يمثل الدعم الأمريكي لقوات البيشمركة الكردية خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب محطة مركزية في دراسة تفاعلات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، نظرًا لارتباطه بمسارين متباينين داخل نفس الإدارة. فقد عرفت فترة ترامب مرحلتين واضحتين في مقاربته تجاه الأكراد: الأولى اتسمت بتعزيز الشراكة العسكرية مع قوات البيشمركة في سياق الحرب ضد تنظيم داعش، حيث قدمت واشنطن دعمًا واسعًا شمل التدريب والتسليح والتنسيق الميداني، الأمر الذي عزز مكانة الأكراد كحليف رئيسي للولايات المتحدة في شمال العراق. أما المرحلة الثانية، فقد جاءت مع التحولات في استراتيجيات ترامب للوجود الأمريكي في المنطقة، خصوصًا مع قراراته المتعلقة بالانسحاب الجزئي من سوريا وإعادة تموضع القوات في العراق، وهو ما انعكس في تراجع الالتزامات طويلة الأمد تجاه الأكراد، وإعادة صياغة الدعم ضمن معادلة أكثر براغماتية تراعي اعتبارات العلاقة مع بغداد وأنقرة.[1]
ويكشف هذا الانتقال من مرحلة الانخراط المباشر إلى مرحلة إعادة التموضع عن أن سياسة ترامب لم تكن خطًا مستقيمًا بقدر ما كانت استجابة تفاعلية للمتغيرات الداخلية والخارجية. فمن ناحية، فرضت الضرورات الأمنية المرتبطة بالقضاء على داعش استمرار التعاون مع البيشمركة كقوة محلية فاعلة. ومن ناحية أخرى، قيد ترامب هذا التعاون بمحددات السياسة الواقعية القائمة على حسابات الكلفة والعائد، وبما ينسجم مع رؤيته الأشمل لتقليص الانخراط العسكري الأمريكي المباشر في الشرق الأوسط.[2]
وعليه، يهدف هذا المقال التحليلي إلى تحليل أبعاد الدعم الأمريكي للبيشمركة خلال إدارة ترامب، من خلال تفكيك محدداته الداخلية والخارجية، واستعراض أبعاده العسكرية والسياسية والإقليمية، وصولًا إلى استشراف مستقبل العلاقة الأمريكية–الكردية في ضوء التحولات الجارية في البيئة الإقليمية والدولية.
أولًا: الخلفية التاريخية للعلاقة بين الولايات المتحدة والأكراد
تمثل العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية والأكراد مسارًا متجذرًا في تفاعلات الشرق الأوسط، إذ لطالما استخدمت واشنطن الورقة الكردية ضمن استراتيجياتها للتوازن الإقليمي منذ سبعينيات القرن العشرين. غير أن التحول النوعي برز بعد عام 2003، حين أعاد الغزو الأمريكي للعراق تشكيل المعادلة الأمنية، وبرزت قوات البيشمركة بوصفها الذراع الدفاعية المنظمة لإقليم كردستان العراق، وصاحبة دور محوري في مكافحة الإرهاب.[3] فخلال اجتياح تنظيم داعش لمساحات واسعة من العراق عام 2014، أثبتت البيشمركة قدرتها على ملء الفراغ الأمني ومواجهة التنظيم بكفاءة، ما جعلها شريكًا لا يمكن الاستغناء عنه في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب.[4] في ضوء هذا الدور، اكتسبت البيشمركة موقعًا خاصًا في بنية الأمن الإقليمي، ليس فقط كقوة محلية تعمل في إطار العراق، بل كفاعل ميداني يمتلك خبرة عسكرية وتنظيمية تسمح له بالاندماج في استراتيجيات الدفاع الدولية. ومن هنا جاء الدعم الأمريكي المتواصل، الذي تراوح بين التسليح والتدريب والاستخبارات، وارتبط مباشرة بمصالح واشنطن في تثبيت الاستقرار ومنع عودة التهديدات الإرهابية.[5]
تعود جذور قوات البيشمركة إلى بدايات الحركة الكردية المسلحة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، حيث ارتبطت تاريخيًا بالأحزاب السياسية الكردية الكبرى، ولا سيما الحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP) بزعامة عائلة بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني (PUK) بزعامة جلال طالباني. وقد تشكلت البيشمركة أساسًا كقوة مقاومة محلية تهدف إلى حماية الهوية الكردية وفرض مطالب سياسية على الحكومات المركزية في بغداد. أما من حيث التمويل، فقد تنوعت مصادرها بين الدعم الداخلي من حكومة إقليم كردستان (من خلال الميزانية المخصصة لها ضمن الإقليم بعد 2003) وبين المساعدات الخارجية، خاصة الأمريكية والأوروبية، التي جاءت في شكل تسليح وتدريب ومخصصات مالية مباشرة بعد صعود تهديد تنظيم داعش.[6]
قبل عام 2014، كانت البيشمركة قوة محلية ذات طابع دفاعي أكثر منه هجومي، تركز نشاطها على حماية مناطق إقليم كردستان وضبط الأمن الداخلي، مع قدرة محدودة على الانخراط في معارك واسعة النطاق. لكن اجتياح داعش لمساحات واسعة من العراق شكّل نقطة تحول مفصلية، إذ برزت البيشمركة كقوة قتالية منظمة ذات خبرة، استطاعت استعادة مناطق استراتيجية مثل كركوك، ولعبت دورًا رئيسيًا في احتواء تمدد التنظيم. هذا التطور جعلها تحظى باعتراف دولي باعتبارها شريكًا محوريًا في الحرب على الإرهاب، وفتح الباب أمام تدفق غير مسبوق من الدعم العسكري والمالي، خصوصًا من الولايات المتحدة ودول التحالف الدولي.[7] وعليه، فإن صعود قوة البيشمركة لم يكن وليد مرحلة ما بعد داعش فقط، بل امتداد لمسار تاريخي طويل من التنظيم العسكري والسياسي الكردي، غير أن تهديد داعش وفر لهم فرصة استثنائية لإعادة التموضع كقوة إقليمية فاعلة، تجاوزت كونها ذراعًا محلية لتصبح جزءًا من الاستراتيجيات الدولية في الشرق الأوسط.[8]
وتبرز إدارة الرئيس دونالد ترامب كمرحلة فاصلة في هذا السياق، نظرًا لكونها امتدت عبر فترتين رئاسيتين؛ الأولى (2017–2021) اتسمت بتعزيز الشراكة العملياتية مع البيشمركة خلال الحرب ضد داعش، مع تقديم دعم واسع النطاق عزز موقع الأكراد كحليف عسكري للولايات المتحدة. أما الفترة الثانية الراهنة فتأتي في ظل تحولات أوسع في السياسة الأمريكية، حيث أعاد ترامب صياغة مقاربته للأمن الإقليمي بما يعكس أولويات أكثر براغماتية: تقليص التكاليف العسكرية المباشرة، وإعادة توزيع الأعباء الأمنية على الحلفاء المحليين، مع مراعاة التوازن الدقيق في العلاقة مع بغداد وتركيا.[9]
إن هذا التقسيم المرحلي يعكس ازدواجية في سياسة واشنطن تجاه البيشمركة، فمن جهة، لا يمكن الاستغناء عنهم كقوة ميدانية أثبتت فعاليتها في مكافحة الإرهاب، ومن جهة أخرى، تظل حسابات السياسة الواقعية الأمريكية بما فيها الحفاظ على تحالفات استراتيجية أوسع عاملًا مقيدًا لآفاق الدعم. ومن هنا، فإن دراسة الدعم الأمريكي للبيشمركة في ظل مرحلتي حكم ترامب تكشف عن طبيعة التوازن بين الأبعاد الأمنية والدفاعية من ناحية، والاعتبارات الجيوسياسية والاقتصادية من ناحية أخرى، بما يجعلها نموذجًا لفهم كيفية توظيف الولايات المتحدة للقوى المحلية في خدمة استراتيجياتها العالمية.[10]
ثانيًا: محددات السياسة الأمريكية تجاه الأكراد
- البعد الجيوسياسي (العراق، سوريا، تركيا، إيران)
يحتل البعد الجيوسياسي موقعًا مركزيًا في صياغة الموقف الأمريكي تجاه الأكراد، نظرًا لتداخل الملفات الكردية مع أربع ساحات رئيسية في الشرق الأوسط. في العراق، ينظر إلى قوات البيشمركة باعتبارها عنصرًا رئيسيًا في المعادلة الأمنية داخل إقليم كردستان، وركيزة لاستقرار شمال البلاد، خاصة بعد أن أثبتت قدرتها على مواجهة تنظيم داعش في ظل انهيار جزئي للجيش العراقي عام 2014. غير أن واشنطن كانت حريصة على ألا يتحول هذا الدعم إلى ما يُفهم منه تشجيع الانفصال عن بغداد، حرصًا على عدم تقويض وحدة الدولة العراقية.[11]
أما في سوريا، فقد برز الأكراد وتحديدًا قوات سوريا الديمقراطية كأحد أهم الحلفاء المحليين لواشنطن في الحرب ضد داعش. ورغم أن هذا التحالف منح الولايات المتحدة ذراعًا عسكرية فعالة، إلا أنه تسبب في توتر مع تركيا التي ترى في الصعود الكردي تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.[12] ومن هنا نشأت معضلة مزدوجة في السياسة الأمريكية وهي كيفية الاستفادة من القدرات القتالية للأكراد دون التضحية بعلاقاتها الاستراتيجية مع أنقرة كعضو محوري في حلف شمال الأطلسي (الناتو).[13]
أما إيران، فقد شكلت عاملًا في معادلة واشنطن مع الأكراد. فمن ناحية، تسعى الولايات المتحدة إلى تقليص النفوذ الإيراني في العراق وسوريا، ومن ناحية أخرى، يُنظر إلى بعض الفصائل الكردية كأدوات محتملة لخلق توازن مع التمدد الإيراني، سواء عبر العمل العسكري غير المباشر أو عبر تشكيل ورقة ضغط سياسية أمنية. بذلك، يتحول الملف الكردي إلى ساحة تنافس جيوسياسي متعدد الأبعاد، توازن فيه واشنطن بين مصالح متناقضة ومتشابكة.[14]
- المصالح الأمنية ومكافحة الإرهاب (داعش نموذجًا)
يمثل البعد الأمني حجر الزاوية في السياسة الأمريكية تجاه الأكراد، إذ ارتبطت العلاقة العسكرية بين الطرفين أساسًا بالحرب على الإرهاب. فقد كانت قوات البيشمركة في العراق، وقوات سوريا الديمقراطية في سوريا، الأساس في المواجهة الميدانية مع تنظيم داعش. عزز هذا الارتباط شرعية الدعم الأمريكي، سواء أمام الرأي العام الأمريكي أو الكونغرس، باعتباره جزءًا من استراتيجية الدفاع عن الأمن القومي الأمريكي عبر منع إعادة إنتاج بيئات إرهابية تهدد المصالح الأمريكية داخل المنطقة وخارجها.[15]
إلى جانب ذلك، وفرت الشراكة مع البيشمركة نموذجًا لما يُعرف في الأدبيات الدفاعية الأمريكية بالحرب بالوكالة أوoutsourcing security، حيث يجري توظيف قوات محلية لتحقيق أهداف عسكرية دون الحاجة إلى انخراط مباشر واسع للقوات الأمريكية. هذه الاستراتيجية تتوافق مع توجهات إدارة ترامب بشكل خاص، التي ركزت على تقليص التكاليف البشرية والمالية للحروب الخارجية، مع الحفاظ على الفعالية الميدانية عبر دعم شركاء محليين موثوقين. غير أن هذا التوظيف الأمني يطرح إشكالية متكررة: هل ينتهي الدعم الأمريكي بمجرد انتهاء التهديد المباشر (داعش)، أم أنه يمثل التزامًا طويل المدى يترتب عليه اعتراف بدور الأكراد السياسي في مستقبل المنطقة؟ وهذا يضع إشكالية حول مدى استمرارية الدعم الأمريكي بعد انتهاء تهديد داعش.[16]
- تفاعلات الداخل الأمريكي (الرأي العام وجماعات الضغط)
لا يمكن فهم السياسة الأمريكية تجاه الأكراد بدون النظر إلى محدداتها الداخلية. إذ تلعب جماعات الضغط لا سيما تلك المرتبطة بالجاليات الكردية والمنظمات الحقوقية دورًا في إبقاء القضية الكردية حاضرة في النقاش العام داخل الولايات المتحدة. كما أن الكونغرس كثيرًا ما تبنى مواقف داعمة للأكراد، سواء عبر تشريعات تفرض تخصيص مساعدات عسكرية ومالية للبيشمركة، أو من خلال الضغط على الإدارات المتعاقبة لضمان عدم التخلي عن الحلفاء الأكراد بعد انتهاء المعارك ضد الإرهاب.[17]
إلى جانب ذلك، يسهم الرأي العام الأمريكي، المتأثر بالإعلام وبالخطاب المرتبط بمكافحة الإرهاب، في تهيئة بيئة سياسية أكثر تقبلًا لدعم الأكراد، خصوصًا بعد أن جرى تصويرهم في الإعلام الأمريكي كشريك جدير بالثقة مقارنة ببعض الحلفاء الآخرين في المنطقة. ومع ذلك، يظل العامل الداخلي الأمريكي محكومًا بالبراغماتية السياسية، فعندما يتعارض الدعم العلني للأكراد مع أولويات كبرى مثل الحفاظ على العلاقات مع تركيا تميل الإدارة إلى إعادة التوازن، بما يضمن تجنب الخسائر الاستراتيجية الأوسع.[18]
- المحدد الاقتصادي: ثروة النفط والغاز في إقليم كردستان
يُعد البعد الاقتصادي أحد المحددات الجوهرية في مقاربة الولايات المتحدة لقضية البيشمركة، حيث يمتلك إقليم كردستان العراق احتياطيات نفطية وغازية ذات قيمة، جعلته فاعلًا مؤثرًا في معادلة الطاقة الإقليمية والدولية. إذ لا تقتصر أهمية هذه الموارد على بعدها المالي بالنسبة لحكومة الإقليم، بل تمتد لتشكل ركيزة استراتيجية في صياغة العلاقة بين أربيل وبغداد من جهة، وبين الإقليم والقوى الدولية من جهة أخرى. وفي هذا السياق، اكتسبت قوات البيشمركة بعدًا إضافيًا بوصفها الضامن الأمني للبنية التحتية النفطية وخطوط التصدير، بما يضفي عليها دورًا يتجاوز وظيفتها العسكرية التقليدية ليشمل حماية مصالح اقتصادية حيوية ترتبط باستقرار تدفقات الطاقة. ومن ثم، فإن واشنطن تنظر إلى هذه المعادلة بوصفها إطارًا تكامليًا يجمع بين الأمن والاقتصاد، حيث يصبح دعم البيشمركة جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى تأمين منابع الطاقة ومنع تحولها إلى بؤرة تهديد، بما يعكس التداخل بين المحددات الأمنية والاقتصادية في السياسة الأمريكية تجاه الإقليم.[19]
إن محددات السياسة الأمريكية تجاه الأكراد تكشف عن شبكة معقدة من التفاعلات الجيوسياسية والأمنية والداخلية، تجعل من الدعم المقدم للبيشمركة ليس مجرد التزام عسكري بل أداة استراتيجية متعددة الأبعاد. فبين ضرورات الأمن ومكافحة الإرهاب، وضغوط الداخل الأمريكي، وحسابات العلاقات مع تركيا وإيران والعراق، يتضح أن واشنطن تتعامل مع الملف الكردي وفق مقاربة مزدوجة، دعم قصير الأمد لتحقيق أهداف أمنية مباشرة، مقرون بتحفظ استراتيجي يحول دون ترجمة هذا الدعم إلى اعتراف سياسي كامل بطموحات الأكراد. وهذا التناقض يشكل جوهر الجدل حول مستقبل الدعم الأمريكي للبيشمركة في ظل الإدارة الحالية لترامب.[20]
ثالثًا: طبيعة الدعم العسكري والأمني للبيشمركة
- أشكال الدعم (التسليح، التدريب، التكنولوجيا العسكرية)
تجلى الدعم الأمريكي للبيشمركة في ثلاث صور أساسية:
- التسليح: زودت الولايات المتحدة قوات البيشمركة بمختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، فضلًا عن العربات المدرعة، والمدفعية الخفيفة، ووسائل مقاومة الدروع. وقد مثل ذلك نقلة نوعية في قدرات البيشمركة، خصوصًا خلال المعارك ضد تنظيم داعش، حيث احتاجت القوات الكردية إلى تسليح متطور يوازي تسليح التنظيم المدعوم بغنائم من الجيش العراقي.[21]
- التدريب: ركزت برامج الدعم على بناء قدرات البيشمركة من خلال دورات تدريبية متقدمة يشرف عليها خبراء عسكريون أمريكيون وغربيون، شملت تكتيكات القتال في المدن، استخدام الأسلحة الحديثة، إدارة المعارك المشتركة، وتعزيز الانضباط التنظيمي. هذا التدريب ساهم في تحويل البيشمركة من قوة محلية ذات طابع دفاعي إلى شريك قادر على العمل ضمن عمليات عسكرية متعددة الجنسيات.[22]
- التكنولوجيا العسكرية: شمل الدعم إدماج البيشمركة في منظومات المراقبة والاستخبارات التي يشرف عليها التحالف الدولي، بما في ذلك تزويدها بوسائل اتصال مشفرة وأجهزة رصد متطورة. هذه التكنولوجيا مكنت البيشمركة من تعزيز قدرتها على التنسيق الميداني والقيام بعمليات أكثر دقة، مع تقليل الخسائر في صفوفها.[23]
- التنسيق مع الجيش العراقي والقوات الأمريكية
أحد أهم ملامح الدعم الأمريكي تمثل في محاولة دمج البيشمركة ضمن هيكلية أوسع تشمل الجيش العراقي، بما يعكس حرص واشنطن على عدم إظهار دعمها للأكراد كخطوة نحو الاستقلال العسكري. تم إنشاء غرف عمليات مشتركة للتنسيق بين البيشمركة والجيش العراقي والقوات الأمريكية، خصوصًا في معارك الموصل ومحيطها. هذا التنسيق كان يهدف إلى:
- ضمان فعالية الجهود ضد داعش من خلال توزيع المهام على نحو يقلل من التداخل.
- تخفيف التوتر بين بغداد وأربيل عبر صيغة تعاونية تقلل من حساسية الدعم الأمريكي المباشر.
- إضفاء الشرعية على عمليات البيشمركة باعتبارها جزءًا من الجهد الوطني العراقي ضمن الحرب على الإرهاب.[24]
مع ذلك، ظل التنسيق محكومًا بهواجس سياسية، فبغداد كثيرًا ما أبدت تحفظات على حجم ونوعية الدعم المقدم للبيشمركة، معتبرة أن واشنطن تتجاوز أحيانًا مؤسسات الدولة العراقية.[25]
- التناقض بين الوعود الأمريكية وما تحقق فعليًا
رغم أن إدارة ترامب أكدت مرارًا التزامها بدعم الأكراد في العراق كشريك موثوق، إلا أن الواقع كشف عن فجوة واضحة بين الوعود وما تحقق فعليًا. فمن جهة، حصلت قوات البيشمركة على دعم نوعي في لحظات حاسمة، خصوصًا خلال المعارك ضد تنظيم داعش، وهو ما عزز موقعها كقوة محلية لا غنى عنها في الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب. ومن جهة أخرى، اصطدمت الوعود الأمريكية بجملة من القيود السياسية والاعتبارات الإقليمية. فقد وعد ترامب في أكثر من مناسبة بزيادة حجم المساعدات العسكرية المباشرة للبيشمركة، لكن ضغوط العلاقة مع تركيا ومعارضة بعض الأطراف في بغداد حالت دون تنفيذ هذه الوعود على نطاق واسع. هذا التناقض بين الخطاب والواقع عزز لدى القيادات الكردية إدراكًا بأن الدعم الأمريكي يظل مرتبطًا بالظرف الأمني أكثر من كونه التزامًا استراتيجيًا طويل الأمد، وهو ما انعكس على طبيعة الثقة المتبادلة بين الجانبين. [26]
إن طبيعة الدعم العسكري والأمني للبيشمركة تكشف عن مقاربة أمريكية تقوم على تقديم ما يكفي من الدعم لتأمين الأهداف الميدانية الأمريكية خصوصًا مكافحة الإرهاب مع تجنب الانخراط في التزامات سياسية أو عسكرية قد تُفسر كدعم للاستقلال الكردي. وبينما عززت هذه الاستراتيجية القدرات القتالية للبيشمركة، فإنها أبقت على عنصر عدم اليقين بشأن مدى استدامة الدعم، وهو ما يجعل مستقبل العلاقة مرهونًا بموازين القوى الإقليمية وحسابات السياسة الأمريكية الداخلية.[27]
رابعًا: الدعم الدولي والإقليمي لقوى البيشمركة
- المقارنة بين دعم واشنطن ودعم أطراف أخرى (روسيا، ودول أوروبية)
اتسم دعم الولايات المتحدة للبيشمركة بطابع مؤسسي وظيفي مرتبط بالأهداف الأمنية، تسليح وتدريب وإدماج استخباراتي ضمن جهود التحالف الدولي ضد داعش. هذا الدعم شمل إنشاء برامج لإصلاح البيشمركة ومبادرات لدمج وحدات منتقاة في هياكل تدريبية مؤسسية بهدف تحويلها إلى قوة قادرة على العمل ضمن عمليات مشتركة مع الحليف الأمريكي[28]. مثل هذا التوجه يعكس منطقًا استراتيجيًا أمريكيًا يقوم على الاستفادة من شريك محلي موثوق مع محاولة إبقائه ضمن إطار الدولة العراقية الرسمية.[29]
في المقابل، تدخلت دول أوروبية (ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، هولندا، وإيطاليا) عبر برامج تدريب وتجهيز بالمعدات غير الفتاكة، واستشارات إصلاحية. الطابع الأوروبي تميل إليه عناصر بناء المؤسسات والتمويل المستدام للتدريب أكثر منه تدخلًا عسكريًا مباشرًا أو أسلحة قتالية ثقيلة. وهكذا أتاحت لأوروبا دورًا مكملًا لواشنطن في مسار احترافية البيشمركة.[30]
بخلاف الولايات المتحدة والدول الأوروبية، لم تتبنّ روسيا سياسة دعم مباشر لقوات البيشمركة، سواء عبر التسليح أو التدريب. وبدلًا من ذلك، ركزت موسكو على تعزيز علاقاتها مع الحكومة المركزية في بغداد، باعتبارها المدخل الأساسي لترتيب توازنات القوى داخل العراق. ومن خلال هذا النهج، سعت روسيا إلى استثمار أي فراغ تتركه واشنطن، مستخدمة نفوذها السياسي والعسكري لطرح نفسها كفاعل بديل قادر على التأثير في العلاقة بين بغداد وأربيل. وبذلك يظل دورها تجاه البيشمركة غير مباشر، قائمًا على إدارة المعادلات الإقليمية أكثر من تقديم دعم ميداني فعلي.[31]
وبالتالي، يمكن القول إن دعم واشنطن كان الأكثر تأثيرًا على القدرات القتالية للبيشمركة ودمجها في شبكة التحالفات ضد الإرهاب، بينما قدمت أوروبا دعمًا مؤسسيًا تكميليًا، واعتمدت روسيا أكثر على أدوات النفوذ السياسي–الدبلوماسي لتشكيل بيئة إقليمية تخدم مصالحها.
- حدود استقلالية القرار الكردي في ضوء الدعم الخارجي
يضع الدعم الخارجي البيشمركة في خانة الاعتماد المزدوج فهو يزيد من قدراتها لكنه يقيد استقلالية قرارها الاستراتيجي. الاعتماد على معدات وتدريب وتمويل من جهات خارجية يخلق تبعيات لوجستية وسياسية (معايير الصيانة، تدريب مستمر، شروط الحصول على مساعدات) تؤثر في قدرة أربيل على اتخاذ قرارات عسكرية وسياسية معزولة عن مصالح تلك الدول. علاوة على ذلك، فإن رغبة واشنطن في إبقاء دعمها في إطار سيادة العراق تضع قيودًا صريحة على إمكانيات البيشمركة في تحويل قوتها العسكرية إلى نفوذ سياسي مستقل عن بغداد.[32]
من ناحية عملية، تظهر مراجعات برامج الإصلاح أن تحويل وحدات البيشمركة إلى تشكيلات غير حزبية ضمن هيكل وزارة شؤون البيشمركة (MoPA) أو عبر آليات تنسيق مع وزارة الدفاع العراقية هو شرط لاستمرار جزء كبير من الدعم الدولي، وهذا بحد ذاته يضع سقفًا لاستقلال القرار العسكري لدى القادة المحليين. كما أن التنافس الداخلي بين الحركات والأطراف السياسية الكردية يعقد قدرة البيشمركة على تبني موقف موحد مستقل عن الضغوط الخارجية.[33]
وبالتالي، دعم الخارج يرفع كفاءة البيشمركة لكنه يفرض قيودًا بنيوية على استقلالية القرار الكردي استقلالية لا تكون مطلقة مادام التمويل والتدريب والتجهيز مرهونًا بسياسات واشتراطات المانحين.
- إشكالية التوظيف السياسي للبيشمركة في الصراع الإقليمي
استخدام قوى إقليمية ودولية للبيشمركة كأداة في صراعاتها الإقليمية يطرح إشكالًا مزدوجًا: أمني من جهة وسياسي من جهة أخرى. أمنياً، توظيف البيشمركة من قبل واشنطن كقوة محلية فاعلة مكن التحالف من تحقيق أهداف ضد داعش دون نشر قوات برية أمريكية واسعة، لكن سياسيًا، ربط البيشمركة بمحاور خارجية جعلها هدفًا في لعبة التأثير بين طهران وأنقرة وبغداد، وقد لعب هذا الدور ضد مصالح الاستقرار المحلي عندما استُخدمت كحجر في مفاوضات أوسع حول النفوذ والتوازنات، أو عندما صاحبتها اتهامات بالانحياز الحزبي داخل الإقليم نفسه.[34]
علاوة على ذلك، فإن الأرجحية لتوظيف البيشمركة سياسيًا تعكس طبيعة العلاقة غير المتكافئة بينها وبين القوى الدولية، إذ كلما ازداد اعتمادها على الدعم الخارجي، ارتفعت احتمالات أن تتحول من فاعل محلي مستقل نسبيًا إلى أداة ضمن استراتيجيات القوى الكبرى. هذه الحالة تضعها أمام مخاطرة استراتيجية مزدوجة: فمن ناحية، يتيح لها الدعم الخارجي تعزيز قوتها العسكرية والسياسية في مواجهة التحديات الإقليمية والداخلية، ومن ناحية أخرى، يجعلها عرضة لأن تُعامل كمكسب تكتيكي قابل للتخلي عنه أو إعادة توجيهه متى اقتضت المصالح الدولية ذلك. وهو ما يفسر القلق الكردي المتكرر من احتمالات الخيانة أو التخلي من جانب الحلفاء، خاصة في ضوء تجارب سابقة لفاعلين محليين اعتمدوا على قوى خارجية في مناطق نزاعات وانتهوا إلى العزلة أو التراجع مع تبدل موازين المصالح. [35]
وبالتالي، التوظيف السياسي للبيشمركة يمنح نتائج تكتيكية فورية لكنه يضعها في موقع هش استراتيجيًا على المدى المتوسط والطويل، لأن بقاء الدعم مرتبط بتحولات الأولويات لدى الدول الداعمة ومن ثم بمصالح تلك الدول تجاه بغداد وأنقرة والطرف الإقليمي الآخر.
تُظهر المقارنة أن واشنطن قدمت للبيشمركة دعمًا عسكريًا–ميدانيًا ذا أثر مباشر في مكافحة الإرهاب، فيما اتسم الدعم الأوروبي بطابع مؤسسي وإصلاحات طويلة المدى، واستخدمت روسيا المسارات الدبلوماسية لملء الفراغ. ومع ذلك، يشكل هذا الدعم شراعًا ذا حدين فهو يقوي البيشمركة عسكريًا لكنه يقيد استقلال القرار الكردي ويفتح باب التوظيف السياسي من قبل قوى إقليمية ودولية. لذا، يصبح المستقبل الأمني والسياسي للبيشمركة مرهونًا بقدرتها على احتواء التبعيات، وبقدرة أربيل على تحويل الدعم الخارجي إلى بنية دفاعية وطنية لا أداة نفوذ إقليمية.[36]
خامسًا: التوازنات الإقليمية وانعكاسات الدعم
- الموقف التركي واعتباراته الأمنية لحزب العمال الكردستاني الـ PKK))
تتعامل تركيا مع أي دعم أمريكي للبيشمركة من زاوية أمنية بحتة، إذ تنظر أنقرة إلى تنامي القدرات العسكرية الكردية باعتباره تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، خاصة في ظل التشابك العضوي بين بعض أجنحة الحركة الكردية في العراق وحزب العمال الكردستاني (PKK) الذي تخوض معه تركيا صراعًا مسلحًا منذ ثمانينيات القرن الماضي. ورغم أن واشنطن تميز في خطابها بين البيشمركة والـ PKK، فإن أنقرة ترى أن أي تعزيز لقدرات الأكراد حتى في شمال العراق يحمل انعكاسات استراتيجية على الداخل التركي، سواء عبر زيادة جرأة الحركات الكردية في تركيا أو من خلال خلق مناطق آمنة للـ PKK قرب الحدود. وتتضح حساسية الموقف التركي أكثر بالنظر إلى تجربة عملية السلام الداخلية مع الأكراد (2013–2015)، حين دخلت حكومة أنقرة في مفاوضات مباشرة مع زعيم الـ PKK عبد الله أوجلان داخل سجنه في إيمرالي. ورغم الآمال التي أثارتها تلك المصالحة في احتواء الصراع الكردي–التركي، فإن انهيارها أعاد ملف الأكراد إلى مربع المواجهة المفتوحة، وكرس لدى النخبة السياسية التركية قناعة بأن أي قوة كردية، حتى لو كانت خارج الحدود كقوات البيشمركة في العراق، قد تُستغل لإعادة إحياء النزعة الانفصالية أو لتغذية نشاط الـ PKK. ومن هنا، تواصل تركيا استخدام أدواتها الدبلوماسية والعسكرية للضغط على الولايات المتحدة، سواء عبر عضويتها في الناتو أو عبر عملياتها الميدانية شمال العراق، لضبط حدود الدعم الأمريكي للأكراد وتقليص آثاره المحتملة على معادلة الأمن التركي. [37]
- الموقف الإيراني ومخاوفه من صعود الكيان الكردي
تنظر إيران إلى أي دعم عسكري أو سياسي يُمنح للبيشمركة على أنه عامل حساس للغاية ضمن استراتيجيتها الإقليمية. من جهة، يعتبر دعم البيشمركة تهديدًا لاستمرار بغداد كمحور استراتيجي تحت نفوذ طهران، لا سيما في سياق المنافسة المتصاعدة بين الولايات المتحدة وإيران على نفوذ العراق. من جهة أخرى، يتصاعد القلق الإيراني من أن نجاحات الأكراد في تعزيز قدراتهم الدفاعية ومضاعفة حضورهم السياسي قد تفتح باب التأثير على الأكراد داخل الأراضي الإيرانية، خصوصًا في محافظة كردستان وإيلام، حيث تسود مخاوف من انتقال الخبرة العسكرية والتنظيمية إلى الأكراد الإيرانيين وتحفيزهم على مزيد من المطالب المحلية.
وبناءً على ذلك، فإن طهران تعمل على تعزيز وجودها الأمني والعسكري في المناطق المتنازع عليها، وضمان ولاء الفصائل الموالية لها داخل العراق، خصوصًا في محافظات مثل كركوك والموصل وسنجار. كما تشهد العلاقات بين إيران وبغداد تنسيقًا أكبر في استراتيجيات الحفاظ على دور القوات المسلحة الرسمية والميليشيات الموالية في مراقبة شبكة الحدود، وتأمين خطوط الإمداد والتجارة، لمنع أي تعزيز عسكري كردي يمكن أن يُستغل لتهريب أسلحة أو عبور أفراد من حزب العمال الكردستاني. هذا، مع استمرار التوتر في الأروقة الدبلوماسية، حيث تتابع طهران سياسة عقابية جزئية ضد أي تعاون كردي يُخالف منطقها الأمني، مستخدمة التأثير الاقتصادي والسياسي لضبط مواقف أربيل، خصوصًا فيما يخص مشاريع الطاقة والمصالح المشتركة مع تركيا وأوروبا.[38]
- العلاقة مع بغداد: بين الشراكة والصراع على الشرعية
تمثل العلاقة بين حكومة إقليم كردستان والحكومة المركزية في بغداد أحد أكثر الملفات تعقيدًا في مسألة الدعم الأمريكي للبيشمركة. فمن ناحية، تسعى واشنطن إلى الإبقاء على دعمها للبيشمركة ضمن إطار سيادة العراق، حيث تفرض اتفاقيات التعاون العسكري المشترك أن يتم الدعم عبر وزارة الدفاع العراقية. غير أن الواقع الميداني يكشف عن وجود قنوات مباشرة بين البيشمركة والقوات الأمريكية، ما يثير حفيظة بغداد التي ترى في ذلك مساسًا بشرعية الدولة ووحدة مؤسساتها العسكرية. وتزداد هذه الحساسية بالنظر إلى الاتفاقات النفطية بين بغداد وأربيل، والتي سعت منذ 2014 إلى تنظيم تصدير نفط الإقليم وضمان حصة كردستان من الموازنة العامة مقابل تسليم الإيرادات عبر شركة “سومو”.[39] ورغم أن هذه الترتيبات شهدت توترات متكررة، فإنها تكشف عن اعتماد متبادل: فبغداد تحتاج إلى استقرار تدفق صادرات النفط، بينما يعتمد الإقليم على التمويل المركزي لتغطية نفقاته، بما في ذلك رواتب البيشمركة. هذا التداخل بين البعد الاقتصادي والسياسي جعل العلاقة مع واشنطن أكثر تعقيدًا، إذ تدرك الولايات المتحدة أن أي دعم مباشر للبيشمركة يجب أن يأخذ في الاعتبار معادلة النفط وتقاسم الموارد التي تُشكل عصب العلاقة بين المركز والإقليم.[40]
أما على الصعيد السياسي، فإن البيشمركة ليست مجرد قوة عسكرية، بل تعكس ثقلًا سياسيًا داخل النظام العراقي، حيث يرتبط وجودها مباشرة بالشرعية السياسية للأحزاب الكردية، وخصوصًا الحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP) والاتحاد الوطني الكردستاني (PUK). ومن خلال تمثيلهم البرلماني والحكومي في بغداد، يمتلك الأكراد قدرة على التأثير في القرارات الاستراتيجية، بما في ذلك تشكيل الحكومات والتحالفات داخل البرلمان العراقي. كما أن وجود دعم داخلي واسع للبيشمركة في المجتمع الكردي يمنحهم شرعية مزدوجة: شرعية محلية في الإقليم، وشرعية سياسية عبر المؤسسات الدستورية العراقية. هذا الوزن السياسي والعسكري معًا يجعل البيشمركة فاعلًا يصعب تجاوزه، سواء بالنسبة لبغداد أو واشنطن، ويُضفي على العلاقة الثلاثية (بغداد–أربيل–واشنطن) طابعًا مركبًا يجمع بين الشراكة والصراع على الشرعية والموارد.[41]
سادسًا: انعكاسات سياسة ترامب على الملف الكردي
- أثر قرارات ترامب (الانسحاب الجزئي من سوريا، إعادة الانتشار في العراق)
شكلت سياسات ترامب في ولايته الأولى (2017–2021) نقطة تحول حساسة في إدراك الأكراد لحدود الالتزام الأمريكي تجاههم. ففي عام 2019، اتخذت الإدارة الأمريكية قرار الانسحاب الجزئي من شمال شرق سوريا، وهو ما اعتُبر رسالة سلبية لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي وجدت نفسها مكشوفة أمام الضغوط التركية والروسية، رغم الإبقاء على وجود محدود في المناطق النفطية. [42]وفي العراق، اعتمد ترامب آنذاك سياسة إعادة التموضع العسكري، مركزًا على مواجهة النفوذ الإيراني وضمان خطوط الإمداد الأمريكية، وهو ما منح البيشمركة دورًا تكتيكيًا في ملء الفراغ الأمني، لكنه في الوقت نفسه رسخ شعورًا كرديًا بأن الدعم الأمريكي ليس التزامًا استراتيجيًا دائمًا، بل يخضع لحسابات أوسع تتعلق بإدارة التوازنات الإقليمية.[43]
أما في الولاية الثانية (2025–الآن)، فقد بدا أن سياسة ترامب تجاه الأكراد تحاول الموازنة بين ضرورات الداخل الأمريكي ورهانات الشرق الأوسط. ففي سوريا، لم تُطرح مسألة انسحاب شامل كما في السابق، بل ركزت الإدارة الجديدة على الإبقاء على وجود عسكري محدود في مناطق حساسة، خاصة تلك المرتبطة بالسيطرة على الموارد النفطية، وذلك في إطار رؤية استراتيجية لاحتواء كل من موسكو وطهران. [44]وفي العراق، استمر التموضع الأمريكي مع تعزيز التنسيق مع بغداد من جهة، والإبقاء على قنوات مباشرة مع البيشمركة من جهة أخرى، ما يعكس مقاربة مزدوجة تستهدف منع إيران من ملء أي فراغ أمني،[45] وفي الوقت ذاته الحفاظ على الأكراد كورقة ضغط في المعادلة العراقية والإقليمية. وهكذا يمكن القول إن المقارنة بين الفترتين تكشف انتقال السياسة الأمريكية من انسحاب أحدث صدمة للأكراد في 2019، إلى تموضع أكثر حذرًا في 2025 يسعى لتوظيف الورقة الكردية دون الالتزام الكامل بها. [46]
- اتفاق مذكرة التفاهم (MOU) ومستقبل الدعم الأمريكي للبيشمركة
يمثل توقيع مذكرة التفاهم (MOU) بين وزارة الدفاع الأمريكية ووزارة شؤون البيشمركة في حكومة إقليم كردستان إحدى الركائز الأساسية التي أعادت تنظيم العلاقة الدفاعية بين واشنطن والأكراد. فقد جاء الاتفاق، الذي تم تجديده أكثر من مرة وكان آخره في عام 2022، ليحدد بصورة رسمية نطاق الدعم الأمريكي للبيشمركة من حيث التدريب، والتسليح، والدعم اللوجستي والاستخباراتي. وبهذا الانتقال من الدعم غير الرسمي أو الميداني إلى اتفاق مؤسسي مكتوب، حرصت الولايات المتحدة على إضفاء طابع قانوني–دبلوماسي على تعاونها مع البيشمركة، بما يضمن استمرارية الدعم دون أن يُفهم كخطوة اعتراف سياسي باستقلال الإقليم عن بغداد.[47]
يهدف الاتفاق بالأساس إلى تعزيز قدرات البيشمركة كقوة دفاعية ضمن العراق الاتحادي، من خلال تطوير بنيتها العسكرية وإعادة هيكلتها بما يتماشى مع معايير العمل المشترك مع قوات التحالف الدولي. وهو ما يعكس إدراك واشنطن لأهمية البيشمركة ليس فقط كشريك ميداني ضد داعش، بل كقوة محلية يمكن أن تسهم في تحقيق الاستقرار على المدى الطويل في شمال العراق، ومنع عودة التهديدات الإرهابية.[48]
ومع اقتراب موعد انتهاء مذكرة التفاهم في نهاية عام 2026، يثار التساؤل حول ما إذا كانت الولايات المتحدة ستواصل دعمها للبيشمركة أم ستتجه إلى تقليص التزاماتها. ثمة اتجاهان متعارضان في هذا السياق:
- اتجاه الاستمرارية: يستند إلى أن البيشمركة باتت مكونًا لا يمكن تجاوزه في معادلة الأمن العراقي والإقليمي. كما أن استمرار تهديد بقايا تنظيم داعش، فضلًا عن التوترات مع بعض الفصائل المسلحة المدعومة من إيران، يجعل من مصلحة واشنطن الإبقاء على خط إمداد ودعم للبيشمركة. بالإضافة إلى أن وجود ترامب مجددًا في الرئاسة يعزز احتمالية التمسك بالسياسة البراغماتية القائمة على دعم الشركاء المحليين بدلاً من الانخراط العسكري المباشر.
- اتجاه التراجع: ينطلق من أولويات السياسة الأمريكية في تقليص الوجود العسكري في الشرق الأوسط وإعادة توجيه الموارد نحو مواجهة الصين وروسيا. كما أن استمرار الدعم المباشر للبيشمركة قد يخلق توترات مع بغداد وأنقرة، وهو ما تحاول واشنطن تجنبه في إطار إعادة ترتيب تحالفاتها الإقليمية.[49]
وعليه، فإن السيناريو الأكثر ترجيحًا ليس الانسحاب الكامل من الاتفاق، بل إعادة صياغته بعد 2026 بشكل جديد يوازن بين الحفاظ على البيشمركة كشريك أمني موثوق، وبين خفض مستوى الالتزام المباشر. قد يتم ذلك عبر آليات مثل: توسيع الدور الأوروبي في تمويل التدريب والتسليح، أو تحويل جزء من الدعم إلى قنوات مشتركة مع الحكومة العراقية لتفادي الاتهامات بدعم النزعة الانفصالية الكردية.
اتفاق مذكرة التفاهم يمثل إطارًا مؤسساتيًا جعل الدعم الأمريكي للبيشمركة أكثر استدامة وشرعية، لكن مستقبله بعد 2026 سيعتمد على توازن دقيق بين الاعتبارات الأمنية (مكافحة الإرهاب وضبط شمال العراق) والاعتبارات الجيوسياسية (العلاقة مع بغداد وأنقرة). وبالنظر إلى طبيعة سياسة ترامب في فترته الثانية، فإن الاحتمال الأقرب هو الاستمرار في شكل معدل من الدعم، يضمن لواشنطن شريكًا محليًا فعالًا من دون انخراط عسكري مباشر.
ختامًا، إن مسار الدعم الأمريكي للبيشمركة في ظل إدارة ترامب يعكس تحولًا جوهريًا في مقاربة واشنطن للتحالفات مع القوى المحلية في الشرق الأوسط. فالعلاقة لم تعد قائمة على التزامات استراتيجية طويلة الأمد، بل باتت مشروطة بحسابات الكلفة والمنفعة، ما يجعل البيشمركة طرفًا فاعلًا لكنه في الوقت ذاته عرضة للتوظيف السياسي من قِبل القوى الإقليمية والدولية. هذا التحول يضع الأكراد أمام واقع جديد يقوم على الشراكة المؤقتة لا التحالف الدائم، ويجعل مستقبلهم السياسي والأمني مرتبطًا بقدرتهم على المناورة بين بغداد وواشنطن وأنقرة وطهران. ومن ثم، فإن المرحلة المقبلة مرجح أن تتسم باستمرار الدعم الأمريكي ولكن ضمن حدود مرسومة، حيث تُوظف الورقة الكردية كعامل توازن في صراع النفوذ الإقليمي أكثر من كونها التزامًا استراتيجيًا مستقلاً، وهو ما سيؤثر بعمق على شكل الاستقرار في العراق وسوريا وعلى موقع الأكراد في المعادلة الإقليمية الأوسع.
المصادر:
[1] عصام العبيدي، ماذا يخفي تراجع الدعم الأمريكي لبغداد وزيادته لـ “البيشمركة” الكردية؟، نُشر في 19 سبتمبر 2025، Erem News.
https://www.eremnews.com/news/arab-world/66gkuua
[2] العربي الجديد: إدارة ترامب لديها ثقة كبيرة بقوات البيشمركة وتعتبرها شريكاً موثوقاً لقواتها بالعراق، نُشر في 18 سبتمبر 2025، وان نيوز.
[3] أمريكا: تاريخ طويل من التخلي عن الأكراد، نُشر في 16 أكتوبر 2019، الجزيرة.
[4] فورين بوليسي: الأصول السرية للعلاقات الأميركية الكردية تفسر موقف واشنطن، نُشر في 15 أكتوبر 2019، الجزيرة نت.
[5] الولايات المتحدة والكرد، نُشر في 5 سبتمبر 2024، مدارات كرد.
[6] The evolution of the Peshmerga.
[7] Iraqi Kurdistan Regional Guard Forces (peshmerga).
https://www.globalsecurity.org/military/world/para/peshmerga.htm?utm_source
[8] https://www.fpri.org/article/2017/05/getting-peshmerga-reform-right-helping-iraqi-kurds-help-post-isis-iraq/
[9] إعادة النظر في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وكردستان بعد كركوك، نُشر في 4 مايو 2023، BROOKINGS.
[10] كيف ساعد الأكراد في إعادة الولايات المتحدة إلى العراق، نُشر في 29 يونيو 2015، مركز مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط.
[11] Kurds in Iraq and Syria: U.S. Partners Against the Islamic State (CRS Report for Congress), 28 Dec 2016, CRS.
[12] The United States Makes a Play for Rojava, 16 jan 2025.
[13] Turkey (Türkiye): Major Issues and U.S. Relations, 15 Sep 2025, CONGRESS GOV, foreign affairs.
https://www.congress.gov/crs-product/R44000
[14] Balancing acts and breaking points: Iraq’s US-Iran dilemma, 30 June 2025, Atlantic council.
[15] S.Hrg. 117-946 — THE POSTURE OF UNITED STATES CENTRAL COMMAND AND UNITED STATES AFRICA COMMAND, 15 March 2022, CONGRESS GOV.
https://www.congress.gov/event/117th-congress/senate-event/LC73856/text
[16] Theoretical Analysis of the U.S. Foreign Policy Towards Kurds in Syria After 2011, 29 Dec 2022.
https://journal.uor.edu.krd/index.php/JUR/article/view/905?utm_source
[17] Congress urged increased security support for Kurdistan: Senator, 4 May 2024.
https://www.rudaw.net/english/world/04052024?utm_source
[18] Congressmen call for more US support for Kurdistan Region, tougher position toward pro-Iran elements in Iraq, 11 Feb 2023.
https://www.kurdistan24.net/en/story/390668
[19] Kurdistan and Baghdad: A Tangled Web Over Oil and Budgets, 30 Jan 2018, usip.
https://www.usip.org/publications/2018/01/kurdistan-and-baghdad-tangled-web-over-oil-and-budgets
[20] Iraq: Issues in the 116th Congress, 17 July 2020, CRS.
https://www.everycrsreport.com/reports/R45633.html?utm_source
[21] US to directly arm Kurdish peshmerga forces in bid to thwart Isis offensive, 11 Aug 2014, The Guardian.
https://www.theguardian.com/world/2014/aug/11/us-arm-peshmerga-iraq-kurdistan-isis
[22] US looking for long-term security relationship with Iraq: Pentagon, 12 April 2024, RUDAW.
https://www.rudaw.net/english/interview/12042024?utm_source
[23] Kurdish Peshmerga in need of more military support from US-led coalition: Commander, 18 Nov 2024, The New Region.
https://thenewregion.com/posts/1148?utm_source
[24] U.S. Troops Moving on Mosul With Iraqi, Peshmerga Allies, 2018, Foreign Policy,
[25] US and Peshmerga to ensure closer coordination for Mosul offensive, 11 Sep 2016, Iraq News.
https://www.iraqinews.com/baghdad-politics/us-peshmerga-ensure-closer-coordination-mosul-offensive
[26] US withdrawal from Syria leaves Kurds backed into a corner, 20 Dec 2018, BBC.
https://www.bbc.com/news/world-middle-east-46639073
[27] Kurdish Reactions to Their Abandonment in Syria, 25 Oct 2019, Washington institute.
https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/kurdish-reactions-their-abandonment-syria
[28] Dilek Doski, Kurdistan and the United States: ISIS Defeated, What Happens Now?, 28 Nov 2023, Wilson Center.
https://www.wilsoncenter.org/article/kurdistan-and-united-states-isis-defeated-what-happens-now
[29] Peshmerga Reform: High Stakes for the Future of Iraqi Kurdistan, 15 Sep 2022, ISPI.
[30] German Support for Peshmerga and Regional Security, 5 Nov 2024, Kurdistan chronicle.
https://kurdistanchronicle.com/babat/3463?utm_source
[31] Who ‘Defeated’ ISIS? An Analysis of US and Russian Contributions, 6 May 2020, Russia matters.
https://www.russiamatters.org/analysis/who-defeated-isis-analysis-us-and-russian-contributions
[32] Independent Without Independence: The Iraqi Kurdish Peshmerga in International Law, 2018.
https://journals.law.harvard.edu/ilj/wp-content/uploads/sites/84/HLI102_crop-1.pdf?utm_source
[33] Peshmerga reform hangs in the balance in Iraq’s Kurdistan Region, 17 Aug 2023, Middle East Institute.
https://www.mei.edu/publications/peshmerga-reform-hangs-balance-iraqs-kurdistan-region
[34] Kurdistan and the United States: ISIS Defeated, What Happens Now? , 28 Nov 2023, Wilson Center.
https://www.wilsoncenter.org/article/kurdistan-and-united-states-isis-defeated-what-happens-now
[35] The Kurds Remain a Vital Ally as Regional Threats Grow, 23 Aug 2024, the national interest.
https://nationalinterest.org/feature/kurds-remain-vital-ally-regional-threats-grow-212433
[36] Iraq’s Geopolitics, Key Factor for US, EU Energy Security Strategies, 23 March 2023, modern diplomacy.
[37] Costly Incrementalism: U.S. PKK Policy and Relations with Türkiye, 2025, Atlantic Council in Turkey.
https://www.allazimuth.com/wp-content/uploads/2025/01/Outzen-2025_issue.pdf?utm_source
[38] Kurdish government blames Iranian-backed PMF for drone attacks targeting Iraqi Kurdistan, 12 July 2025, FDD.
[39] Why and how Trump’s renewed America First agenda should include the Kurds, 24 Feb 2025, LSE.
[40] Trump and Syria: the worst week for US foreign policy since the Iraq invasion?, 14 Oct 2019, the guardian.
[41] Baghdad denies deal between Peshmerga, US-led coalition, 4 July 2018.
https://www.aa.com.tr/en/middle-east/baghdad-denies-deal-between-peshmerga-us-led-coalition/1193805
[42] Trump withdraws US troops from northern Syria, 7 Oct 2019, Atlantic council.
[43] Remarks by President Trump and President Barzani of the Kurdistan Regional Government Before Bilateral Meeting | Davos, Switzerland, 22 Jan 2020, Foreign Policy.
[44] كيف تفكر الولايات المتحدة في استقلال كردستان العراق؟، نُشر في 12 أكتوبر 2017، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.
[45] Trump’s Syria Shambles, 24 Oct 2019, American progress.
[46] Balancing acts and breaking points: Iraq’s US-Iran dilemma, 30 June 2025, Atlantic council.
[47] البيشمركة تكشف تفاصيل مذكرة التفاهم مع الولايات المتحدة، نُشر في 22 سبتمبر 2023، شفق نيوز.
[48] بيان مشترك حول تحديث مذكرة التفاهم بين وزارة الدفاع الأمريكية ووزارة شؤون البيشمركة بحكومة إقليم كوردستان، نُشر في 21 سبتمبر 2022، رئاسة إقليم كردستان.
[49] إقليم كوردستان والولايات المتحدة يوقعان مذكرة تفاهم لمواصلة دعم البيشمركة والتنسيق الأمني، نُشر في 2022.
https://www.kurdistan24.net/ar/story/311315
باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب