تشهد المملكة المغربية في الآونة الأخيرة موجة واسعة من الاحتجاجات الشبابية عُرفت باسم احتجاجات “جيل زد 212″، يقودها بشكل رئيسي شباب من جيل الألفية وما بعده. وقد انطلقت هذه الاحتجاجات في أواخر سبتمبر 2025 من عدة مدن مغربية كبرى، أبرزها الرباط والدار البيضاء وفاس وأغادير. ومع مرور الوقت، تمددت هذه الاحتجاجات لتطول العديد من الأحياء والمدن والمحافظات المغربية الأخرى. جاءت تلك الاحتجاجات كرد فعل على أزمات اجتماعية واقتصادية متراكمة، أبرزها تدهور الخدمات العامة وخاصة في قطاع الصحة، وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، إضافة إلى موجة الغضب التي أثارتها وفاة ثماني نساء أثناء الولادة في مستشفى عمومي بمدينة أغادير، وهو الحادث الذي اعتبره كثيرون تجسيدًا لفشل المنظومة الصحية، والشرارة التي أشعلت الاحتجاجات. ويتميّز الحراك الحالي بكونه شبابيًا غير مؤطر سياسيًا إلى حد كبير، إذ يعتمد منظموه على وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات مختلفة، مثل “ديسكورد” و”منصة إكس” و”تيك توك”، للتعبئة والتنسيق، بعيدًا عن الأحزاب والنقابات التقليدية. وقد سعت السلطات المغربية إلى التعامل مع الأزمة عبر مقاربات متعددة؛ إذ أعلنت استعدادها للحوار وفتح قنوات للتواصل مع المحتجين، وحاولت التعامل مع المحتجين بشكل سلمي، غير أنّها تبنّت في الوقت ذاته نهجًا حازمًا تجاه بعض المتظاهرين الذين تورّطوا في أعمال عنف أو تخريب خلال مسار الاحتجاجات، وبدأت في التعامل مع المتظاهرين بشكل عنيف نتيجة لتصاعد حدة الاحتجاجات. [1]وتأتي هذه الاحتجاجات في سياقٍ عالميٍّ تتصاعد فيه حدة الحركات الشبابية، والتي شهدتها في الآونة الأخيرة العديد من دول العالم، أبرزها نيبال ومدغشقر. حيث استطاعت العديد من الحركات الشبابية الوصول إلى المنابر السياسية عبر منصات التواصل الاجتماعي الحديثة، الأمر الذي جعلها أكثر قدرة على الانتشار والتأثير.
وانطلاقًا مما سبق، يسعى هذا التقرير إلى استعراض آليات الحركة الشبابية المعروفة باسم حركة “جيل زد 212″، وخلفية الاحتجاجات المغربية وأسبابها وأهم المطالب الرئيسية فيها، إضافةً إلى عرض التجارب الاحتجاجية في المغرب وطريقة تعامل النظام المغربي معها. ويهدف في النهاية إلى أستشراف مستقبل هذه الأزمة بناءً على ما سيتم عرضة وتحليله.
أولًا: حركة “جيل زد 212”: النشأة وآليات التعبئة
يُشير مصطلح “جيل زد” إلى فئة ديموغرافية وُلد أفرادها، حسب أراء بعض الباحثين، بين منتصف التسعينيات وأوائل العقد الثاني من الألفية الثالثة، ويعتمدون بشكل كبير على العالم الرقمي للتعبير عن أفكارهم وآرائهم. حيث تأثرت سنوات تكوينهم بالتفاعل المستمر مع الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية ووسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الإلكترونية ومنصات التفاعل الرقمي المختلفة. وتميّزهم هذه البيئة الرقمية الشاملة بشكل واضح عن الأجيال السابقة. أما بالنسبة إلى الغرب، فتشير الأرقام الرسمية إلى أن “جيل زد” يمثّل نحو 26% من سكانها، وأن أعمارهم تتراوح بين 13 و28 عامًا. وعليه، نجد أن “جيل زد” يتميّز بارتباط قوي بالتكنولوجيا، وطموحات عالية، وقدرة على التأثير المجتمعي والاقتصادي.[2] وهو ما جعلهم أكثر قدرة على التعامل مع معطيات الواقع من خلال الإطار الرقمي، وتأسيس حركات شبابية رقمية مثل حركة “جيل زد 212″، والتي أصبح دويها مسموعًا على أرض الواقع خلال الاحتجاجات الاخيرة في المغرب.
بدأت حركة “جيل زد 212” كمجموعة “رقمية” على منصات التواصل الاجتماعي، وأخذت في الانتشار مع تصاعد الاصوات المنادية بالاصلاح ومحاربة الفساد، ودعت إلى القيام بمظاهرات عبر المنصات المختلفة مثل “ديسكورد” و”تيك توك” و”منصة إكس” أو “تويتر” سابقًا. حيث تحولت هذه المجموعة الرقمية من كونها حركة رقمية بلا أثر واقعي ملموس إلى حركة احتجاجية ميدانية واسعة النطاق، امتدت إلى عدة مدن مغربية مثل الرباط والدار البيضاء ومراكش وأغادير. ويشير أحد الخبراء في الأمن السيبراني إلى أنّه “تم تتبّع بعض هذه المجموعات، وتبيّن أنها نشأت في نهاية عام 2024، وبالتحديد في ديسمبر، كما أنها تستخدم تطبيقات ذكية ذات حماية عالية تمنع التعرف على هوية المشاركين وتُصعِّب على أي جهة رسمية تحديد أعضائها”. ويعبر الرقم “212” في الحركة عن رمز التواصل الدولي للمملكة المغربية، وهو ما جعل الحركة توصف بأنها وطنية.
وعلى الرغم من تكوّن الحركة في نهاية عام 2024، فإنّ تأثيرها لم يبرز إلا في سبتمبر 2025، مع دعوتها إلى إطلاق الاحتجاجات والتظاهر في أواخر شهر سبتمبر، حيث شهدت الدعوات حينها تفاعلًا واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي بين الشباب المغربي، الذي وجد في هذه الحركة مساحة للتعبير عن غضبه من الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتردية. وقد تحوّلت هذه الدعوات الرقمية سريعًا إلى حراك ميداني واسع النطاق، أثرت بشكل واضح على الواقع المغربي.
ثانيًا: الاحتجاجات المغربية 2025 وأسبابها
تمثّلت المطالب الأساسية في الاحتجاجات المغربية الأخيرة في الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي؛ إذ ركّزت الحركة الشبابية منذ انطلاقها على قضايا اجتماعية رئيسية تمسّ الحياة اليومية للمغاربة. ويمكن تلخيص أهم الأسباب التي أدت إلى اندلاع الاحتجاجات في الآتي:
أ- تدهور قطاع الصحة وحالة المستشفيات والتعليم
كانت على رأس المطالب الاساسية في الاحتجاجات المغربية هو إصلاح قطاع الصحة العام والتعليم، إذ تعاني المغرب منذ سنوات، حسب بعض التقارير، من ضعف في البنية التحتية ونقص الكوادر الطبية وغياب التجهيزات الحديثة في المستشفيات العمومية. وقد فجّرت حادثة وفاة ثماني نساء أثناء الولادة في مستشفى الحسن الثاني بمدينة أغادير في منتصف سبتمبر 2025 موجة غضب واسعة في الشارع المغربي، والتي سبقت الإشارة إليها سابقًا، إذ اعتُبرت هذه المأساة دليلًا صارخًا على انهيار المنظومة الصحية وعجزها عن تقديم الرعاية الطبية الأساسية في الحالات الحرجة.
أصبحت هذه الحادثة رمزًا لفشل السياسات الصحية المتراكمة في المغرب، ودفعت الشباب إلى رفع مطالب عاجلة بإصلاح جذري للقطاع الصحي يشمل تجهيز المستشفيات بالأدوات الطبية اللازمة، وتوفير الأطباء والممرضين، وضمان الرعاية الصحية المجانية أو منخفضة التكلفة، وتحسين ظروف عمل الطواقم الطبية.[3]
بالإضافة إلى مطالبهم بإصلاح ملف الصحة، طالب المحتجون بإصلاح القطاع التعليمي، إذ يعاني النظام التعليمي المغربي من فجوة كبيرة بين المناهج الدراسية والمهارات المطلوبة في سوق العمل، كما أنّ العديد من الإصلاحات التي أُقرّت سابقًا لم تُترجم فعليًا إلى تحسين جودة التعليم أو رفع كفاءته العملية، غير أن النظام التعليمي في المغرب يعاني من نقص في الكوادر التعليمية والمعلمين، يقدر عددها حسب بعض المصادر ب60 ألف معلم، وهو ما يؤثر على جودة الحياة التعليمية.[4] وعليه، ارتبط ملف الصحة بمطلب إصلاح التعليم ارتباطًا وثيقًا، إذ يرى المحتجون أنّ تدهور المنظومتين الصحية والتعليمية معًا يعكس سوء إدارة الموارد العامة وغياب العدالة الاجتماعية، ما جعل هذه القضايا في مقدّمة أولويات الحركة الشبابية.
ب- تضارب الأولويات بين الاستثمار على المنشآت الرياضية والانفاق على خدمات المواطنين
إن الاستعدادات المغربية الأخيرة لاستضافة بطولة كأس الأمم الأفريقية 2025 وبطولة كأس العالم 2030 تعد من أبرز العوامل التي دفعت المتظاهرين إلى المطالبة بتوجيه الجهود والموارد نحو تحسين القطاعات العامة وحلّ الأزمات الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة، بدلًا من التركيز المفرط على المشاريع الضخمة والبنية التحتية الرياضية. ورأى المحتجون أن إنفاق مليارات الدراهم على تجهيز الملاعب والفنادق والبنى السياحية في وقتٍ تعاني فيه المستشفيات من نقص حاد في التجهيزات. إذ خصصت المملكة المغربية استثمارات ضخمة لتطوير البنية التحتية الرياضية استعدادًا لاستضافة البطولات الرياضية المختلفة. كما أشار قانون المالية المغربي لسنة 2025 إلى تخصيص ما يفوق2.88 مليار درهم لدعم تطوير المنشآت الرياضية وتنظيم الفعاليات الكبرى، إلى جانب تمويل الاتحادات والجمعيات الرياضية من خلال الصندوق الوطني لتنمية الرياضة. كما تخطط الحكومة لإنفاق ما يقارب 5 مليارات دولار ضمن التحضيرات لمونديال 2030، تشمل بناء ملاعب جديدة وتوسعة ملاعب قائمة لتلبية معايير الاتحاد الدولي لكرة القدم. وبناءً على ذلك، اعتبر المحتجون أن هذه المشاريع تعكس خللًا واضحًا في أولويات الدولة في تعاملها مع الشعب والمجتمع.[5]
ج-انتشار البطالة ومحدودية فرص العمل
بالإضافة إلى النقص الحاد في دعم القطاع الصحي، والتعليمي وتوجيه الاستثمارات إلى تطوير المنشآت الرياضية. يعاني الشباب المغربي من ارتفاع كبير في معدلات البطالة. حيث تشير أحدث البيانات الرسمية إلى أن معدل البطالة في المغرب بلغ نحو 12.8% خلال الربع الثاني من عام 2025، مسجلًا انخفاضًا طفيفًا مقارنة بالربع الأول الذي وصل فيه إلى حوالي 13.3%. غير أنّ البطالة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة ما تزال مرتفعة للغاية، إذ تصل إلى حوالي 35.8%، ما يعكس حجم التحديات التي تواجه هذه الفئة في الحصول على فرص عمل. كما يُسجَّل معدل مرتفع بين خريجي الجامعات يصل إلى نحو 19٪، وهو ما يكشف عن فجوة واضحة بين مخرجات التعليم العالي ومتطلبات سوق العمل.[6] وتُعد هذه المعدلات المرتفعة للبطالة أحد أبرز دوافع الغضب الشعبي، وأحد العوامل الرئيسية في دفع الشباب إلى الاحتجاج.
وعليه، نجد أن أغلب المطالب الأساسية للحركة الشبابية، أو لحركة “جيل زد 212″، هي زيادة الإنفاق على قطاعات الصحة والتعليم، والقضاء على البطالة وتوفير فرص عمل. وهو ما عبّر عنه المتظاهرون في هتافهم: “الشعب يريد إسقاط الفساد”، و”نريد مستشفيات ليس فقط الملاعب”، “الشعب يريد الصحة والتعليم”. ولكن في الآونة الأخيرة بدأت الاحتجاجات تطالب بإقالة الحكومة المغربية، وخاصة في مظاهرات أو احتجاجات يوم 2 أكتوبر، وذلك بعد مقتل ثلاثة أشخاص برصاص قوات الأمن المغربية أثناء محاولتهم اقتحام ثكنة تابعة للدرك الملكي المغربي جنوب المملكة في يوم 1 أكتوبر 2025. حيث أصدرت حركة “جيل زد 212” بيانًا موجّهًا إلى الملك محمد السادس قالت فيه: “نطالب بإقالة الحكومة الحالية لفشلها في حماية الحقوق الدستورية للمغاربة والاستجابة لمطالبهم الاجتماعية”. وهو ما يعبر عن تطوّر كبير في مسار الأحداث التي تتصاعد شيئًا فشيئًا. وفي هذا السياق، تأتي أهمية التعرّف على الحركة الاحتجاجية الشبابية “جيل زد 212″، من أجل فهم آليات عملها ومسار الاحتجاجات الراهنة.[7]
ثالثًا: مسار الاحتجاجات وتحولها من الطابع السلمي إلى الطابع الصدامي وموقف السلطات المغربية منها
أطلقت مجموعة “جيل زد 212” ندائها الأول على تطبيق الألعاب “ديسكورد” في منتصف سبتمبر 2025 للتظاهر والاحتجاج يومي 27 و28 سبتمبر 2025 للمطالبة بالحق في الصحة والتعليم ومحاسبة المسؤولين عن الفساد، واستمرت وتيرة الاحتجاجات في التصاعد، لتتحول تدريجيًا من طابع سلمي في بدايتها إلى طابع أكثر صداميًّا مع السلطات، وبدأت تحدث العديد من أعمال العنف مثل تخريب الممتلكات العامة، ومهاجمة سيارات الشرطة وتحطيمها، ورشق قوات الشرطة بالحجارة والاشتباك معهم. ونتجت عن هذه الاحتجاجات اعتقال العديد من المتظاهرين وإصابة أعداد كبيرة من الأشخاص، بينهم أفراد من قوات الأمن، حيث أسفرت المواجهات عن إصابة نحو 300 شخص، معظمهم من عناصر الشرطة، إضافة إلى اعتقال أكثر من400 متظاهر. ومع ذلك، أفرجت السلطات لاحقًا عن عدد كبير من المتظاهرين، في إشارة إلى رغبتها في تجنّب دفع الوضع نحو مزيد من التصعيد والتوتر.[8]
أدت تصاعد حدة المواجهات بين المتظاهرين وأفراد الأمن إلى مقتل نحو ثلاثة أفراد من المتظاهرين، وذلك بسبب محاولتهم اقتحام ثكنة دارك تابعة للقوات المغربية في يوم 1 أكتوبر 2025. ويجب التنويه إلى أن السلطات المغربية أعلنت في البداية عن مقتل شخصين، ثم ارتفع العدد لاحقًا إلى ثلاثة قتلى وفق بيان رسمي في 2 أكتوبر. وقالت الشرطة المغربية مبررة فعلها ذلك إنها أطلقت النار في بلدة القليعة جنوب البلاد “دفاعاً عن النفس”. وعلى أثر ذلك، أصدرت الحركة بيانًا في 2 أكتوبر 2025 قالت فيه أنها “نؤكد للرأي العام والسلطات أنّ مظاهراتنا ستكون سلمية بالكامل، ونرفض أي شكل من أشكال العنف أو التخريب أو الشغب”. كما جدّدت التأكيد على مطالبها وأبرزها “تعليم يليق بالإنسان وبدون تفاوتات” و”صحة لكل مواطن بدون استثناءات”.[9]
ونتيجة لهذه الحادثة، بدأ العديد من المتظاهرين يطالبون بإقالة الحكومة المغربية ورئيسها عزيز أخنوش، كما أصدرت الحركة في بيان لها يوم 2 أكتوبر طالبت فيه بإقالة الحكومة نتيجة فشلها في الاستجابة لمطالب المحتجين. وعلى الرغم من ذلك، أعلنت الحكومة المغربية استعدادها للحوار والنقاش مع الحركة الشبابية وسماع مطالبها، إلا أنّ هذا التوجّه يواجه عقبات عدّة، أبرزها غياب قيادة واضحة ومحدّدة للحركة، إذ يجتمع أعضاؤها للنقاش والتصويت كل ليلة على منصة ديسكورد لتحديد اتجاهاتهم وخطط تحرّكهم، وهو ما يجعل التواصل معها أو احتواؤها أمرًا بالغ الصعوبة. ويثير ذلك الأمر العديد من التساؤلات حول مدى قدرة الحكومة المغربية الحالية على استيعاب الأزمة.[10]
يمكن القول إنّ السلطات المغربية تعاملت مع الاحتجاجات الأخيرة على مرحلتين أساسيتين: مرحلة التهدئة ومحاولة الحوار، التي ميّزت الأيام الأولى من الحراك، حيث أبدت السلطات استعدادًا لفتح قنوات تواصل مع الحركة الشبابية والمحتجّين في محاولة لاحتواء الغضب الشعبي. غير أنّ تصاعد أعداد المتظاهرين واندلاع أعمال عنف وتخريب في بعض المناطق دفع الأجهزة الأمنية إلى التدخل بشكل أكثر حزمًا لفرض النظام. وقد تخلّل هذا التدخل، في بعض الحالات، استخدام القوة لفضّ التجمّعات واحتواء الاضطرابت، إلا أن السلطات مازالت منفتحة على الحوار والتواصل.
وحتى الآن، لم يصدر عن الملك محمد السادس أي تصريح رسمي موجَّه مباشرة إلى الجماهير أو المتظاهرين بشأن الأحداث الأخيرة، رغم تصاعد حدّة الاحتجاجات وتحوّلها إلى قضية رأي عام وطني. ويُثير هذا الصمت تساؤلات عديدة حول طبيعة تعاطي النظام الملكي والعائلة الملكية مع الأزمة، وما إذا كان القصر الملكي يفضّل مراقبة تطورات الأوضاع ميدانيًا قبل اتخاذ موقف علني، أو يخطّط للتدخل في مرحلة لاحقة عبر إعلان إصلاحات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تهدف إلى احتواء الغضب الشعبي. كما يمكن تفسير هذا الموقف في إطار السياسة التقليدية للنظام المغربي، الذي غالبًا ما يلجأ إلى التريّث قبل إصدار مواقف رسمية في القضايا الداخلية الحساسة، تاركًا المجال في البداية للحكومة والأجهزة الأمنية لمعالجة الموقف ميدانيًا.
وفي الوقت الحالي، ما تزال المظاهرات والاحتجاجات متواصلة، غير أن حركة “جيل زد 212” أعلنت تعليق احتجاجاتها يومي 7 و8 أكتوبر 2025، وذلك – وفقًا لما ورد في بيانها – بهدف إعادة التنظيم والتخطيط لضمان فاعلية التحركات المقبلة، التي دعت إلى استئنافها يوم الخميس 9 أكتوبر 2025، قبيل انعقاد جلسة البرلمان المغربي المقرونة بالخطاب الملكي المقرر إلقائه خلال افتتاح البرلمان يوم الجمعة 10 اكتوبر 2025.[11]
رابعًا: هل سيتم احتواء الأزمة كسابقتها أم ستظل في التصاعد ؟
لم تكن مظاهرات حركة “جيل زد 212″ هي الأولى من نوعها في فترة حكم الملك محمد السادس؛ فقد شهدت المملكة العديد من الاحتجاجات والانتفاضات، كان من أبرزها احتجاجات فبراير 2011، المعروفة بـ”حركة 20 فبراير”، التي جاءت في سياق موجة الثورات العربية أو ما يُعرف بـ”الربيع العربي”. وقد طالب المتظاهرون آنذاك بإصلاحات سياسية عميقة، ومحاربة الفساد، وتوسيع الحريات، وتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وتعديل الدستور بما يتلاءم مع القيم الديمقراطية الحديثة، وتعزيز الفصل بين السلطات. وتميزت الحركة حينها باتساع نطاقها الجغرافي، إذ شملت العديد من المدن المغربية. ورغم الطابع السلمي للمظاهرات، إلا أن بعض المناطق شهدت اشتباكات محدودة مع قوات الأمن أسفرت عن إصابات متفرقة في صفوف الجانبين. ونتيجة لهذه المظاهرات، ألقى الملك محمد السادس في 9 مارس 2011 خطابًا هامًا أعلن فيه عن إصلاحات دستورية شاملة استجابة لمطالب المتظاهرين، وتم احتواء الأزمة حينها بتلبية مطالب الجماهير من خلال التعديلات الدستورية وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة. قد تركت احتجاجات فبراير أثرًا بالغًا في الوجدان والوعي السياسي المغربي، إذ أنها أعادت الأمل في إصلاح العديد من الملفات المغلقة التي يشوبها الفساد والتقصير.[12]
كما شهدت منطقة الريف شمال المغرب، وتحديدًا مدينة الحسيمة، في أواخر عام 2016 اندلاع حراك شعبي واسع عُرف باسم “حراك الريف”، على إثر حادثة وفاة بائع السمك “محسن فكري” سحقًا داخل شاحنة نفايات أثناء محاولته استرجاع بضاعته المصادرة من قبل السلطات. وهذه الحادثة فجّرت غضبًا شعبيًا واسعًا واعتُبرت رمزًا لما يسميه السكان بـ”الحُكرة” أي الظلم والاحتقار، غير أن هذه الحادثة أعادت في الأذهان حادثة محمد بوعزيري في تونس وما آلت إليه الاحداث. جاء هذا الحراك في سياق اجتماعي واقتصادي يتسم بالتهميش التاريخي للمنطقة، وارتفاع معدلات البطالة، وضعف الاستثمارات العمومية في مناطق الريف، وغياب بنية تحتية متطورة وخدمات أساسية مثل الصحة والتعليم. وقد رفع المتظاهرون مطالب تنموية واجتماعية واضحة، أبرزها تحسين الأوضاع الاقتصادية، وبناء مستشفيات، وتوفير فرص العمل، ومحاربة الفساد الإداري والمحسوبية، إلى جانب الدعوة لاحترام كرامة المواطنين وإنهاء السياسات التي يرونها تمييزية تجاه مناطقهم.[13]
ورغم الطابع السلمي الذي اتسمت به أيضًا أغلب المظاهرات، إلا أن السلطات المغربية تعاملت معها بصرامة وبحسم. فقد اعتُقل عدد كبير من النشطاء، من أبرزهم “ناصر الزفزافي” الذي برز كأحد رموز الحراك بخطاباته المطالبة بالعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، وحُكم عليه لاحقًا بالسجن عشرين عامًا مع عدد من قيادات الحركة بأحكام متفاوتة. وقد أدى هذا التوسع في تقديم المتهمين والمحتجين إلى المحاكمات وفي التعامل الحاسم مع الحراك إلى تراجعه تدريجيًا وأنطفائه بحلول نهاية عام 2017. غير أن هذا الحراك ترك أثرًا بالغًا في الوعي السياسي والاجتماعي المغربي، إذ أعاد تسليط الضوء على قضايا التهميش والعدالة المجالية، وأظهر دور الشباب والإعلام الرقمي في الحشد والتنظيم، كما فتح نقاشًا واسعًا حول واقع الحريات وحقوق الإنسان في المغرب.[14]
وبناءً على ما سبق عرضة، يمكن استشراف مستقبل الاحتجاجات الحالية بالاستناد إلى كيفية تعامل السلطة المغربية في ظل عهد الملك محمد السادس مع الحركات السابقة؛ ففي عام 2011 اتسمت المظاهرات بطابع واسع وشامل، ولم تتمكن الحكومة آنذاك من احتوائها إلا من خلال تقديم إصلاحات مرضية للمتظاهرين نتيجة لتأثيرها الكبير على الشارع. أما مظاهرات الأعوام 2016–2017، فقد اقتصرت بشكل أكبر في مناطق محددة، الأمر الذي سهّل على السلطات احتواؤها والتعامل معها بصرامة.
أما في الوقت الحالي، فإن حِدّة المظاهرات آخذة في التزايد، خاصة بعد مقتل ثلاثة متظاهرين، وهو ما قد يدفع الملك إلى تقديم إصلاحات سريعة ومرضية للشباب وللمحتجّين من أجل تهدئتهم. وقد يشمل ذلك الإعلان عن حزمة إجراءات اجتماعية عاجلة ذات أثر ملموس وكلفة رمزية عالية، مثل رفع مخصصات الصحة والتعليم بشكل فوري، أو تقديم دعم نقدي لبعض الفئات والمنشآت، في محاولة لامتصاص الصدمة الحالية وإعادة ترتيب المشهد المشتعل واحتوائه قبل أن يتفاقم.
كما يُحتمل أن يُستجاب لمطالب المتظاهرين الداعية إلى إقالة الحكومة ورئيس الوزراء، نظرًا لتزايد الضغط الشعبي في هذا الاتجاه، وأن يتم إعادة تشكيل الحكومة أو إجراء تعديل وزاري واسع يمنح وجوهًا جديدة مساحة للتأثير السياسي ويعيد الثقة إلى الشارع. ومع ذلك، يبدو من غير المتوقع أن تصل هذه المظاهرات إلى حد إسقاط النظام الملكي نفسه، وذلك استنادًا إلى الخبرات الاحتجاجية السابقة في المغرب، حيث ظلّ النظام في فترات حكمه قادرًا على امتصاص موجات الغضب الشعبي عبر مزيج من الإصلاحات الموجهة والتعاملات الأمنية التدريجية. غير أن الطبيعة التكوينية للحركة الشبابية “جيل زد 212” لا تساعدها على تحويل الغضب الشعبي إلى مشروع سياسي منظم قادر على تهديد استقرار النظام الملكي، نظرًا لعدم امتلاكها قيادة مركزية واضحة أو برنامجًا سياسيًا متكاملًا. وربما قد تحظى الحركات الاحتجاجية بدعم خارجي من أنظمة غير صديقة للنظام المغربي، الأمر الذي قد يدفع بالمملكة إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار. غير أنّه إذا استمرت هذه الاحتجاجات في الحفاظ على وعيها الذاتي وإدراكها لأهمية الإصلاح بعيدًا عن الانزلاق إلى العنف أو التبعية الخارجية، فمن الممكن احتواء الأزمة كما حدث في تجارب سابقة، وهو الاحتمال الاكثر ترجيحًا.
وختامًا، يمكن القول إنّ الاحتجاجات الشبابية التي تقودها حركة “جيل زد 212” تمثل مرحلة جديدة من الحراك الاجتماعي في المغرب، تختلف عن سابقتها من حيث طبيعة التنظيم وأدوات الحشد والتأثير الرقمي، في وقت يتزامن مع ضغوط اقتصادية واجتماعية متراكمة. وفي سياق عالمي تتصاعد فيه الحركات الشبابية العالمية. هذه الحركة تعكس تحوّلًا في وعي الشباب المغربي وقدرته على استثمار الفضاءات الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي لبناء خطاب جماعي وممارسة ضغط على السلطة بطريقة غير تقليدية. كما أن هذه الاحتجاجات تكشف عن فجوة متنامية بين تطلعات الشباب المغربي والواقع الاقتصادي والسياسي القائم، وتؤكد أن الاستقرار في المغرب أصبح أكثر ارتباطًا بقدرة النظام على الاستجابة الفعالة لمطالب العدالة الاجتماعية وتحقيق تنمية متوازنة تعيد الثقة في مؤسساته المختلفة.
[1] أمين زرواطي، “ما هي حركة “جيل زد 212” التي تقود الاحتجاجات في المغرب وما مطالبها؟“، صحيفة France 24، 30 سبتمبر 2025. ما هي حركة “جيل زد 212” التي تقود الاحتجاجات في المغرب وما مطالبها؟
أنظر أيضًا: محمد مستعد، “جيل زد” في المغرب: خلفيات الاحتجاجات وسيناريوهات المستقبل“، صحيفة Deutsche Welle، 2 أكتوبر 2025. “جيل زد” في المغرب: خلفيات الاحتجاجات وسيناريوهات المستقبل – DW – 2025/10/2
[2] المرجع السابق.
[3] METZ, SAM and OUBACHIR, AKRAM. “Morocco’s youth-led protests demand better schools and hospitals, prime minister resignation”, AP news, October 3, 2025. Morocco’s youth-led protests persist after 3 killed | AP News
[4] Houssami, Sarah. “Higher Education Reform in Morocco: Challenges, Insights, and Global Perspectives,” World Journal of Advanced Research and Reviews,val.24, no.02 ,(2024): pp. 953–960. (PDF) Higher education reform in Morocco: Challenges, insights, and global perspectives
See also: “Morocco: Education unionists celebrate progress and continue to mobilise for the Go Public! Fund Education campaign,” Education International, 2024. Morocco: Education unionists celebrate progress and continue to mobilise for the Go Public! Fund Education campaign
[5] Sylvanus, “Morocco Invests Billions in Sports Infrastructure for Major Soccer Tournaments,” Bladi, October 22, 2024. https://en.bladi.net/morocco-invests-billions-sports-infrastructure-major-soccer-tournaments%2C111138.html.
See also: Faouzi, Adil. “2030 World Cup: Is Morocco’s Economy Ready for a $5 Billion Event?”, Morocco World News, December 24, 2024, accessed 2030 World Cup: Is Morocco’s Economy Ready for a $5 Billion Event?
[6] “Morocco — Unemployment Rate,” TradingEconomics, 2025. https://tradingeconomics.com/morocco/unemployment-rate
[7] “جيل زد 212 التي تقود الاحتجاجات في المغرب تطالب بإقالة الحكومة“، جريدة الشرق الأوسط، 3 أكتوبر 2025. «جيل زد 212» التي تقود الاحتجاجات في المغرب تطالب بإقالة الحكومة
[8] “جيل زد 212 التي تقود الاحتجاجات في المغرب تطالب بإقالة الحكومة“، مرجع سبق ذكره.
[9] “المغرب: المحتجون يطالبون بإقالة الحكومة بعد 6 أيام من التظاهرات:”، منصة الميدان، 3 أكتوبر 2025. المغرب: المحتجون يطالبون بإقالة الحكومة بعد 6 أيام من التظاهرات | الميادين
[10] المرجع السابق.
[11] “المغرب: حركة «جيل زد 212» تعلق احتجاجاتها مؤقتًا لإعادة التنظيم والتخطيط.” بوابة الشروق، 7 أكتوبر 2025. المغرب.. حركة جيل زد 212 تعلق مظاهراتها حتى الخميس – بوابة الشروق
[12] علي أموزاي، “حركة 20 فبراير المغربية: جذور الفشل ودروسٌ للمستقبل“، tni longreads، 27 أكتوبر 2021. حركة 20 فبراير المغربية: جذور الفشل ودروسٌ للمستقبل – Longreads
[13] الحسن حما، “التحولات السياسية والاجتماعية بالمغرب خلال 2016-2017 في ضوء الحراك الاحتجاجي“، مركز برق للابحاث والدراسات، 2017. التحولات السياسية والاجتماعية بالمغرب خلال 2016-2017 في ضوء الحراك الاحتجاجي – BARQ For Policies and Consultations
[14]” المغرب: دعوات حقوقية دولية لإطلاق سراح قائد “حراك الريف” ناصر الزفزافي“، فرانس 24، 11 أغسطس 2023. المغرب: دعوات حقوقية دولية لإطلاق سراح قائد “حراك الريف” ناصر الزفزافي
أنظر أيضًا: محمد الإدريسي، “الحراك الاحتجاجي في الريف المغربي: كيف وإلى أين؟“، مركز دراسات الوحدة العربية، 2018. الحراك الاحتجاجي في الريف المغربي: كيف وإلى أين؟(*) – Centre for Arab Unity Studies
باحث مساعد في النظم و النظرية السياسية بمركز ترو للدراسات والتدريب