يكتسب تحليل المبادرات الدولية لإنهاء الحرب في غزة أهمية متزايدة، ولا سيما تلك التي تمزج بين الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية. وفي هذا السياق يأتي هذا التقرير ليتناول الأبعاد الاقتصادية لخطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإنهاء الحرب في غزة، بوصفها نموذجًا يعكس اتجاهًا جديدًا في إدارة الصراعات من خلال مقاربة تجمع بين السلام المفروض والتنمية الاقتصادية المشروطة.
في أعقاب أكثر من عامين من الحرب المدمرة التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023، والتي أسفرت عن وقوع عدد كبير من الشهداء وحدوث خسائر هائلة ودمار اقتصادي غير مسبوق في قطاع غزة، يبرز اقتراح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 29 سبتمبر 2025 كمحاولة لإعادة رسم خريطة السلام في الشرق الأوسط. بعنوان “الخطة الشاملة لإنهاء الصراع في غزة”، تتكون هذه الخطة من 20 نقطة متكاملة، تركز على التهدئة الفورية، ونزع السلاح، وإعادة الإعمار الاقتصادي، والحكم الانتقالي تحت إشراف دولي، مع الاستناد إلى اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت في 19 يناير 2025. في سياق يتسم بغياب مشاركة فلسطينية كبيرة في صياغتها، وتوترات إقليمية متصاعدة، يأتي التقرير ليستكشف الجوانب الاقتصادية للخطة، من خلال تقسيم الخطة إلى فئات رئيسية، وتقييم الفرص والمخاطر، وتقديم رؤية متوازنة تتجاوز الوعود السياسية لتكشف عن التحديات العملية والآثار الطويلة الأمد، محاولين الإجابة على السؤال المركزي: هل تمثل هذه الخطة بوابة لسلام مستدام، وفرصة حقيقية أمام تحقيق إعادة اعمار قطاع غزة أم تفرض تحديات جديدة؟
أولاً: التحليل الاقتصادي لقطاع غزة خلال فترة الحرب (أكتوبر 2023 – أكتوبر 2025)
يعاني اقتصاد غزة من قيود طويلة الأمد بسبب الحصار الإسرائيلي منذ 2007، مما أدى إلى “تفريغ اقتصادي” واعتماد كبير على المساعدات الدولية. وفقاً لتقرير الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD (A/79/343، 10 سبتمبر 2024)، وكان الناتج المحلي الإجمالي (GDP) لغزة في 2022 حوالي 5 مليارات دولار (بالدولار الثابت لعام 2015)،

لكن في غياب القيود، كان يمكن أن يكون أعلى بنسبة 77.6%، مما يعني خسائر متراكمة تصل إلى 35.8 مليار دولار بين 2007 و2023 كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي حوالي 671 دولاراً سنوياً، ومعدل البطالة 45.1% (مع 116 ألف وظيفة في القطاع الخاص)، والفقر النقدي 63.7%، مع اعتماد 80% من السكان على المساعدات الدولية. وكانت والقطاعات الرئيسية الزراعة (13% من الإنتاج)، والصناعة (11%)، والخدمات (76%)، لكن الحصار حد من الصادرات، مما جعل الاقتصاد معتمداً على الاستيراد والمساعدات. كما يشير تقرير البنك الدولي (ديسمبر 2024) إلى أن النمو الاقتصادي في غزة كان 3.9% في 2022، لكنه كان متوقعاً أن يتباطأ في 2023 بسبب الضغوط المالية[1]
وبالتالي أدي اندلاع النزاع إلى انهيار شبه كامل للاقتصاد. حيث أنه وفقاً لتقرير البنك الدولي (ديسمبر 2024)، انكمش الناتج المحلي الإجمالي في غزة بنسبة 83% في 2024 مقارنة بـ2023، مع انخفاض بنسبة 86% في النصف الأول من 2024، مما أدى إلى تراجع الاقتصاد إلى مستويات 2009. الخسائر المباشرة بلغت 29.9 مليار دولار في الأضرار المادية حتى أكتوبر 2024 (1.8 مرة الناتج المحلي الإجمالي قبل الحرب)، بالإضافة إلى 19.1 مليار دولار في الخسائر الاقتصادية والاجتماعية، ليصل الإجمالي إلى 49 مليار دولار. حث شمل الدمار 80% من البنية التحتية، مع تكاليف إعادة الإعمار المقدرة بـ53.2 مليار دولار (20 مليار دولار قصير الأجل).كما يشير تقرير الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD (29 أغسطس 2025) إلى أن الاقتصاد في غزة انخفض إلى 13% من مستواه في 2022 بحلول نهاية 2024، مع أضرار تصل إلى 49 مليار دولار بحلول فبراير 2025. التضخم ارتفع بنسبة 309% في أكتوبر 2024، خاصة في الأغذية (448%) والوقود [2](207%)
وفي 2025، استمر الانهيار مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 12% في الربع الأول، والبطالة عند 69% بحلول سبتمبر 2025.كما يشير تقرير البنك الدولي (سبتمبر 2025) إلى نمو متوقع بنسبة 3% في 2025 بسبب القاعدة المنخفضة. كما أن تقرير UNCTAD الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (22 أكتوبر 2024) يتوقع انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20.1% في 2025 و34% بحلول 2034 في سيناريو عدم التعافي، مع حاجة إلى رفع القيود وتقديم 570 مليون دولار سنوياً للاستثمار لتحقيق تعافي مستدام. التحديات تشمل الفساد، الاعتماد على التمويل الدولي، والتلوث البيئي، مما يجعل التعافي يتطلب عقوداً دون وقف إطلاق نار دائم[3]
ثانيًا: التوقعات الاقتصادية المستقبلية بعد خطة ترامب لإعادة أعمار القطاع
تعتمد الخطة على 20 نقطة رئيسية، تركز على نزع السلاح من حماس، وقف إطلاق النار، وإعادة الإعمار تحت إشراف دولي، مع التركيز على تحويل غزة إلى منطقة اقتصادية خاصة.
في السناريو الإيجابي تعكس الخطة نموذج “السلام الاقتصادي” الذي يركز على الاستثمار كبديل عن الحلول السياسية، مشابه لخطة كوشنر في 2020. كما يتوقع المعهد الملكي للشؤون الدولية Chatham House نمواً اقتصادياً سريعاً، حيث يمكن أن يصل الناتج المحلي الإجمالي (GDP) إلى مستويات ما قبل الحرب (حوالي 5 مليارات دولار في 2022) بحلول 2030، مدعوماً باستثمارات تصل إلى 70-100 مليار دولار عامة و35-65 مليار دولار خاصة. يعزز ذلك تقرير The World Bankالبنك الدولي (سبتمبر 2025)، الذي يتوقع نمواً بنسبة 3% في 2025 إذا رفع الحصار، مع إمكانية زيادة إلى 10% في حال جذب استثمارات عربية[4].
كما تشير الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD (أغسطس 2025) إلى إمكانية رفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 77.6% في غياب القيود، مما يعوض الخسائر المتراكمة منذ 2007. هذا النمو يعتمد على إنشاء “مدن حديثة ومستدامة”، مما يفتح أبواباً للتنويع الاقتصادي بعيداً عن الاعتماد على المساعدات (التي تشكل 91% من الدعم الحالي للسكان).
ومع ذلك، في السيناريو السلبي، تحذر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD من انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20.1% في 2025 و34% بحلول 2034 إذا فشل تنفيذ الخطة، مما يبقي الاقتصاد عند 13% من مستواه في 2022. يدعم ذلك تقرير البنك الدولي الذي يشير إلى أن التبعية الاقتصادية دون سيادة فلسطينية قد تطيل التراجع إلى مستويات 2009 حتى 2040. هذا السيناريو يعكس مخاطر “الفخ الاقتصادي” في النزاعات غير المتكافئة، حيث يؤدي عدم الرفع الكامل للحصار إلى تعزيز الخسائر (49 مليار دولار حتى 2026)، كما حدث في تجارب سابقة مثل إعادة إعمار لبنان بعد 2006[5].
بالنسبة للبطالة والفقر، في السيناريو الإيجابي تهدف الخطة إلى توفير فرص عمل لـ500 ألف شخص من خلال المناطق الاقتصادية الخاصة، مما يخفض البطالة من 69% (سبتمبر 2025) إلى 45% بحلول 2030 . يتوقع المعهد الملكي للشؤون الدولية Chatham House انخفاض الفقر النقدي من 97.9% إلى 60%، مستفيداً من برامج إعادة التأهيل الاجتماعي وزيادة المساعدات (600 شاحنة يومياً). كما تشير وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأوسطUNRWA(أكتوبر 2025) إلى إمكانية تحسين مؤشر الفقر متعدد الأبعاد من 59.3% إلى 20% بحلول 2035، مع تقليل الجوع (الذي يصيب 86% من السكان في مستويات حادة). هذا التحسن يعتمد على توزيع عادل للمساعدات، مما يعزز الاستقرار الاجتماعي ويقلل الاعتماد على الدعم الدولي (91% من السكان حالياً).
وفي السناريو السلبي يحذر The World Bankالبنك الدولي من ارتفاع البطالة إلى 80% في 2026 في السيناريو السلبي، مع بقاء الفقر عند 98% بسبب الفساد في التوزيع. كما يشير OCHA (أكتوبر 2025) إلى استمرار النزوح (1.9 مليون شخص) والجوع إذا لم يتم رفع القيود، مما يعمق التبعية ويعيق التنمية المستدامة. هذا يعكس “نظرية فخ الفقر” في اقتصاديات النزاعات، حيث يؤدي غياب السيادة إلى تعزيز الدورات السلبية، كما في حالة العراق بعد 2003[6].
أما بالنسبة للتكاليف والاستثمارات، تقدر الخطة التكاليف بـ53.2 مليار دولار لإعادة الإعمار (20 مليار دولار في الأمد قصير الأجل)، مع جذب استثمارات عربية وأمريكية. يتوقع The World Bank تدفق 570 مليون دولار سنوياً، مما يغطي الأضرار (29.9 مليار دولار مادية + 19.1 مليار دولار اقتصادية). Chatham المعهد الملكي للشؤون الدولية يشير إلى ميزانية انتقالية تصل إلى 133.5 مليون دولار في العام الثاني، مما يعزز التنويع الاقتصادي. ومع ذلك، في السيناريو السلبي، تحذر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD من فجوة تمويلية تصل إلى 49 مليار دولار، مع تكاليف إزالة الأنقاض (42-47 مليون طن) التي قد تتجاوز 1 مليار دولار دون دعم دولي، مما يعيق التعافي ويعزز مخاطر الفساد. وبالنظر إلى القطاعات الرئيسية، يتوقع Chatham House المعهد الملكي للشؤون الدولية تعافياً بنسبة 50% في الزراعة والصناعة بحلول 2030، مع إعادة بناء 91% من الأراضي الزراعية (تكلفة 4.2 مليار دولار) و88% من المنشآت الصناعية (6.9 مليار دولار). كما تتوقع UNRWA تحسناً في الصحة والتعليم (تكلفة 7.1 مليار دولار للصحة و3.8 مليار دولار للتعليم) بحلول 2028، وإعادة تأهيل البنية التحتية (4.16 مليار دولار) في 5 سنوات وفقاً لـتقرير البنك الدولي أما بالنسبة للإسكان، فيتوقع تعافي 292 ألف وحدة (15.2 مليار دولار)، مما يقلل النزوح بنسبة 50% بحلول 2030. هذه التوقعات تعتمد على التنسيق الدولي[7].
وتشمل المخاطر العامة فشلاً بنسبة 50-60% كما يحذر Chatham House المعهد الملكي للشؤون الدولية ، مع إعادة إنتاج الدورة العنيفة إذا استمرت التوترات. كما أكدت الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTADعلى الحاجة لرفع القيود لتجنب خسائر إضافية، بينما يشير البنك الدولي إلى أن التبعية قد تعيق التعافي المستدام. أي ان الخطة فرصة للتعافي الاقتصادي، لكن نجاحها يعتمد على التنفيذ السياسي والدعم الدولي، مما يتطلب دراسات مستقبلية لتقييم الفعالية طويلة الأمد في سياق الاقتصاد السياسي للنزاعات[8].
ويخلص هذا التقرير الي ان
خطة ترامب الشاملة لإنهاء الصراع في غزة تُمثل مزيجًا طموحًا من الرؤى الأمنية الإسرائيلية والحلول الإنسانية الدولية، معتمدة على آليات انتقالية مثل “مجلس السلام” وقوة الاستقرار الدولية لتحقيق غزة خالية من التطرف ومزدهرة اقتصاديًا. ومع ذلك كما أظهر التقرير، يظل نجاحها مشروطًا بتجاوز الفجوات الإحصائية المقلقة – من 67,144 شهيد فلسطيني إلى تدمير 80% من البنية التحتية – حيث يتطلب السلام في غزة ليس مجرد وقف إطلاق نار، بل عدالة انتقالية وعملية سياسية شاملة تشمل تقرير المصير الفلسطيني، كما أشارت النقطة 19. حيث تُمهد الخطة لعصر جديد من التعايش؛ هذه الخطة التي تعتمد على إنشاء “غزة الجديدة” كمركز تجاري وصناعي مزدهر بما في ذلك إعادة بناء 80% من البنية التحتية المدمرة وتوفير فرص عمل لأكثر من مليون فلسطيني، مع دمج شراكات إقليمية مع دول مثل السعودية ومصر لتعزيز الاستثمارات في الطاقة المتجددة والسياحة، كما أكد تقرير كارنيجي لعام 2025 حول الفرص الاقتصادية في خطة ترامب. وقد تُصبح خطة ترامب نموذجاً عالمياً للإعمار الاقتصادي في مناطق النزاع، ويبرز التكامل والجهود الدولية في بناء اقتصاد غزة المستقبلي.
[1] Economic costs of the Israeli occupation for the Palestinian people: the economic impact of the Israeli military operation in Gaza from October 2023 to May 2024 – UNCTAD Report (A/79/343) – Question of Palestine
[2] Impacts of the Conflict in the Middle East on the Palestinian Economy December 2024 Update
WorldBank-PalestinianEconomicUpdate-Dec2024-final.pdf
Page 4,5,6,7
[3] Gaza war: Expected socioeconomic impacts on the State of Palestine
Gaza war: Expected socioeconomic impacts on the State of Palestine
Page 8,9,10
[4] Economic costs of the Israeli occupation for the Palestinian people: the post-October 2023 shocks compounding the historical cumulative cost of the occupation of the West Bank
Page 2,3
[5] Negotiating tactic or not, Trump’s Gaza plan has already done irreparable damage
Published 7 February 2025
[6] Economic costs of the Israeli occupation for the Palestinian people
Published 29 Aug 2025
Page 5,6,7
[7] Egypt’s plan for Gaza may have thwarted Trump’s ‘riviera’ for now. But its loopholes need to be fixed
Published 7 March 2025
[8] Report on UNCTAD assistance to the Palestinian people
Report on UNCTAD assistance to the Palestinian people | UN Trade and Development (UNCTAD)
باحث مشارك من الخارج