شهدت الولايات المتحدة الأمريكية إغلاقـًا فيدراليًا في 1 أكتوبر 2025 بعد فشل الكونغرس في إقرار تشريع تمويل جديد للسنة المالية 2026 ويُعدّ شلل الموازنة الحكومية الأمريكية (Government Shutdown) من أبرز الأزمات ذات الطابعين السياسي والاقتصادي في النظام الأمريكي، إذ يؤدي إلى توقف عمل عدد كبير من مؤسسات الدولة نتيجة عجز الكونغرس والإدارة عن التوصل إلى اتفاق بشأن إقرار الموازنة العامة أو تشريع التمويل المؤقت. وتنعكس آثار هذه الأزمة على الاقتصادين الأمريكي والعالمي نظرًا للدور المحوري الذي يحتله الاقتصاد الأمريكي في النظام المالي الدولي، ويُقصد بشلل الموازنة توقف مؤقت لأنشطة الحكومة الفيدرالية بسبب عدم اعتماد الكونغرس لقانون الموازنة أو فشل تمرير قانون يسمح بالإنفاق المؤقت. ووفقًا للقانون الأمريكي، لا يجوز للحكومة إنفاق أي أموال دون تفويض من الكونغرس، مما يؤدي غياب هذا التفويض إلى تعليق الأنشطة الحكومية غير الأساسية، في حين تستمر فقط الخدمات الحيوية مثل الأمن والدفاع والرعاية الطبية الطارئة.
يحدث الإغلاق الحكومي الأمريكي عندما يفشل السياسيون الجمهوريون والديمقراطيون في الاتفاق على حل للنزاع حول الميزانية[1]. على الرغم من شيوع الخلافات حول الميزانية في السياسة الأمريكية، إلا أن هذا الصراع على الإنفاق متوتر بشكل خاص لأن الرئيس دونالد ترامب قلّص حجم الحكومة الوطنية بشكل كبير منذ توليه منصبه، وألمح إلى أنه قد يستغل المأزق الحالي لإجراء المزيد من التخفيضات، وتكتسب أزمة شلل الموازنة أهمية مضاعفة لكونها لا تؤثر فقط على الاقتصاد الأمريكي الداخلي – من خلال تعطيل الخدمات العامة وتأخير دفع رواتب الموظفين الفيدراليين وتراجع الإنفاق الاستهلاكي – بل تمتد آثارها إلى الاقتصاد العالمي كله، بالنظر إلى المكانة المحورية للاقتصاد الأمريكي في النظام المالي الدولي، ودور الدولار الأمريكي كعملة احتياط رئيسية، كما أن استمرار الإغلاق لفترات طويلة يُضعف ثقة الأسواق العالمية في استقرار السياسة الاقتصادية الأمريكية، ويؤدي إلى اضطرابات في أسواق الأسهم والسندات، وارتفاع تكاليف الاقتراض الحكومي.
وفي السنوات الأخيرة، ازداد الطابع السياسي الحاد لهذه الأزمة، لا سيما خلال إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي اتخذ من الخلافات حول الإنفاق العام والهجرة وأمن الحدود مدخلًا لإعادة تشكيل أولويات الموازنة الفيدرالية. فمع تمسكه بسياسة تقليص حجم الحكومة الفيدرالية وتقليص الإنفاق العام، ازداد النزاع بين الجمهوريين والديمقراطيين حول بنود التمويل وأولويات الصرف، وعليه، يستعرض هذا المقال التحليلي أبرز ملامح الإغلاق الحكومي الأمريكي، وأسبابه السياسية والتاريخية، وآثاره الاقتصادية المحلية والدولية، مع تحليل آليات تأثيره على أداء الاقتصاد الكلي الأمريكي، وسوق العمل، والثقة الاستثمارية، إضافة إلى انعكاساته على الاقتصاد العالمي بوصفه المتأثر المباشر بالتقلبات السياسية والمالية في الولايات المتحدة.
أولاً – تاريخ الإغلاقات الحكومية في الولايات المتحدة: من فورد إلى ترامب :
يُظهر تاريخ الموازنات الأمريكية منذ عام 1976 تعدد حالات شلل الموازنة الحكومية (Government Shutdown) نتيجة الخلافات المتكررة بين الجمهوريين والديمقراطيين حول بنود الإنفاق العام، والضرائب، والبرامج الاجتماعية. وقد أصبحت هذه الإغلاقات سمة متكررة للنظام السياسي الأمريكي، تعكس حدة الاستقطاب الحزبي وتأثيره على الأداء الاقتصادي والإداري للدولة.
جدول رقم (1)
تاريخ الإغلاقات الحكومية في الولايات المتحدة في الفترة من 1976 -2018
مدة الشلل (بالأيام الكاملة) | تاريخ انتهاء التمويل | الرئيس الأمريكي |
10 | 30 سبتمبر 1976 | جيرالد فورد |
12 | 30 سبتمبر 1977 | جيمي كارتر |
8 | 31 أكتوبر 1977 | جيمي كارتر |
8 | 30 نوفمبر 1977 | جيمي كارتر |
17 | 30 سبتمبر 1978 | جيمي كارتر |
11 | 30 سبتمبر 1979 | جيمي كارتر |
2 | 20 نوفمبر 1981 | رونالد ريغان |
1 | 30 سبتمبر 1982 | رونالد ريغان |
3 | 17 ديسمبر 1982 | رونالد ريغان |
3 | 10 نوفمبر 1983 | رونالد ريغان |
2 | 30 سبتمبر 1984 | رونالد ريغان |
1 | 3 أكتوبر 1984 | رونالد ريغان |
1 | 16 أكتوبر 1986 | رونالد ريغان |
1 | 18 ديسمبر 1987 | رونالد ريغان |
3 | 5 أكتوبر 1990 | جورج بوش الأب |
5 | 13 نوفمبر 1995 | بيل كلينتون |
21 | 15 ديسمبر 1995 | بيل كلينتون |
16 | 30 سبتمبر 2013 | باراك أوباما |
2 | 19 يناير 2018 | دونالد ترامب |
34 | 21 ديسمبر 2018 | دونالد ترامب |
يتضمن الجدول السابق عشرين حالة من حالات شلل الموازنة التي شهدتها الولايات المتحدة خلال الفترة من عام 1976 إلى عام 2018، موضحًا تاريخ انتهاء التمويل، واسم الرئيس القائم، ومدّة الشلل بالأيام.
ومن خلال استعراض البيانات يمكن ملاحظة ما يلي:
تميّزت فترة الرئيس رونالد ريغان (1981–1989) بتعدد حالات شلل الموازنة قصيرة المدة، إذ شهدت الولايات المتحدة خلال عهده سبع إغلاقات بين عامي 1981 و1987، كانت في الغالب تستمر ليوم أو يومين فقط نتيجة خلافات متكررة حول برامج الإنفاق الفيدرالي، وفي المقابل، شهد عهد الرئيس دونالد ترامب أطول إغلاق حكومي في تاريخ الولايات المتحدة، حيث استمر 34 يومًا بين ديسمبر 2018 ويناير 2019 بسبب الخلاف حول تمويل الجدار الحدودي مع المكسيك، كما شهدت فترة الرئيس بيل كلينتون واحدة من أكثر حالات الشلل تأثيرًا سياسيًا واقتصاديًا بين عامي ( 1996- 1995)، إذ استمر أحد الإغلاقين خلال تلك الفترة 21يومًا نتيجة النزاع حول أولويات الموازنة وبرامج الرعاية الصحية. أما في عهد الرئيس باراك أوباما (2013) ، فقد استمر الإغلاق 16 يومًا إثر خلاف بين الكونغرس الذي كان يهيمن عليه الجمهوريون والإدارة الديمقراطية بشأن تمويل قانون الرعاية الصحية “Obamacare”. ومن جهة أخرى، شهدت إدارة جيمي كارتر في أواخر السبعينيات سلسلة من الإغلاقات المتكررة، بلغ عددها خمس حالات تراوحت مدتها بين 8 و17 يومًا، نتيجة الخلافات حول تمويل برامج الرعاية الاجتماعية والدفاع.
ثانياً – الأسباب الرئيسية للإغلاق الحكومي[2]:
1– الأسباب السياسية والحزبية:
- الاستقطاب الحزبي الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين:
وقع الإغلاق الحكومي نتيجة فشل الجمهوريين والديمقراطيين في التوصل إلى اتفاق بشأن مشروع قانون تمويل الخدمات الحكومية. ووفقًا للنظام الأمريكي، يتطلب إقرار خطط الإنفاق موافقة مختلف فروع الحكومة قبل أن تصبح قوانين نافذة. يُذكر أن التشكيل الحالي للكونغرس الأمريكي لعام 2025 يشهد استمرار هيمنة الحزب الجمهوري على مجلس النواب، حيث يشغل 219 مقعدًا مقابل 212 مقعدًا للحزب الديمقراطي، مع وجود أربعة مقاعد شاغرة لم تُشغَل بعد[3]و يتولى مايك جونسون (Mike Johnson) رئاسة مجلس النواب الأمريكي وزعامة الحزب الجمهوري فيه، بينما يقود هاكيم جيفريز (Hakeem Jeffries) كتلة الحزب الديمقراطي داخل المجلس بصفته زعيم الأقلية الديمقراطية.أما في مجلس الشيوخ، فيتوزع التمثيل الحزبي بواقع 53 مقعدًا للجمهوريين و45 مقعدًا للديمقراطيين[4]، إلى جانب عضوين مستقلين يصوتان عادةً مع الكتلة الديمقراطية، ويشغل تشاك شومر (Chuck Schumer) منصب زعيم الأغلبية الديمقراطية، في حين يتولى جون ثيون (John Thune) قيادة الكتلة الجمهورية بوصفه زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ. ويعكس هذا التوازن بين المجلسين استمرار حالة الانقسام السياسي بين الحزبين الكبيرين، فيما يسيطر الحزب الجمهوري حاليًا على مجلسي الكونغرس الأمريكي، إلا أنه في مجلس الشيوخ لا يمتلك الأغلبية الكافية (60 صوتًا) المطلوبة لتمرير مشروع قانون الإنفاق، وهو ما يمنح الحزب الديمقراطي قوة تفاوضية كبيرة داخل المجلس.مما يجعل تمرير التشريعات، وخاصة تلك المتعلقة بالموازنة العامة والسياسات الاقتصادية، أكثر تعقيدًا ويزيد من احتمالات الأزمات السياسية مثل الإغلاق الحكومي.
ويطالب الديمقراطيون بتمديد الإعفاءات الضريبية المنتهية التي تُسهم في خفض تكاليف التأمين الصحي لملايين الأمريكيين، بالإضافة إلى إلغاء تخفيضات إدارة ترامب في تمويل برنامج ميديكيد[5]، وهو برنامج حكومي يقدم خدمات الرعاية الصحية للمسنين وذوي الإعاقة وذوي الدخل المحدود. كما يعارضون تخفيضات الإنفاق المقترحة على وكالات الصحة الفيدرالية. ورغم أن مجلس النواب أقر مشروع قانون مؤقت لتفادي الإغلاق، فإن مجلس الشيوخ لم يمنحه الموافقة النهائية، مما أدى إلى استمرار الأزمة[6].
- تنافس الحزبين علي تحقيق مكاسب سياسية على حساب الآخر:
يمثل الإغلاق الحكومي الأمريكي تجسيدًا لصراع أيديولوجي عميق بين الجمهوريين والديمقراطيين حول طبيعة دور الدولة ووظائفها. فبينما يتمسك الجمهوريون، بزعامة ترامب، برؤية محافظة تدعو إلى تقليص الإنفاق العام وتقليص حجم الجهاز الإداري الفيدرالي، معتبرين الإغلاق فرصة لإعادة هيكلة الحكومة، يتمسك الديمقراطيون برؤية اجتماعية تدافع عن استمرار برامج الرعاية الصحية مثل “أوباماكير” و”ميديكيد” ورفض تمويل مشاريع مثل الجدار الحدودي مع المكسيك التي لا يرونها أولوية وطنية. وهكذا، لم يكن الإغلاق مجرد أزمة مالية مؤقتة، بل انعكاسًا لصراع سياسي وأيديولوجي بين رؤيتين متناقضتين للدولة الأمريكية: دولة محدودة الدور مقابل دولة راعية ومؤثرة في حياة المواطنين.
كما يسعى كلاً من الحزبين الجمهوري والديمقراطي إلى تحميل الطرف الآخر مسؤولية الأزمة أمام الرأي العام الأمريكي. فـالديمقراطيون يلقون باللوم على الرئيس دونالد ترامب والجمهوريين بسبب سياساتهم المتشددة تجاه الإنفاق العام وسعيهم إلى تقليص دور الدولة في الاقتصاد، معتبرين أن تلك السياسات هي السبب المباشر في تعطيل الموازنة وإغلاق المؤسسات الحكومية. في المقابل، يرى الجمهوريون أن الديمقراطيين يستخدمون الإغلاق الحكومي كورقة ضغط سياسية لعرقلة سياسات الرئيس ترامب وإحراجه أمام الناخبين.
وفي هذا السياق، قال توم كول، رئيس لجنة الاعتمادات في مجلس النواب (جمهوري): “لقد صوتنا للحفاظ على تمويل الحكومة لمدة سبعة أسابيع إضافية بينما نستأنف التفاوض على مشاريع الموازنة، لكن بعض الديمقراطيين رفضوا ذلك، وهم الآن يتحملون مسؤولية تعطيل الحكومة”[7].
أما تشاك شومر، زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ (ديمقراطي)، فقد رد على تلك الاتهامات بقوله: ” ترامب يرفض التفاوض بجدية، ويستخدم المواطنين كرهائن، ويهدد الشعب الأمريكي لابتزاز سياسي.” كما أكد الديمقراطيون في تصريحاتهم أنهم يطالبون بتمديد إعانات التأمين الصحي ووقف تخفيضات التمويل التي طالت برنامج “ميديكيد”، معتبرين أن استمرار هذه السياسات سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية على الفئات الأضعف في المجتمع.
- صراعات داخل الحزب الديمقراطي نفسه:
شهد الحزب الديمقراطي انقسامًا داخليًا واضحًا حول كيفية التعامل مع الإغلاق الحكومي، حيث تباينت مواقف قياداته بين مؤيد ومعارض لاستخدام الإغلاق كوسيلة ضغط سياسية. فبينما رأت بعض القيادات أن المضي في خيار الإغلاق يمثل أداة فعّالة لكشف “النهج السلطوي لإدارة ترامب” وتسليط الضوء على تجاوزاتها أمام الرأي العام، حذّر آخرون من تداعيات هذا المسار وما قد يترتب عليه من خسائر سياسية إذا ما تم تحميل الديمقراطيين جزءًا من مسؤولية تعطّل مؤسسات الدولة وتدهور الخدمات العامة.
وتتمثل جوهر نقطة الخلاف داخل الحزب في مدى الاستعداد للاستمرار في الإغلاق الحكومي واستخدامه كورقة ضغط لتحقيق أهدافهم السياسية، خصوصًا تلك المتعلقة بتمديد إعانات التأمين الصحي(Obamacare subsidies). فقد أبدى بعض أعضاء الحزب في مجلس الشيوخ ميلاً للتراجع، وصوّتوا لصالح مشروع القرار الجمهوري “النظيف” لإعادة فتح الحكومة، في إشارة إلى تصدّع الموقف الديمقراطي الموحد، بينما تمسكت القيادة، وعلى رأسها تشاك شومر، بموقفها الرافض للتنازل أمام ضغوط إدارة ترامب، وبذلك يمكن القول إن الحزب الديمقراطي يعيش حالة من التباين بين جناح متشدد يرى في الإغلاق أداة ضرورية لمواجهة الجمهوريين، وجناح معتدل يفضّل تسوية الخلافات لتجنّب الأضرار السياسية والاقتصادية المترتبة على استمرار الأزمة.
2 – الأسباب المؤسسية والإجرائية:
- فشل الكونغرس في تمرير قانون الموازنة أو التمويل المؤقت:
وفق النظام الأمريكي، يتعين على الكونغرس إقرار قانون يسمح بتمويل الحكومة الفيدرالية. ومع استمرار الخلافات بين الديمقراطيين والجمهوريين، تتوقف الحكومة عن تلقي التمويل اللازم، ولا يُسمح لها قانونًا بالإنفاق، مما يؤدي إلى الإغلاق الحكومي حتى يتم تمرير قانون التمويل. - محاولات الإدارة التنفيذية توسيع سلطاتها المالية:
سعت إدارة ترامب إلى تجاوز صلاحيات الكونغرس في تحديد أوجه الإنفاق، وهو ما أثار غضب الديمقراطيين ودفعهم إلى مواجهة سياسية حادة[8].
ثالثاً- الآثار الاقتصادية لإغلاق الحكومة علي الاقتصاد الأمريكي:
تعتمد العواقب الاقتصادية لإغلاق الحكومة الفيدرالية الحالي بشكل حاسم على مدة استمراره. إذا حُلّ سريعًا، ستكون التكاليف ضئيلة، ولكن إذا استمر لفترة طويلة، فقد يُدخل الاقتصاد الأمريكي في دوامة. يعود ذلك إلى أن الاقتصاد يمرّ بالفعل بحالة هشة، مع معاناة سوق العمل، وفقدان ثقة المستهلكين، وتزايد حالة عدم اليقين. وبالتالي فإن الاقتصاد سيتأثر بالتأكيد بشكل مباشر بالناتج المحلي الإجمالي نتيجة الإغلاق الطويل المدي، لكن الآثار غير المباشرة هي التي قد تكون أكثر ضررًا[9]:
1- الآثار الاقتصادية المباشرة لإغلاق الحكومة :
- تأثير الإغلاق الحكومي الحالي علي معدل البطالة والتوظيف:
يشير الإغلاق الحكومي إلى تعليق مؤقت لعدد من الخدمات الفيدرالية نتيجة عدم إقرار الموازنة العامة في موعدها، مع استمرار بعض القطاعات الحيوية كالدفاع والأمن القومي. ويُتوقع أن يُمنح نحو %40 من العاملين في الجهاز الفيدرالي – أي ما يقارب 750 ألف موظف – إجازة إجبارية بدون أجر، وهو ما ينعكس سلبًا على معدلات التوظيف والاستهلاك خلال فترة الإغلاق، مما يؤدي إلي زيادة معدل البطالة.
- تراجع مؤقت للنشاط الاقتصادي:
تسبب الإغلاق الحكومي في تراجع مؤقت للنشاط الاقتصادي نتيجة تعليق الإنفاق الفيدرالي وتأجيل تنفيذ عدد من المشروعات العامة والخدمية، مما يؤدي إلى انخفاض الطلب الكلي وتراجع الإنتاج في القطاعات المرتبطة بالإنفاق الحكومي، مثل المقاولات، والخدمات اللوجستية، والبحث العلمي. كما يتأثر الدخل الشخصي لعدد كبير من العاملين الفيدراليين الذين يُمنحون إجازات غير مدفوعة الأجر، الأمر الذي ينعكس على مستويات الاستهلاك المحلي ويؤدي إلى تباطؤ مؤقت في النمو الاقتصادي
- انعكاسات الإغلاق على الأسواق المالية :
تُظهر البيانات التاريخية أن الإغلاقات الحكومية لا تؤدي عادةً إلى اضطرابات كبيرة أو طويلة الأمد في الأسواق المالية. وفي الإغلاق الحالي:
- ارتفعت الأسهم الأمريكية بشكل طفيف في بدايته.
- واصل الذهب ارتفاعه باعتباره ملاذًا آمنًا للمستثمرين.
- تراجع مؤشر الدولار الأمريكي قبل أن يستعيد جزءًا من خسائره.
أما عوائد سندات الخزانة الأمريكية فقد شهدت انخفاضًا محدودًا نتيجة زيادة الإقبال على الأصول الآمنة، دون أن يتأثر سوق السندات باضطرابات ملحوظة.
وعلى المدى المتوسط أو الطويل وفي حال استمرار الإغلاق يُتوقع أن يُحدث الإغلاق الحكومي تأثيرات ملموسة على الأسواق المالية وثقة القطاع الخاص، إذ يؤدي ارتفاع حالة عدم اليقين إلى تراجع شهية المستثمرين للمخاطرة واضطراب حركة رأس المال. ومع الإغلاق الطويل، قد ترتفع معدلات المخاطر، وتقل الثقة، وقد تتأثر التصنيفات الائتمانية للحكومة الأمريكية.[10] كما يُتوقع أن تمتد آثاره إلى الأسواق المرتبطة بالتضخم، خاصةً إذا تسبب في تأجيل نشر بيانات مؤشر أسعار المستهلك (CPI). وقد يؤدي هذا التأخير إلى اضطراب مؤقت في تسعير السندات المحمية من التضخم (TIPS) ومقايضات التضخم، نظرًا لاعتماد هذه الأدوات بشكل مباشر على البيانات الدورية الخاصة بالتضخم.
2- الآثار الاقتصادية غير المباشرة للاغلاق الحكومي:
- التأثير النفسي على المستهلكين والشركات:
يتوقف التأثير الكلي للإغلاق الحكومي إلى حدٍّ كبير على العامل النفسي للمستهلكين. تشير البيانات إلى تراجع ثقة المستهلكين مع تباطؤ سوق العمل، بينما أظهرت ثقة الشركات تباينًا بين القطاعات، حيث يعاني القطاع الصناعي من انكماش. وإذا استمر الإغلاق الحكومي لفترة طويلة، فقد تؤدي الآثار النفسية إلى تدهور أعمق في ثقة كل من المستهلكين والشركات. وبما أن إنفاق المستهلكين يمثل نحو 70% من إجمالي النشاط الاقتصادي الأمريكي، فإن أي انخفاض في الثقة الاستهلاكية قد يُعدّ نقطة تحول حاسمة في مسار الاقتصاد.[11]
- اضطراب السياسة النقدية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي:
قد يتسبب الإغلاق في تأخير إصدار البيانات الاقتصادية الرئيسية في فترة تُعد حاسمة لمسار الاقتصاد الأمريكي، مما يُعقّد مهمة صنّاع السياسات في مجلس الاحتياطي الفيدرالي وكذلك المستثمرين وقادة الأعمال الذين يعتمدون على تلك البيانات لتقييم الاتجاهات الاقتصادية واتخاذ القرارات المناسبة في بيئة تتسم بعدم اليقين والتقلبات العالية.[12] ويؤدي غياب البيانات الحكومية أثناء الإغلاق إلى ارتباك في مسار السياسة النقدية، إذ يعتمد الاحتياطي الفيدرالي على مؤشرات اقتصادية دورية (مثل التضخم والنمو والبطالة) لتوجيه قراراته. ومع استمرار الإغلاق، يزداد الغموض أمام صُنّاع القرار النقدي ويُحتمل أن يتباطأ اتخاذ قرارات الفائدة المناسبة، مما يُضيف عبئًا على النمو الاقتصادي.
- توقف الرواتب وتراجع الإنفاق الأسري:
كما أن احتمال تسريح أعداد كبيرة من الموظفين الحكوميين، بما يتجاوز حالات الإجازة المؤقتة، قد يُفاقم من حدة الضرر الاقتصادي. فمثل هذا التسريح لا يقتصر أثره على فقدان دخل مؤقت، بل يمتد ليُحدث خسارة أكثر ديمومة في الدخل ورأس المال البشري، مما يُضعف الطلب الكلي ويُعمّق تداعيات البطالة على القطاع الخاص[13]، هذا التراجع في الاستهلاك يضغط على الأنشطة الاقتصادية المحلية ويؤدي إلى تباطؤ في دورة الدخل والإنفاق.
وإذا تجاوز الإغلاق مرحلة الإجازة المؤقتة (furlough) إلى تسريح فعلي للموظفين الحكوميين، فإن الآثار ستكون أكثر حدة واستدامة. فالتسريح لا يعني فقط فقدان الدخل، بل أيضًا خسارة رأس المال البشري والخبرة، مما يؤدي إلى إضعاف الطلب الكلي وارتفاع البطالة في القطاعين العام والخاص.
- الآثار غير المباشرة على الدخل والإنتاج:
تُضاف الخسائر غير المباشرة، مثل فقدان دخول الموظفين الفيدراليين والعاملين بعقود حكومية، إلى الأثر العام للإغلاق، مما يقلل من مستويات الاستهلاك والإنتاج، ويؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي في المدى القصير والمتوسط. وتُقدّر شركة جولدمان ساكس أن الإغلاق سيُخفّض نمو الناتج المحلي الإجمالي بنحو 0.2 نقطة مئوية كل أسبوع، وأن النمو سيرتفع بنفس النسبة في الربع الذي يلي انتهاء الإغلاق[14].
تُضاف هذه الآثار غير المباشرة إلى الانعكاسات المباشرة المتمثلة في فقدان الدخل لموظفي الحكومة الفيدرالية والعاملين بعقود حكومية، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع معدلات الاستهلاك والإنتاج.
3- تأثير الاغلاق علي الخدمات الحكومية :
- استمرار الخدمات الأساسية :
خلال الإغلاق الحكومي، تتوقف بعض الخدمات العامة بينما تستمر أخرى، بحسب درجة أهميتها وطبيعة تمويلها. تستمر الخدمات الأساسية كالمعتاد، مثل حماية الحدود، وإنفاذ القانون، ودائرة الهجرة والجمارك (ICE)، والرعاية الطبية في المستشفيات، ومراقبة الحركة الجوية، غير أن الموظفين في هذه القطاعات غالبًا لن يتقاضوا رواتبهم طوال فترة الإغلاق، رغم استمرارهم في أداء مهامهم.
– استمرار برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية:
يستمر تدفق مزايا مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية، بفضل إقرارها من قِبَل الكونغرس بقوانين لا تتطلب موافقة سنوية (مع أن الخدمات التي تقدمها مكاتب استحقاقات الضمان الاجتماعي قد تكون محدودة خلال فترة الإغلاق). بالإضافة إلى ذلك، تستطيع وزارة الخزانة الأمريكية الاستمرار في سداد فوائد ديونها في موعدها[15]. ومع ذلك، فإن الخدمات الإدارية المقدمة من مكاتب استحقاقات الضمان الاجتماعي قد تكون محدودة، كما تواصل وزارة الخزانة الأمريكية سداد فوائد الديون في مواعيدها دون تأخير.
- إجازات غير مدفوعة وتعليق العقود الفيدرالية:
عند حدوث إغلاق حكومي، تُلزم الوكالات الفيدرالية بتصنيف موظفيها على أنهم “أساسيون” أو “غير أساسيين”. يستمر الموظفون المصنفون على أنهم “أساسيون” في العمل خلال فترة الإغلاق. أما الموظفون المصنفون على أنهم “غير أساسيين” فيُمنحون إجازة بدون أجر. في ولاية ماريلاند، سيتم منح إجازة لجزء كبير من القوى العاملة الفيدرالية – أي أنهم لن يُسمح لهم بالعمل ولن يتقاضوا رواتبهم إلا بعد انتهاء الإغلاق. [16]
سيتم منح الموظفين الحكوميين غير الأساسيين إجازة غير مدفوعة الأجر مؤقتًا. كما سيُحرم المتعاقدون الذين يعملون لدى الوكالات الفيدرالية ولكنهم غير موظفين بشكل مباشر لدى الحكومة من العمل، ومن المرجح أن تُقلص أو تُغلق خدمات مثل برنامج المساعدة الغذائية، ودور الحضانة الممولة اتحاديًا، ومؤسسات مثل متاحف سميثسونيان. ومن المتوقع أيضًا أن تقوم العديد من الوكالات، مثل مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها والمعاهد الوطنية للصحة، بتسريح العديد من العاملين، مما يؤثر على مشاريع البحث الجارية[17]وبحسب خطة الطوارئ لوزارة الصحة والخدمات البشرية الأمريكية (HHS Contingency Staffing Plan)، من المتوقع تسريح حوالي 32,460 موظفًا( أي حوالي 41٪ من قوة العمل في HHS) في حالة الإغلاق، مما يشمل وكالات مثل مراكز السيطرة على الأمراض (CDC) والمعاهد الوطنية للصحة (NIH[18] وبجانب أخر هناك انتقادات بسبب استمرار أعضاء الكونغرس في تقاضي رواتبهم خلال فترة الإغلاق، وهي مسألة أثارت انتقادات سياسية واسعة، نظرًا لتوقف رواتب آلاف الموظفين الفيدراليين في الوقت ذاته.
- تأثر خدمات النقل الجوي والسفر:
قد يشهد قطاع النقل الجوي تأخيرات في الرحلات. وقد حذرت الهيئة التجارية “خطوط الطيران الأمريكية” من أن أنظمة الطيران قد تتباطأ وتفقد كفاءتها خلال الإغلاق. كما حذّرت وكالات جوازات السفر من أن التعامل مع وثائق السفر سيستغرق وقتًا أطول من المعتاد.
- الخدمات البريدية والتعليمية:
تواصل خدمة البريد الأمريكية عملها بشكل طبيعي نظرًا لعدم اعتمادها على تمويل الكونغرس. أما المدارس في الولايات المتحدة، فهي تُموَّل أساسًا من ميزانيات الولايات، بينما تتحمل الحكومة الفيدرالية مسؤولية تقديم المنح والقروض الطلابية، والتي قد تتعطل مؤقتًا خلال فترة الإغلاق. ومع ذلك، فإن تأثير الإغلاق على هذه المنح سيكون محدودًا، إذ تُصرف عادة خلال فصل الصيف قبل بدء العام الدراسي.
رابعاً – الآثار الاقتصادية لإغلاق الحكومة الأمريكية علي الاقتصاد العالمي:
يُعدّ الإغلاق الحكومي الأمريكي حدثًا اقتصاديًا وسياسيًا ذا أبعاد تتجاوز الحدود الوطنية للولايات المتحدة، نظرًا للمكانة المحورية التي تحتلها في الاقتصاد العالمي. فعندما تتوقف مؤسسات الحكومة الفيدرالية عن العمل أو تتعطل برامجها المالية، لا يقتصر التأثير على الداخل الأمريكي فحسب، بل يمتد إلى الأسواق الدولية، وحركة التجارة، وأسعار السندات والعملات، وثقة المستثمرين العالميين. ويرجع ذلك إلى الدور المركزي للدولار الأمريكي كعملة احتياط دولية، وللسوق الأمريكية كمحرك رئيسي للنمو العالمي. ومن ثمّ، فإن أي اضطراب في آلية صنع القرار الاقتصادي الأمريكي ينعكس فورًا على التوازنات الاقتصادية الدولية ويثير حالة من عدم اليقين في الاقتصاد العالمي، فضلاً عن تأثير الإغلاق على أسواق العملات العالمية.
- تراجع الثقة وزيادة حالة عدم اليقين في الأسواق المالية العالمية:
يؤدي الإغلاق الحكومي الأمريكي إلى زيادة حالة عدم اليقين في الأسواق المالية العالمية، مما ينعكس مباشرة على أسعار صرف الدولار الأمريكي. فمع تصاعد المخاوف بشأن قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها المالية قصيرة الأجل، يميل المستثمرون إلى الابتعاد عن الدولار واللجوء إلى عملات الملاذ الآمن مثل الين الياباني والفرنك السويسري، وقد أظهرت دراسة منشورة في Emerging Markets Review أن فترات الإغلاق الحكومي تؤدي إلى ارتفاع واضح في تقلبات سعر الصرف العالمي، خصوصًا في الأسواق الناشئة التي تتأثر بتغيرات الدولار الأمريكي[19].
- تباطوء عمليات التجارة الدولية:
يتسبب الإغلاق الحكومي في تعطيل عمل عدد من الوكالات الأمريكية المسؤولة عن مراقبة التصدير والاستيراد والتحقيقات التجارية وخدمات الجمارك، مما يؤدي إلى تأخير الشحنات وتباطؤ العمليات التجارية الدولية. ووفقًا لتقرير صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، فإن توقف هذه الهيئات يؤثر بشكل مباشر على تدفق البضائع عبر الحدود، ويضعف ثقة الشركاء التجاريين في استقرار النظام الإداري الأمريكي[20].
- تراجع حركة الاستثمار والأسواق الناشئة:
في فترات الإغلاق، تزداد مخاطر الاستثمار العالمي بسبب غياب الرؤية الواضحة حول السياسات المالية الأمريكية، مما يؤدي إلى تراجع شهية المخاطرة لدى المستثمرين الدوليين. ويُلاحظ خلال هذه الفترات أن المستثمرين يسحبون رؤوس أموالهم من الأسواق الناشئة، ويتجهون نحو الأصول الآمنة مثل سندات الخزانة قصيرة الأجل أو الذهب، وهو ما يؤدي إلى اضطرابات في تدفقات رأس المال الدولية وارتفاع تكلفة الاقتراض للدول النامية.[21]
- تأثيره على البيانات الاقتصادية والسياسات النقدية العالمية:
يؤدي تعطّل الإحصاءات الرسمية الصادرة عن الوكالات الأمريكية (مثل معدلات البطالة والتضخم والإنتاج الصناعي) إلى صعوبة تقدير الوضع الاقتصادي العالمي بدقة، حيث تستخدم البنوك المركزية حول العالم هذه البيانات لتحديد سياساتها النقدية، وبالتالي فإن أي تأخير أو توقف في نشرها يخلق حالة من الضبابية الاقتصادية. وقد أكد تقرير صادر عن The Brookings Institution أن هذه الفجوة المعلوماتية تُجبر صناع القرار في الدول الأخرى على الاعتماد على مؤشرات بديلة، ما يزيد من خطر اتخاذ قرارات نقدية غير دقيقة.[22]
- تأثر التصنيف الائتماني للولايات المتحدة:
قد يؤدي استمرار الإغلاق لفترة طويلة إلى مراجعة التصنيف الائتماني للولايات المتحدة من قبل وكالات التصنيف العالمية بسبب ضعف الثقة في الأداء المالي والإداري، وذكرت وكالة “Scope Ratings” الأوروبية في تقرير حديث أن الإغلاق الحكومي الأمريكي يمثل “عامل خطر سلبي” على التصنيف الائتماني السيادي الأمريكي، وهو ما قد يؤدي إلى ارتفاع كلفة الاقتراض العالمية وتأثر أسعار الفائدة في الأسواق الدولية[23] وبالتالي فإن استمرار الإغلاق قد يُنظر إليه كمظهر من مظاهرالضعف في إدارة الدولة أو تعثر تشريعي، ما قد يؤثر علي التصنيف الائتماني والقدرة على الاقتراض بعوائد منخفضة.[24]
- تباطوء النمو الاقتصادي العالمي :
تشير تقديرات وكالة S&P Global إلى أن كل أسبوع من الإغلاق الحكومي الأمريكي يؤدي إلى خفض النمو الاقتصادي الأمريكي بنحو %0.2–0.1، وهو ما ينعكس بدوره على النمو العالمي من خلال انخفاض الطلب الأمريكي على الواردات، كما أكدت تقارير البنك الدولي(World Bank ) أن استمرار التوترات المالية والسياسية في الولايات المتحدة يمثل أحد أهم مصادر تباطؤ النمو العالمي خلال السنوات الأخيرة [25] .
- اهتزاز الأسواق الناشئة :
الأسواق الناشئة ستكون الأكثر عرضة للاهتزاز، لأن أي ضغوط على الدولار أو تذبذب في عوائد السندات الأمريكية ينعكس فورًا على حركة رؤوس الأموال العالمية. كما أن استمرار الأزمة لأكثر من أسبوعين سيحوّلها من مشكلة إدارية إلى تهديد فعلي للنمو، ليس فقط داخل الولايات المتحدة، بل في شركائها التجاريين الرئيسيين. وبالتالي فإن الإغلاق الحكومي في أمريكا ليس مجرد معركة حزبية، إنه مؤشر على هشاشة سياسية قد تهدد مكانة الولايات المتحدة كقاطرة للاقتصاد العالمي”.
يمكن القول إن الإغلاق الحكومي الأمريكي يتجاوز تأثيره الحدود الوطنية ليشكل عامل اضطراب في النظام الاقتصادي العالمي، سواء من خلال العملات الدولية، أو الاستثمار والتجارة، أو السياسات النقدية العالمية.
فكلما طال أمد الإغلاق، تعاظمت المخاطر على الأسواق العالمية، مما يؤكد الترابط العميق بين الاقتصاد الأمريكي والنظام المالي الدولي.
خامساً – السيناريوهات المحتملة لإنهاء الإغلاق الحكومي الأمريكي لعام 2025 :
فيما يلي أبرز السيناريوهات المحتملة لإنهاء الإغلاق الحكومي:
(1) – تراجع الديمقراطيين (The Democrats fold)
يعد هذا السيناريو هو الأكثر احتمالًا، إذ تشير التجارب السابقة إلى أن الطرف الذي يستخدم الإغلاق كأداة ضغط نادرًا ما يحقق مطالبه. وقد ظهرت بالفعل انقسامات داخل صفوف الديمقراطيين، حيث صوّت ثلاثة أعضاء من الحزب لصالح مشروع القرار الجمهوري لتمويل الحكومة مؤقتًا (المعروف باسم “القرار النظيف”).
بالإضافة إلي أن استمرار الإغلاق قد يجعل الرأي العام الأمريكي أقل تعاطفًا مع الديمقراطيين، خاصة إذا تأثرت الفئات الحيوية مثل العسكريين الذين قد لا يتقاضون رواتبهم في منتصف أكتوبر.
(2) صفقة بشأن دعم “أوباماكير” (Deal for future Obamacare debates)
يتوقع أيضاً أن يتوصل الطرفان إلى تسوية جزئية تتعلق بتمديد الإعانات الضريبية الخاصة بالتأمين الصحي ضمن برنامج أوباماكير فرغم أن الجمهوريين يعارضون التمديد الكامل، إلا أنهم لم يغلقوا الباب أمام المفاوضات، إذ أظهر استطلاع من مؤسسة KFF أن 78٪ من الأمريكيين – وحتى 57٪ من أنصار ترامب – يؤيدون تمديد هذه الإعانات. وصرح جون ثيون، زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ، بأنهم منفتحون على الحوار حول هذه القضية، لكن بعد إعادة فتح الحكومة[26].
(3) – تقديم الجمهوريين تنازلًا آخر (A different GOP concession)
من المحتمل أن يقدم الجمهوريون تنازلات في مجالات أخرى بخلاف أوباماكير، مثل ضبط صلاحيات الإدارة في تعديل الإنفاق الحكومي أو وقف استخدام عمليةأو وقف استخدام آلية “الإلغاءات“ “rescissions” التي تتيح إلغاء نفقات سبق اعتمادها، لكن هذا الاحتمال ضعيف، لأن مثل هذه الإجراءات تُعد جوهرية في استراتيجية ترامب لتوسيع سلطاته التنفيذية.
(4) – تراجع الجمهوريين (Republicans cave) :
يعد هذا السيناريو بأنه الأقل احتمالًا، إذ لا يوجد له سابقة حديثة في السياسة الأمريكية، ومع ذلك، قد يحدث إذا أظهرت استطلاعات الرأي أن الجمهور يحمّل ترامب والجمهوريين المسؤولية الأكبر عن الإغلاق، أو إذا أدت سياسات الإدارة العقابية تجاه الولايات الزرقاء إلى نتائج عكسية تضر بصورة الحزب الجمهوري.
خلاصة القول، إن الإغلاق الحكومي الأمريكي يُجسّد بوضوح التداخل الحاد بين السياسة والاقتصاد في النظام الديمقراطي، ويكشف هشاشة التوازن بين الاستقرار المؤسسي والمصالح الحزبية الضيقة. فالإغلاق ليس أزمة مالية مؤقتة بقدر ما هو أزمة ثقة سياسية تُعطّل عملية صنع القرار وتخلّف آثارًا اقتصادية مباشرة وغير مباشرة تمتد إلى الأسواق العالمية. ومن ثم، فإن تجاوز هذه الظاهرة يستلزم إصلاحات مؤسسية وتشريعية تضمن استمرارية تمويل الحكومة بمعزل عن الصراعات الحزبية، إذ يظل استقرار الاقتصاد الأمريكي – بوصفه الركيزة الأساسية للنظام المالي العالمي – رهينًا بقدرة واشنطن على تحقيق التوافق السياسي وصون مؤسساتها من الشلل المتكرر، وفي المستقبل، يبدو أن استمرار الإغلاقات المتكررة دون معالجة جذرية سيؤثر سلبًا على ثقة المستثمرين والمستهلكين في آنٍ واحد، كما سيقوّض مكانة الولايات المتحدة كمرجع للاستقرار المالي العالمي. لذلك، فإن التحدي الحقيقي لا يكمن في إدارة الأزمات بعد وقوعها، بل في بناء آلية دائمة تحول دون وقوعها من الأساس، عبر تعزيز الشفافية، وتطوير آليات التفاوض بين الحزبين، وضمان حماية الاقتصاد الوطني من تداعيات الانقسام السياسي الداخلي.
المراجع
[1] Anthony Zurcher, Why the US government has shut down and what happens now, BBC Report, available AT:
https://www.bbc.com/news/articles/crrj1znp0pyo
[2]Jon Allsop , Why Democrats Shut Down the Government, 2025, Available at :
https://www.newyorker.com/news/the-lede/why-democrats-shut-down-the-government
[3] Congressional Research Service, Membership of the 119th Congress: A Profile, available AT:
https://www.congress.gov/crs-product/R48535?utm_source=chatgpt.com
[4] United states senate, available at :
https://www.senate.gov/senators/?utm_source=chatgpt.com
[5] برنامج “ميديكيد” (Medicaid) برنامج مشترك بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات الأمريكية، يهدف إلى مساعدة الأفراد ذوي الدخل والموارد المحدودة في تغطية تكاليف الرعاية الطبية، شريطة استيفائهم لمتطلبات معينة تتعلق بالدخل والحالة الصحية والاجتماعية، للمزيد من المعلومات علي الرابط التالي :
https://www.medicare.gov/publications/11306-ARB-Medicare-Medicaid.pdf
[6] Anthony Zurcher, Why the US government has shut down and what happens now, BBC Report, available AT:
https://www.bbc.com/news/articles/crrj1znp0pyo
[7] Tom Cole, Democrats are to blame for shutting the government down,2025, Available at:
[8] Jon Allsop , Why Democrats Shut Down the Government, 2025, Available at :
https://www.newyorker.com/news/the-lede/why-democrats-shut-down-the-government
[9] John W. Diamond , US economy is already on the edge – a prolonged government shutdown could send it tumbling over, 2025 , Available at :
[10] Niels Graham, The economic implications of a federal government shutdown,2023 , Available at :
[11] John W. Diamond , US economy is already on the edge – a prolonged government shutdown could send it tumbling over, 2025 , Available at :
[12] Government shutdown could cost US economy billions of dollars a week, analysts say
https://www.theguardian.com/business/2025/oct/02/government-shutdown-cost-economy-billions
[13] John W. Diamond , US economy is already on the edge – a prolonged government shutdown could send it tumbling over, 2025 , Available at :
[14] David Wessel, What is a government shutdown? ,2025, Available at:
[15] David Wessel What is a government shutdown?2025, Available at :
David Wessel What is a government shutdown?
[16] Sarah elfreth, which federal employees keep working during a government shutdown? Available at:
https://elfreth.house.gov/services/impact-government-shutdown
[17] Anthony Zurcher, Why the US government has shut down and what happens now, BBC Report, available AT:
https://www.bbc.com/news/articles/crrj1znp0pyo
[18] US Department of Health and Human Services, HHS Contingency Staffing Plan for Operations in the Absence of Enacted Annual Appropriations Fiscal Year 2026, Available at:
[19] Aloui, R., & Hkiri, B. (2019). Exchange rate effects of US government shutdowns: Evidence from both developed and emerging markets. Emerging Markets Review, 38, 107–119.
https://doi.org/10.1016/j.ememar.2018.11.007
[20] Center for Strategic and International Studies (CSIS). (2023). How a Shutdown Would Hinder Critical Trade Functions of the U.S. Government. Retrieved from https://www.csis.org/analysis/how-shutdown-would-hinder-critical-trade-functions-us-government
[21] International Monetary Fund (IMF). (2023). World Economic Outlook: Navigating Global Uncertainty. Washington, DC: IMF. Retrieved from:
https://www.imf.org/en/Publications/WEO
[22] Brookings Institution. (2020). Government shutdowns and the loss of economic data: Implications for monetary policy. Washington, DC: Brookings. Retrieved from
[23] Reuters). US government shutdown poses negative risk to credit rating, Europe’s Scope warns. (October 2025, Retrieved from https://www.reuters.com/business/us-government-shutdown-negative-credit-rating-europes-scope-warns-2025-10-01/
[25] S&P Global. (2025). US Government Shutdown Adds Uncertainty to Economic Outlook. Retrieved from https://www.aa.com.tr/en/americas/us-government-shutdown-adds-uncertainty-to-economic-outlook-sp/3705171
World Bank. (2024). Global Economic Prospects: Weak Growth, High Uncertainty. Washington, DC: World Bank. Retrieved from: https://www.worldbank.org/en/publication/global-economic-prospects
[26]Aaron Blake, How could the government shutdown end? Here are 4 scenarios,2025, Available at : https://edition.cnn.com/2025/10/06/politics/government-shutdown-ending-scenarios
باحث اقتصاد مشارك من الخارج بمركز ترو للدراسات والتدريب