكدت التقارير أنّ أكثر من نصف مليون شخص يعيشون بالفعل في ظروف المجاعة، مع توقّعات بامتداد الكارثة خلال أسابيع إلى دير البلح وخانيونس، ليصل عدد المتأثّرين إلى نحو 640 ألف شخص مع نهاية سبتمبر، بالإضافة إلى نحو 1.14 مليون شخص يعانون من مستويات طوارئ غذائية حادّة.
وقال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: “إن ما يحدث في غزة ليس لغزًا، بل هو كارثة من صنع البشر تعكس فشل الإنسانية جمعاء.” وأوضح أنّ المجاعة لا ترتبط فقط بنقص الغذاء، وإنما تمثّل انهيارًا متعمّدًا للأنظمة الأساسية اللازمة للبقاء على قيد الحياة، مضيفًا: “الناس يتضورون جوعًا، والأطفال يموتون، بينما من تقع عليهم مسؤولية العمل يفشلون في أداء واجبهم. وباعتبارها القوة القائمة بالاحتلال، فإن على إسرائيل التزامات واضحة بموجب القانون الدولي، منها ضمان وصول الغذاء والدواء إلى السكان. ولا يمكن أن يُسمح باستمرار هذا الوضع بإفلات من العقاب.”ومن جانبه، أكد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك أن المجاعة المعلنة هي نتيجة مباشرة للأفعال الإسرائيلية. فقد دمّر الجيش الإسرائيلي البنية التحتية الحيوية، وجرف معظم الأراضي الزراعية، ومنع الصيد، وشرّد السكان قسرًا، ما أدى إلى تفاقم المجاعة. وأشار إلى أن التجويع كأسلوب من أساليب الحرب يُعد جريمة حرب، وأن الوفيات الناتجة عنه قد ترقى أيضًا إلى جريمة القتل العمد.
أما وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية توم فليتشر فقد وجّه مناشدة مباشرة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وإلى كل من يملك نفوذًا للتأثير، قائلاً: “كفى. أوقفوا إطلاق النار وافتحوا المعابر شمالًا وجنوبًا. دعونا ندخل الطعام والإمدادات بشكل واسع ودون عوائق. لقد فات الأوان بالنسبة للكثيرين، لكن لا يزال بالإمكان إنقاذ آخرين.” وشدّد في ختام بيانه على أنّ إسرائيل مطالَبة باتخاذ خطوات فورية لإنهاء المجاعة ومنع مزيد من الخسائر البشرية، والسماح بالدخول الكامل والآمن للمساعدات الإنسانية باعتباره السبيل الوحيد لتخفيف الكارثة.
وأشار التقرير الأممي بوضوح إلى أنّ الأطفال والنساء هم الأكثر تضررًا. ففي يوليو 2025 وحده، سُجّلت أكثر من 12 ألف حالة سوء تغذية حاد بين الأطفال، وهو أعلى رقم منذ اندلاع الحرب. كما يُتوقّع أن يقفز عدد الأطفال المهدّدين بخطر الموت جوعًا بحلول منتصف 2026 من 14 ألفًا إلى أكثر من 43 ألفًا، إلى جانب نحو 55 ألف امرأة حامل أو مرضعة معرّضات لمستويات خطيرة من سوء التغذية. وإلى جانب ذلك، ساهمت الأمراض ونقص المياه الصالحة للشرب وانهيار النظام الصحي وارتفاع أسعار الغذاء في تعميق الأزمة.
ورغم هذه التحذيرات، رفضت الحكومة الإسرائيلية توصيف الأمم المتحدة للوضع، ووصفت تقارير المجاعة بأنها “مبالغ فيها” أو “منحازة”. في المقابل، شددت الأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية على أن الحل يبدأ بـ وقف فوري لإطلاق النار وفتح ممرات إنسانية آمنة لضمان وصول الغذاء والدواء والوقود، وإعادة تشغيل الزراعة ودعم النظام الصحي، مؤكدة أن استمرار سياسة التجويع يرقى إلى جريمة حرب تستوجب المساءلة.
واختتم فليتشر بتشديده على أن السلطات الإسرائيلية مطالَبة باتخاذ خطوات فورية لإنهاء المجاعة في محافظة غزة ومنع مزيد من الخسائر البشرية في عموم القطاع. كما أكد على ضرورة أن تسمح إسرائيل بالدخول الفوري والكافي للمساعدات الإنسانية، وضمان وصول الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الأخرى بشكل كامل ودون قيود، باعتبار ذلك السبيل الوحيد لتخفيف المعاناة الإنسانية ومنع تفاقم الكارثة.[15]
- تقرير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف)
يشير البيان المشترك الصادر عن الفاو واليونيسف وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية إلى أنّ أكثر من نصف مليون شخص في غزة يعيشون فعليًا في ظروف مجاعة (المرحلة الخامسة IPC)، مع اتساع نطاقها من مدينة غزة إلى دير البلح وخان يونس، بينما يواجه أكثر من 1.14 مليون شخص حالة طوارئ غذائية (IPC4) ونحو 400 ألف آخرين في أزمة (IPC3). وقد تجاوزت جميع مؤشرات إعلان المجاعة ـ الحرمان الشديد من الغذاء، وسوء التغذية الحاد، والوفيات المرتبطة بالجوع ـ الحدود الحرجة، مما يجعلها أول مجاعة يتم تأكيدها رسميًا في الشرق الأوسط. ويصف التقرير وضعًا كارثيًا يتمثّل في أنّ 39% من السكان يقضون أيامًا دون طعام، وأنّ 98% من الأراضي الزراعية إمّا مدمّرة أو غير قابلة للوصول، فيما ارتفعت أسعار الغذاء بشكل هائل وسط ندرة النقد والوقود والمياه والدواء، إلى جانب انهيار شبه كامل في أنظمة الصحة والمياه والصرف الصحي.[16]
الوضع الإنساني يتدهور بسرعة غير مسبوقة؛ إذ سُجّل إصابة 12 ألف طفل بسوء التغذية الحاد في شهر واحد فقط، أي بزيادة تُقدَّر بستة أضعاف منذ بداية العام، فيما يواجه عشرات الآلاف من الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات خطر الموت أو الولادة المبكرة والضعف الشديد. ومع نزوح تسعة من كل عشرة أشخاص من منازلهم، ونهب المساعدات، وصعوبة وصول القوافل الإنسانية، يعاني المدنيون – وخصوصًا الأطفال وكبار السن وذوو الإعاقة – من انعدام أي وسيلة للبقاء. وأكّدت الوكالات الأممية أنّ وقف إطلاق النار الفوري وضمان وصول المساعدات الإنسانية على نطاق واسع يُعَدّ السبيل الوحيد لتجنّب تفاقم الكارثة، داعيةً إلى استعادة التدفقات التجارية، ودعم الإنتاج المحلي، وإنعاش النظام الصحي قبل أن يحصد الجوع والمرض المزيد من الأرواح.[17]
وأكّدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) تعرّض غذاءٍ علاجي مخصّص للأطفال للسرقة على يد مسلّحين خارج مقرّها في مدينة غزة، وحثّت جميع الأطراف في غزة على احترام وحماية المساعدات الإنسانية والالتزام بالقانون الدولي الإنساني.[18]
- تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)
وأكّد التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، الهيئة الدولية المعنية برصد شدة انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية، أنّ ثلاثة من مؤشرات المجاعة الأساسية قد تحقّقت بالفعل في غزة، وهو ما يمثّل تصعيدًا خطيرًا للأزمة. ومنذ تأسيسه عام 2004، لم يُعلن التصنيف سوى عن أربع مجاعات فقط، كان آخرها في السودان العام الماضي.
ويؤكّد التقرير أنّ هذه المجاعة “قابلة للإيقاف والعكس”، لكنه يحذّر في الوقت نفسه من أنّ أي تأخير ـ ولو لبضعة أيام ـ سيؤدي إلى قفزة غير مقبولة في أعداد الوفيات، خصوصًا بين الأطفال والنساء وكبار السن الذين يشكّلون الفئات الأكثر هشاشة. ويشدّد التقرير على أنّ الحل العاجل يتمثّل في وقفٍ فوري لإطلاق النار يتيح وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع أنحاء قطاع غزة دون قيود أو عوائق، وضمان تدفّق مستمر للإمدادات الغذائية الأساسية والوقود، إلى جانب إعادة تشغيل الخدمات الحيوية المرتبطة بالصحة والتغذية والمياه والصرف الصحي.
كما يلفت التقرير إلى أنّ استمرار الانهيار الحالي سيضاعف الأعباء الإنسانية بشكلٍ يتعذّر احتواؤه، محذّرًا من أنّ الثمن الإنساني لهذه الأزمة سيتجاوز بكثير قدرة المجتمع الدولي على الاستجابة إذا لم يتم التحرّك الفوري والواسع النطاق لإنقاذ الأرواح ووقف تفاقم الكارثة.[19]
- تقرير جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني عن المجاعة في غزة
تفاقمت حدّة الجوع وسوء التغذية بين مختلف فئات المجتمع في قطاع غزة نتيجة سياسة التجويع الممنهجة التي تمارسها سلطات الاحتلال، وهو ما أدّى إلى ارتفاع مستمر في حالات الوفاة يومًا بعد يوم. ووفقًا لتقارير منظمة الصحة العالمية، سُجّلت 185 حالة وفاة خلال شهر أغسطس 2025 بسبب سوء التغذية. وفي السياق ذاته، تتواصل أزمة شحّ المياه، سواء للاستخدام اليومي أو للشرب، في جميع محافظات القطاع، ولا سيما في محافظة غزة، جراء التدمير الواسع الذي ألحقه الاحتلال بالبنية التحتية وشبكات المياه.
كما أسهمت سياسة التهجير القسري التي يفرضها الاحتلال على السكان في مناطق متعددة في زيادة الازدحام السكاني وتفشّي الأمراض المعدية، مما فاقم حجم التحديات الإنسانية والصحية التي يواجهها المدنيون. وإلى جانب ذلك، فإن المعونات التي تُسقَط من الجو لم تُسهم في التخفيف من الأزمة، بل شكّلت خطرًا مباشرًا على حياة المواطنين، إذ تسبّبت في سقوط شهداء وجرحى. كما أنّ هذه الطريقة لا تتوافق مع المبادئ الإنسانية، إذ يفتقر توزيعها إلى العدالة ويستبعد الفئات الأشد ضعفًا واحتياجًا، فضلًا عن عدم قدرتها على تلبية الاحتياجات الإنسانية الهائلة داخل القطاع.[20]
- تقرير منظمة الصحة العالمية عن المجاعة
أعربت وكالات الأمم المتحدة الأربع المعنية بالغذاء والصحة والطفولة، وهي: الفاو، واليونيسف، وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الصحة العالمية، عن قلقها العميق إزاء تزايد الوفيات المرتبطة بالجوع وتفاقم سوء التغذية الحاد في قطاع غزة. وأكّدت هذه الوكالات أنّ الاستجابة الإنسانية العاجلة باتت ضرورة قصوى، في ظل انخفاض استهلاك الغذاء ووصول مئات الآلاف إلى مرحلة الجوع الشديد، مشدّدةً على أنّ وقف إطلاق النار الفوري وإنهاء الصراع يمثّلان شرطًا أساسيًا لإنقاذ الأرواح وتسهيل وصول المساعدات دون عوائق.
وبحسب أحدث التقديرات، سيواجه أكثر من 640 ألف شخص في غزة مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي (المرحلة الخامسة – المجاعة) بحلول نهاية سبتمبر، فيما سيكون 1.14 مليون شخص في المرحلة الرابعة (الطوارئ)، ونحو 396 ألفًا في المرحلة الثالثة (الأزمة). وتُظهر المؤشرات أنّ شمال غزة يعيش أوضاعًا أشد خطورة من مدينة غزة، في حين تعذّر إجراء تقييم كامل في رفح التي باتت شبه مهجورة. ويُبيّن التحليل الميداني أنّ عتبات المجاعة الثلاث ـ الجوع الشديد، وسوء التغذية الحاد، والوفيات المرتبطة بنقص الغذاء ـ قد تم تجاوزها بالفعل.
ويأتي ذلك بعد ما يقارب عامين من النزاع، والتهجير المتكرّر، والقيود المشدّدة على دخول المساعدات، إلى جانب انهيار النظام الصحي وخدمات المياه والصرف الصحي، وتضرّر قطاعات الغذاء والزراعة. ووفقًا للمسوحات الأخيرة، تضاعف عدد الأسر التي تعاني جوعًا شديدًا جدًا بين مايو ويوليو، بل زاد بأكثر من ثلاثة أضعاف في مدينة غزة. كما أفاد نحو 39% من السكان بأنهم يمضون أيامًا دون طعام، في حين يضطر الكثير من البالغين إلى التضحية بوجباتهم لإطعام أطفالهم.[21]
ثالثا: آليات خلق المجاعة- كيف تنفيذ إسرائيل سياسة المجاعة علي الأرض غزة
تبع إسرائيل في غزة سياسة تجويع ممنهجة ومركّبة، تقوم على جملة من الآليات والإجراءات العملية التي تُفضي إلى خلق المجاعة وتحويلها إلى أداة حرب. ويمكن تلخيص هذه الآليات في الآتي:
1– الحصار والسيطرة على المعابر وقيود دخول المساعدات
فرض سيطرة صارمة على المعابر عبر تقليص كميات الشاحنات المسموح بدخولها، وإغلاق المعابر بشكل متكرّر، وفرض شروط على محتوى القوافل، وأحيانًا إغلاق كامل للواردات الغذائية أو الوقود. وقد أدّى ذلك إلى نقص حاد في المواد الغذائية والوقود، مما تسبّب في توقّف المخابز وتعطّل أنظمة التبريد. وتشير تقارير الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة إلى هذه الانتهاكات، موثّقةً إغلاق المعابر وإعاقة مرور القوافل، ومؤكدةً أن الإمدادات التي سُمح بدخولها لا تكفي لتلبية الاحتياجات الأساسية.[22]
يُشكّل قرار السلطات الإسرائيلية إغلاق معابر قطاع غزة، وفي مقدّمتها معبر كرم أبو سالم التجاري ـ الذي يُعدّ المنفذ الوحيد المخصّص لإدخال شاحنات المساعدات الإنسانية والبضائع التجارية ـ تحوّلًا خطيرًا في مسار الأزمة الإنسانية المستمرة. ويؤثر هذا القرار بشكل مباشر على نحو 2.4 مليون فلسطيني في القطاع، الذين لم يتمكّنوا بعد من التعافي من تداعيات حرب مدمّرة استمرّت خمسة عشر شهرًا وألحقت أضرارًا جسيمة بالبنية التحتية والأنظمة المعيشية الأساسية.
لقد أفضى وقف تدفّق المساعدات إلى تداعيات فورية على الحياة اليومية للسكان. فمن الناحية الاجتماعية والنفسية، عزّز القرار حالةً من الشك وعدم اليقين بشأن إمكانية استقرار وقف إطلاق النار، كما أعاد إلى الأذهان مخاوف جدّية من احتمال استئناف العمليات العسكرية. أمّا اقتصاديًا، فقد انعكس الإغلاق على الأسواق المحلية، حيث تلاشت العديد من السلع الأساسية، مما فاقم حالة انعدام الأمن الغذائي التي يعاني منها السكان أصلًا.[23]
في هذا الإطار، تُشير منظمة “أطباء بلا حدود” إلى أنّ إسرائيل توظّف المساعدات الإنسانية كأداة ضمن استراتيجياتها الحربية، من خلال تعطيل وصولها واستخدامها كوسيلة ضغط ومساومة. وتؤكّد المنظمة أنّ مثل هذه الممارسات تُعدّ غير مقبولة وصادمة من منظور القانون الدولي الإنساني، لما تخلّفه من عواقب إنسانية مدمّرة.[24]
2- تدمير أو تقييد البنية التحتية للغذاء (مخابز، مخازن، مصانع أعلاف)
استهدفت الهجمات الأفران والمخابز ومستودعات الحبوب ومنشآت الأغذية، أو منعت وصول الوقود إليها، مما أدّى إلى تعطّل عمليات طحن الطحين، وتوقّف إنتاج الخبز الصناعي، وفساد المخزونات بسبب فقدان التبريد. وقد تبيّن ذلك من خلال التقارير الميدانية التي أشارت إلى تضرّر نسبة كبيرة من الأفران والمرافق الغذائية، إضافةً إلى عدم توفّر الوقود اللازم لتشغيلها (استنادًا إلى أنشطة ميدانية وتقارير منشورة).[25]
3- تدمير وإلحاق الضرر بالأراضي والزراعة والثروة الحيوانية
تجريف الأراضي، قصف المحاصيل، إتلاف البيوت البلاستيكية والمواشي، ومنع المزارعين من الوصول إلى أراضيهم. ونتيجة ذلك، فقدان قدرات الإنتاج المحلي، تقلّص مساحة الأرض الصالحة للزراعة إلى نسب ضئيلة، وانعدام المحاصيل الطازجة. الدليل على ذلك، تقرير منظمة الفاو الذي يذكر أن أكثر من 80% من المساحات المزروعة تضررت أو أصبحت غير قابلة للوصول..[26]
4- منع دخول الوقود وتعطيل الكهرباء والمياه
يُعد منع دخول الوقود وتعطيل إمدادات الكهرباء والمياه والتبريد من أبرز الأدوات التي تُسهم في تعميق الأزمة الإنسانية في غزة. فإسرائيل تلجأ إلى فرض قيود صارمة على إدخال الوقود، فضلًا عن استهداف محطات الكهرباء ومحطات تحلية المياه وإعاقة أعمال الصيانة لشبكات المياه. وقد ترتب على ذلك توقف محطات التحلية والتبريد والتخزين، وتلوث مصادر مياه الشرب، وارتفاع معدلات الأمراض المرتبطة بالمياه، إضافة إلى فساد المواد الغذائية نتيجة غياب التبريد. وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية (WHO) ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF) إلى أن أكثر من 90% من سكان القطاع يفتقرون إلى مياه صالحة للشرب، ويعتمدون بشكل متزايد على شاحنات التزويد، وهو ما يرتبط مباشرة بتفاقم سوء التغذية وارتفاع معدلات الوفيات.[27]
ولا يقتصر توظيف المياه كأداة على السياق الحالي فحسب، بل يمتد بجذوره إلى تاريخ طويل من السيطرة على الموارد المائية في فلسطين. فمنذ ما قبل النكبة، كانت السيطرة على الأرض مشروطة بالتحكم في مصادر المياه الجوفية والسطحية معًا. وقد سعت المجتمعات الاستيطانية النائية إلى ضمان وصولها إلى هذه الموارد لتلبية احتياجاتها الزراعية، الأمر الذي مكنها من تثبيت وجودها واستقطاب مزيد من المستوطنين، وبالتالي التوسع في الاستيطان.
هذا التوظيف الاستراتيجي للمياه أتاح لإسرائيل تعزيز أبعاد قوتها الثلاثة: السيطرة على الأرض، والتحكم في الموارد الحيوية، وضمان التفوق الزراعي والاقتصادي. ونتيجة لذلك، تطور استخدام المياه في الزراعة والري على الجانب الإسرائيلي بوتيرة أسرع بكثير مقارنة بالاستخدام الفلسطيني، ما عمّق الفجوة المائية والغذائية بين الطرفين، ورسّخ تبعية الفلسطينيين للموارد التي يسيطر عليها الاحتلال.[28]
رابعا: زيف الادعاءات الإسرائيلية .
الادعاء الأول: إسرائيل تسمح بدخول مساعدات كافية؛ المشكلة هي سرقتها أو تحويلها من طرف حماس.
الحقيقة: تُظهر البيانات الأممية أن كميات المساعدات التي سُمح بدخولها إلى غزة تبقى أقل بكثير من حجم الاحتياجات الفعلية، إذ يُقدَّر المطلوب شهريًا بحوالي 62,000 طن، بينما لم يدخل سوى بضعة آلاف من الأطنان في فترات متفرقة. وحتى هذه الكميات المحدودة لم تصل بكاملها إلى وجهتها النهائية، إذ تعرّض جزء كبير منها للنهب على طول الطرق قبل أن تبلغ المخازن المخصصة للتوزيع.
ولا يبرّر ذلك الادعاء بأن المدخلات كافية أو أن سبب النقص يعود فقط إلى التحويل الداخلي، إذ إن الواقع يبيّن أن المدنيين الذين حاولوا الوصول إلى الشحنات عانوا من مخاطر مباشرة، حيث قُتل وجُرح العديد منهم بالقرب من نقاط التوزيع. كما وثّقت تقارير متعددة حالات إطلاق نار من القوات المتمركزة عند هذه النقاط، وهو ما يؤكد أن الوجود المسلح وغياب التنظيم الآمن يعرقلان بشكل مباشر وصول المساعدات.
وتقع المسؤولية القانونية والإنسانية على الجهة المسيطرة على المعابر والطرق لتأمين وصول هذه الشحنات إلى المخازن وضمان توزيعها بشكل منظم. ومع ذلك، استمرت التقارير في توثيق وقوع ضحايا بين المدنيين الذين حاولوا الاقتراب من قوافل المساعدات قرب الحواجز التي يديرها الجيش الإسرائيلي. ووفقًا لوزارة الصحة في غزة، فقد سُجِّل بين 27 مايو و4 أغسطس سقوط ما لا يقل عن 1,516 قتيلًا وأكثر من 10,000 جريح نتيجة محاولاتهم الوصول إلى المواد الغذائية، ما يبرز حجم المأساة الإنسانية الناجمة عن القيود المفروضة.[29]
الادعاء الثاني: القيود على الوقود والكهرباء والمياه إجراءات أمنية مشروعة لردع تهريب أسلحة،حماية الأمن.
الحقيقة: إن تعطيل دخول الوقود وإمدادات الكهرباء واستهداف محطات التحلية لم يؤدِّ فقط إلى شلل المرافق الحيوية، بل تسبب أيضًا في انهيار سلاسل التبريد والقطاع الطبي، وزيادة مخاطر تفشي الأمراض وسوء التغذية. وتشير تقارير صادرة عن منظمة الصحة العالمية (WHO) واليونيسف (UNICEF) ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) إلى أن أكثر من 90% من سكان غزة يفتقرون إلى مياه شرب آمنة، في حين توقفت أو تضررت معظم المرافق الأساسية. وهذه النتائج ليست مجرد آثار جانبية للعمليات العسكرية، بل انعكاس مباشر للقيود المستمرة المفروضة على القطاع.
ومن الناحية القانونية، فإن تبرير هذه السياسات تحت ذريعة “الإجراءات الأمنية” يفتقر إلى المشروعية، إذ لا يمكن بأي حال تبرير حرمان أكثر من مليوني مدني من خدمات أساسية للحياة. فالقانون الدولي الإنساني يُلزم أطراف النزاع بالتمييز الواضح بين الأهداف العسكرية والسكان المدنيين، كما يحظر اتخاذ تدابير تؤدي إلى تجويع المدنيين أو تدمير مقومات معيشتهم. إن تقليص إمدادات الوقود والطاقة ينعكس مباشرة على عمل المستشفيات ومحطات المياه وخزانات الأغذية، وهي آثار موثقة بوضوح في التقارير الأممية، وتؤكد أن النتائج كارثية وليست عرضية.[30]
الادعاء الثالث : حالات المجاعة ناجمة أساسًا عن ظروف قتالية معقدة أوفشل إداري داخلي؛ ليست نتيجة سياسة متعمدة.
الحقيقة: يُوضّح تصنيف IPC والتنبيهات الميدانية أن معايير العتبات، مثل مؤشرات استهلاك الغذاء ومعدلات سوء التغذية الحاد، قد تحققت، وأن ذلك ناتج عن تراكم إجراءات مقصودة تشمل: إغلاق المعابر، منع الوقود، استهداف البُنى الإنتاجية، وعرقلة التوزيع الإنساني. عندما تُقيَّد دخول المواد الغذائية والوقود بصورة منهجية وتُدمَّر مرافق التخزين والتموين، لا يصبح السبب فشلًا إداريًا فحسب، بل سياسات ممنهجة متسببة بنتائج كارثية.[31]
منظمات حقوقية وثّقت شهادات تُظهر أن تعطيل الإمدادات ونمط توزيع مُسَلَّح تُشير إلى استخدام التجويع كأداة أو نتيجة متوقعة ومقبولة من قِبل الجهة المانعة، وليس مجرد ظرف طارئ.[32]
الادعاء الرابع: التقارير التي تتهم إسرائيل بتعمد التجويع مبالغ فيها أو سياسية.
الحقيقة: تقارير IPC وWHO وOCHA وUNRWA ووكالات أممية طبية لا تُصدِر أحكامًا سياسية فحسب، بل تقدّم بيانات قياسية تشمل مؤشرات استهلاك الغذاء، ونسب سوء التغذية الحاد (GAM، SAM)، وأرقام الوفيات والإصابات عند نقاط التوزيع، وكميات الدخول الفعلية مقارنة بالمطلوبة. وهذه بيانات كمية يمكن التحقق منها ميدانيًا وتصويريًا، وليست مجرد حجج سياسية. إضافة إلى ذلك، جمعت منظمات حقوقية بارزة مثل Amnesty وHRW شهادات ناجين، وصورًا، ومقاطع فيديو تُظهر طوابير جائعة تُقابل إطلاق نارًا أو إغلاقات أو سرقات على طرق القوافل. ويُعد وجود أدلة ميدانية متعددة المصادر عاملاً يقلّل من حجية دعوى التهويل السياسي.[33]
خامسا: الدور المصري في إيصال المساعدات إلى غزة ومعوقات الاحتلال الإسرائيلي.
منذ بداية الحرب والحصار المفروض على قطاع غزة، اضطلعت مصر بدور محوري في الجهود الإغاثية، حيث شكّل معبر رفح البري المنفذ الأساسي لإدخال المساعدات الإنسانية. وقد تحوّل هذا المعبر إلى شريان حياة وحيد لأكثر من مليوني فلسطيني، في ظل إغلاق بقية المعابر التجارية والخدمية.
تساهم عدة منظمات مجتمع مدني مصرية في تقديم مساعدات إنسانية وتنموية، من بينها برنامج حياة كريمة، والتحالف الأهلي للعمل التنموي، إلا أن أبرز هذه المنظمات وأكثرها تأثيرًا يظل الهلال الأحمر، وبنك الطعام المصري.
- مؤسسات المصرية المشاركة
بنك الطعام المصري (Egyptian Food Bank) من بين الجهات الفاعلة الأساسية، حيث يقدم مساعدات غذائية ومياه لقطاع غزة عبر شاحنات، ويقوم بتسيير قوافل إغاثية تضم مواد غذائية أساسية مثل الأرز والدقيق والزيوت والسكر، إضافة إلى مياه الشرب المعبأة وأطقم النظافة.
الهلال الأحمر المصري الذي تولّى تنسيق دخول الشحنات وإدارة عمليات النقل والتوزيع داخل غزة عبر التنسيق مع وكالة الأونروا والجهات الأممية
- الطرق الحدودية المستخدمة والمساعدات
يُعد معبر رفح المعبر البري الأساسي الذي تستخدمه مصر لإدخال المساعدات إلى القطاع، إلا أن هناك تأخيرات وتقييدات كبيرة. وتُستخدم المعابر الأخرى مثل كرم أبو سالم أيضًا، لكن تحت رقابة إسرائيلية مشددة. كما نظّمت مصر مستشفياتها الحدودية في العريش لاستقبال الجرحى الفلسطينيين وتقديم العلاج العاجل لهم.
إلى جانب ذلك، لعبت مصر دورًا دبلوماسيًا في التنسيق مع الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لضمان إدخال أكبر قدر ممكن من المساعدات، في ظل القيود الإسرائيلية المفروضة على نوعية وكميات الشحنات. غير أن هذه الجهود كثيرًا ما اصطدمت بعراقيل إسرائيلية، تمثلت في تأخير مرور الشاحنات لأسابيع، أو رفض دخول مواد تُصنّف ضمن قائمة الاستخدام المزدوج، مثل محركات المياه أو قطع الغيار الطبية.[34]
وشدد الرئيس السيسي، في كلمة متلفزة يوم الإثنين 28-7-2025 حول الأوضاع في غزة، على حرص مصر على إدخال أكبر قدر من المساعدات الإنسانية إلى الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، مؤكداً أنه “لا يمكن أن نقوم بأي دور سلبي ضد أشقائنا الفلسطينيين، ودورنا محترم وشريف، ولم ولن يتغير. نحرص على إيجاد حلول للأزمة الحالية ووقف الحرب وتخفيف التوتر في المنطقة”.
وأضاف: “نعمل على إدخال أكبر قدر من المساعدات، ونسعى لإيقاف الحرب وإطلاق سراح الرهائن، وتحقيق فكرة حل الدولتين”. واصفًا الوضع داخل قطاع غزة بالمأساوي ولا يُطاق، مشدداً على ضرورة إدخال أكبر حجم من المساعدات لتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني، إذ يحتاج القطاع ما بين 600 إلى 700 شاحنة يوميًا في الظروف العادية.
وتابع: “إن مصر حرصت منذ أحداث السابع من أكتوبر على المشاركة بصورة إيجابية مع شركائها في قطر والولايات المتحدة الأمريكية من أجل ثلاث نقاط محددة: الأولى تتمثل في إيقاف الحرب، الثانية إدخال المساعدات، والثالثة الإفراج عن الرهائن”.[35]
- أهم زيارات الرؤساء للمعبر
شهد معبر رفح عددًا من الزيارات الرسمية البارزة، كان أبرزها زيارة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في 23 مارس 2024، حيث تفقد الأوضاع الإنسانية وألقى كلمة دعا فيها إلى وقف إطلاق النار وفتح المعابر أمام تدفق المساعدات إلى غزة، مؤكدًا أن طوابير الشاحنات المتكدسة على الجانب المصري تجسد حجم الكارثة. كما قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة مدينة العريش القريبة من المعبر في 8 أبريل 2025، وأكد من هناك دعمه للدور المصري في إدخال المساعدات ورفض التهجير، مشددًا على ضرورة وصول الإغاثة إلى المدنيين المحاصرين.
وفي السياق نفسه، قام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بعدة زيارات إلى معبر رفح، من بينها تفقده المنطقة في أواخر عام 2023 مع بداية الحرب على غزة، حيث تابع بنفسه جهود إدخال المساعدات وشدد على أن مصر لن تسمح بتهجير الفلسطينيين. كما زار المعبر عدد من وزراء الخارجية والمسؤولين الدوليين، من أبرزهم وزيرة خارجية ألمانيا، أنالينا بيربوك، في ديسمبر 2023، ووزير خارجية بلجيكا، حاجي لببيب، في يناير 2024، بالإضافة إلى وفود أوروبية وعربية متعددة جاءت لتأكيد التضامن والدعوة لفتح ممرات إنسانية آمنة. وقد عكست هذه الزيارات مجتمعة رمزية معبر رفح كنافذة وحيدة لغزة ورسالة تضامن دولي وإقليمي مع معاناة سكانها.
المعوقات الإسرائيلية التي تعرقل الجهود المصرية في إدخال الساعدات
- التفتيش البيروقراطي والتأخيرات
تفرض إسرائيل فحصًا دقيقًا للمواد المرسلة، حتى العناصر البسيطة، وتُرجع شاحنات بأكملها بسبب ملاحظات في التغليف أو مواصفات بسيطة. وأحيانًا يُطلب من الشاحنات الانتظار لأسابيع في صفوف عند الحدود المصرية-الإسرائيلية أو عند المعبر قبل السماح لها بالدخول.
- رفض دخول بعض البضائع بحجة الأغراض المزدوجة
تُمنع أحيانًا معدات مائية، وأجزاء من البنية التحتية، ومحركات، ومواد طبية لأنها تُعتبر قابلة للاستخدام لأغراض عسكرية. وحتى العناصر المعدنية البسيطة تُرفض لدواعٍ إجرائية غير شفافة.
- حدود على عدد الشاحنات وكميات المساعدات
رغم وعود تسهيل الدخول، ما تزال الأعداد المصرّح لها بالدخول أقل بكثير من حاجة السكان. فعلى سبيل المثال، في إحدى الفترات، تم السماح بدخول بضعة آلاف من الشاحنات، في حين كانت الحاجة أكبر بكثير.
- رفض مصاحب لمحاولات التنسيق او غموض في التعليمات
تُمنع بعض الشحنات من الدخول رغم حصولها على الموافقات اللازمة من الأمم المتحدة أو مؤسسات المساعدات، بسبب عراقيل فجائية أو شروط غير معلنة. كما يُلاحظ غياب الوضوح في القوانين المطبقة على ما يُسمى بالمواد الممنوعة، وأحيانًا يتم رفض بضائع دون تقديم تفسير كافٍ.
سادسا: سيناريوهات مستقبلية
سيناريو الأول: استمرار الوضع الراهن والتدهور التدريجي (السيناريو الأكثر ترجيحًا في المدى القصير)
الافتراض الأساسي هو استمرار العمليات العسكرية بوتيرة متقطعة، مع فتح معابر محدود وغير كافٍ للسماح بدخول “الحد الأدنى” من المساعدات، الذي يمنع الانهيار الكامل لكنه لا يلبي الاحتياجات المتزايدة، مع استمرار المماطلة في المفاوضات وعدم التوصل إلى وقف إطلاق نار دائم. ومن المتوقع، صحيًا، استمرار ارتفاع معدلات الوفيات بسبب سوء التغذية والأمراض المتفشية؛ وغذائيًا، توسع نطاق المجاعة (المرحلة الخامسة IPC) ليشمل مناطق أوسع في القطاع مع تسجيل آلاف الوفيات الإضافية، خاصة بين الأطفال وكبار السن، ولجوء السكان إلى استراتيجيات بقاء يائسة وخطيرة؛ ودوليًا، تصاعد الإدانات الدولية والضغوط الدبلوماسية دون اتخاذ إجراءات جادة وفعالة لإجبار إسرائيل على فتح المعابر بشكل كامل، مع استمرار حالة الشلل في مجلس الأمن.
السيناريو الثاني: وقف إطلاق النار الدائم وبدء التعافي (السيناريو المأمول حدوثه)
لافتراض الأساسي هو التوصل إلى اتفاقية وقف إطلاق نار دائم عبر الوساطة الدولية، تشمل فتح جميع المعابر أمام المساعدات دون قيود وبدء عملية تبادل الأسرى والمعتقلين. ومن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى دخول كميات هائلة من المساعدات الغذائية والدوائية والوقود، وبدء عمل المنظمات الإنسانية بشكل آمن وشامل لإنقاذ الأرواح. كما ستبدأ عملية إعادة الإعمار، التي ستكون بطيئة ومعقدة، مع استمرار الاعتماد الكبير على المساعدات الدولية لسنوات، وبقاء مؤشرات سوء التغذية مرتفعة لفترة طويلة.
السيناريو الثالث: التدخل الدولي الإنساني القسري
الافتراض الأساسي هو فشل كل المساعي الدبلوماسية واستمرار إسرائيل في عرقلة المساعدات بشكل متعمد، بينما تتسع نسبة الموت الجماعي، ما يضغط على المجتمع الدولي للتحرك. ومن المتوقع أن تشمل خيارات التدخل تشكيل قوة حماية دولية لتأمين طرق المساعدات، أو فرض منطقة حظر طيران لإسقاط المساعدات جويًا بشكل آمن، أو فرض عقوبات اقتصادية وسياسية شديدة على إسرائيل. أما ردود الفعل، فمن المرجح أن يواجه هذا السيناريو معارضة شرسة من إسرائيل والولايات المتحدة، وقد يؤدي إلى مواجهة دبلوماسية وقانونية غير مسبوقة، قد يُنظر إليها على أنها صراع بين السيادة الوطنية والواجب الإنساني.
وختامًا، تمثل المجاعة في قطاع غزة ذروة مأساة إنسانية وقانونية وأخلاقية في القرن الحادي والعشرين. لقد كشف هذا المقال التحليلي أن الكارثة التي يعيشها أكثر من 2.3 مليون فلسطيني ليست قدرًا محتومًا أو نتيجة عوامل طبيعية، بل هي بالأساس صناعة بشرية ممنهجة تقف وراءها آلة عسكرية وقانونية وإعلامية معقدة. واستنادًا إلى مرجعيات القانون الدولي، يتبين أن سياسة التجويع التي تمارسها إسرائيل ترقى إلى مستوى جريمة حرب بموجب القانون الدولي الإنساني، لا سيما اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية ونظام روما الأساسي. وقد أكدت المعايير الدولية، وعلى رأسها نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، أن عتبات المجاعة الثلاث الجوع الشديد، سوء التغذية الحاد، والوفيات المرتبطة بالجوع قد تجاوزت الحدود الحرجة، في مشهد نادر سجله النظام لأول مرة في الشرق الأوسط.
كما سلط المقال الضوء على الآليات العملية التي تُنفذ من خلالها هذه السياسة، والتي تشمل الحصار الشامل، والتحكم التعسفي في المعابر وكميات المساعدات، وتدمير البنية التحتية للغذاء والماء والطاقة، واستهداف القطاع الزراعي. وقد شكّلت هذه الآليات مجتمعة نظامًا متكاملاً لإحداث مجاعة قسرية، مستفيدة من سوابق تاريخية لإسرائيل في استخدام التجويع كأداة حرب، كما حدث مع الجيش الثالث المصري وحصار بيروت.
الأدلة الملموسة التي قدمتها تقارير الأمم المتحدة (اليونيسف، برنامج الأغذية العالمي، منظمة الصحة العالمية) والهلال الأحمر الفلسطيني ومنظمات حقوقية دولية فضحت زيف الادعاءات الإسرائيلية. وفي مواجهة هذه الكارثة، برز الدور المصري كشريان حياة أساسي، من خلال معبر رفح ومؤسسات مثل بنك الطعام المصري والهلال الأحمر، إلا أن هذا الدور ظل مقيدًا بالمعوقات الإسرائيلية المتعمدة.
المراجع
[1] ما يلزم الصحفي معرفته عن مفهوم “المجاعة، مجلة الصحافة، 12مايو،2025، متاح على الرابط التالي: https://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/2514?utm_source=.com، تاريخ الدخول:17 سبتمبر،2025.
[2] International Humanitarian Law Databases،ICRC، Available at the following link: https://ihl-databases.icrc.org/en/ihl-treaties/api-1977/article-54?utm_source=.com.
[3] ما هي المجاعة وكيف يتم إعلانها؟، 18 مارس، 2024، الأمم المتحدة، متاح على الرابط التالي: https://news.un.org/ar/story/2024/03/1129326، تاريخ الدخول: 17 سبتمبر،2025.
[4] ما هي معايير الأمم المتحدة لإعلان المجاعة، 17 مارس،2024، الشرق الأوسط، متاح علي الرابط التالي: https://aawsat.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85/4918691-%D9%85%D8%A7-%D9%87%D9%8A-%D9%85%D8%B9%D8%A7%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D9%84%D8%A5%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%A7%D8%B9%D8%A9%D8%9F، تاريخ الدخول:17 سبتمبر،2025.
[5] المرجع السابق، ص4.
[6] Washington ،” 319. Memorandum From Harold H. Saunders and William B . Quandt of the National Security Council Staff to Secretary of State Kissinger”،Foreign Relations of the United States, 1969–1976, Volume 25, Arab-Israeli Crisis and War, 1973، Available at the following link:
https://history.state.gov/historicaldocuments/frus1969-76v25/d319?utm_source=chatgpt.com.
[7] IPID،P:4
[8] Tanielian, Melanie،”The War of Famine: Everyday Life in Wartime Beirut and Mount Lebanon (1914-1918)”، 2012، Graduate Division of the University of California, Berkeley. Available at the following link: https://escholarship.org/content/qt4bs8383d/qt4bs8383d.pdf?t=odydiy&utm_source=.com.
[9] CIVILIAN PAWNS”، All rights Laws of War Violations and the Use of Weapons on the Israel-Lebanon Border”، Human Rights Watch.reserved، Available at the following link: https://www.hrw.org/reports/1996/Israel.htm?utm_source=c.com.
[10] استخدام التجويع كسلاح، 9 سبتمبر،2025، متا علي الرابط التالي: https://aps.aucegypt.edu/ar/articles/1523/starvation-as-a-weapon-the-israeli-engineered-famine-in-gaza?fbclid=Iwb2، تاريخ الدخول:22 سبتمبر،2025.
[11] عبد الله خليفة، “من الحصار إلي المجتعة: سياسة الإبادة الإسرائيلية ضد غزة”، القدس العربي، 24أغسطس،2025، متاح على الرابط التالي: https://www.alquds.co.uk/%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%B1-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84، تاريخ الدخول:20 سبتمبر،2025
[12] المرجع السابق،ص3.
[13] Mary Kekatos،” Gaza aid timeline: How the hunger crisis unfolded amid the Israel-Hamas war”،19 April،2024 ،abc News، Available at the following link: Gaza aid timeline: How the hunger crisis unfolded amid the Israel-Hamas war – ABC News.
[15] المرجع السابق، ص2.
[16] Famine confirmed for first time in Gaza ،”World Food Programme ،25August 2025، Available at the following link: https://www.wfp.org/news/famine-confirmed-first-time-gaza?utm_source=.com.
[17]IPID،P:3.
[18] غزة وكالات أممية تحذر من أن مؤشرات الغذاء تتجاوز عتبات المجاعة، 29 سبتمبر،2025، الأمم المتحدة، متاح على الرابط التالي: https://news.un.org/ar/events/Gaza، تاريخ الدخول: 21 سبتمبر،2025.
[19] Jason Burke، “UN-backed experts declare famine in and around Gaza City”، The Guardian، 22 AUGUST2025،K، Available at the following link: https://www.theguardian.com/world/2025/aug/22/ipc-declares-famine-gaza-city?utm_source=t.com.
[20] الاستجابة الإنسانية، تقرير جمعية الهلال الاحمر الفلسطيني، 2025، متاح علي الرابط التالي: https://news.un.org/ar/story/2025/08/1143233#:~:text=*%D9%85%D8%A7%20%D9%87%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%A7%D8%B9%D8%A9%D8%9F,%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%B1%20%D9%86%D9%82%D8%B5%D8%A7%20%D8%AD%D8%A7%D8%AF%D8%A7%20%D9%81%D9%8A%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B0%D8%A7%D8%A1، تاريخ الدخول:22 سبتمبر،2025.
[21] المجاعة تصبح حقيقة مؤكدة لأول مرة في غزة، منظمة الصحة العالمية، 22 أغسطس،2025، متاح على الرابط التالي: https://www.who.int/ar/news/item/28-02-1447-famine-confirmed-for-first-time-in-gaza، تاريخ الدخول: 22 سبتمبر،2025.
[22]“ Gaza Humanitarian Response Update | 20 July – 2 August 2025”، OCHA، ، Available at the following link: https://www.unocha.org/publications/report/occupied-palestinian-territory/gaza-humanitarian-response-update-20-july-2-august-2025?utm_sourc.com.
[23] رائد موسي، ” هكذا يؤثر إغلاق الاحتلال الاسرائيلي للمعابر علي حياة الغزيين”، 5 مارس،2025، الجزيرة، متاح علي الرابط التالي: https://www.ajnet.me/politics/2025/3/5/%D9%87%D9%83%D8%B0%D8%A7-%D9%8A%D8%A4%D8%AB%D8%B1-%D8%A5%D8%BA%D9%84%D8%A7%D9%82-%D8%A7،%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A، تاريخ الدخول:23 سبتمبر،2025.
[24] المرجع السابق،ص4.
[25] Gaza’s agricultural infrastructure continues to deteriorate at alarming rate،FAO، Available at the following link: https://www.fao.org/newsroom/detail/gaza-s-agricultural-infrastructure-continues-to-deteriorate-at-alarming-rate/en?utm_source=.com.
[26] IPID،P:5.
[27] Famine confirmed for first time in Gaza، World Health Organization،22 August2025، Available at the following link: https://www.who.int/news/item/22-08-2025-famine-confirmed-for-first-time-in-gaza?utm_source=.com.
[28] سامح منصور، ” احتلال مياه فلسطين من النهر الي البحر”، 3 يوليو،2024، حلول للسياسات البديلة، متاح على الرابط التالي: https://aps.aucegypt.edu/ar/articles/1406/colonizing-palestinian-water-from-the-river-to-the-sea، تاريخ الدخول:23 سبتمبر،2025.
[29] Gaza Humanitarian Response Update | 20 July – 2 August 2025، OCHA، Available at the following link: https://www.unocha.org/publications/report/occupied-palestinian-territory/gaza-humanitarian-response-update-20-july-2-august-2025?utm_source=.com.
[30] Famine confirmed for first time in Gaza World Health Organization، Available at the following link: https://www.who.int/news/item/22-08-2025-famine-confirmed-for-first-time-in-gaza?utm_source=.com.
[31]IPC ALERT: Worst-case scenario of Famine unfolding in the Gaza Strip، IPC، Available at the following link: https://www.ipcinfo.org/fileadmin/user_upload/ipcinfo/docs/IPC_GazaStrip_Alert_July2025.pdf?utm_source=.com.
[32] Gaza: Evidence points to Israel’s continued use of starvation to inflict genocide against Palestinians، Available at the following link: https://www.amnesty.org/en/latest/news/2025/07/gaza-evidence-points-to-israels-continued-use-of-starvation-to-inflict-genocide-against-palestinians/?utm_source=.com.
[33] OPCID،P3.
[34] Bahira Amin، “Israeli controls choke Gaza relief at Egypt border, say aid workers”،AL Montor، Available at the following link: https://www.al-monitor.com/originals/2025/08/israeli-controls-choke-gaza-relief-egypt-border-say-aid-workers?utm_source=.com.
[35] الجهود المصرية لتهدئة الاوضاع في غزة، الهيئة العامة للاستعلامات، متاح علي الرابط التالي: https://www.sis.gov.eg/section/7278/14907?lang=ar، تاريخ الدخول:23 سبتمبر،2025.
باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب