شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وفنزويلا خلال العقود الأخيرة توترات متصاعدة اتخذت أبعادًا سياسية وأمنية واقتصادية معقدة، إذ تحولت من علاقة نفطية متشابكة إلى صراع مفتوح على النفوذ في أمريكا اللاتينية. فمنذ عهد الرئيس الراحل هوغو تشافيز، اتهمت واشنطن السلطات الفنزويلية بدعم شبكات تهريب المخدرات والتعاون مع أطراف معادية للولايات المتحدة، في حين رأت كاراكاس أن السياسات الأمريكية تمثل محاولة دائمة لإضعاف سيادتها وفرض الهيمنة على مواردها النفطية. وقد تزايد هذا التوتر في السنوات الأخيرة مع اتساع العقوبات الأمريكية وتنامي التحالفات بين فنزويلا وكل من روسيا والصين، ما جعلها بؤرة توتر رئيسية في معادلات الصراع الجيوسياسي في نصف الكرة الغربي.[1] في هذا السياق المتوتر، أثار تفجير الولايات المتحدة لغواصة فنزويلية في سبتمبر 2025، بدعوى أنها كانت تحمل شحنة مخدرات متجهة إلى السواحل الأمريكية، موجة واسعة من الجدل الدولي حول شرعية هذا العمل العسكري، وحول مدى صحة المزاعم الأمريكية التي دعمها الرئيس دونالد ترامب بتصريحات مثيرة، زعم فيها أن الغواصة كانت جزءًا من شبكة دولية لتهريب الكوكايين تمول النظام الفنزويلي. وقد اعتبرت كاراكاس هذا العمل عدوانًا صارخًا على سيادتها الوطنية، واتهمت واشنطن بمحاولة خلق ذريعة جديدة لتبرير تدخل عسكري مباشر في المنطقة.[2]
تأتي أهمية هذا الحدث من كونه لا يُختزل في مجرد حادث أمني أو مواجهة بحرية محدودة، بل يعكس صراعًا أعمق بين رؤيتين متناقضتين للنظام الدولي، رؤية أمريكية تسعى لإعادة فرض نفوذها في أمريكا الجنوبية تحت شعار مكافحة الجريمة والمخدرات، ورؤية فنزويلية مدعومة من قوى دولية منافسة، تؤكد حقها في الاستقلال السياسي والاقتصادي عن واشنطن. إن حادث الغواصة بهذا المعنى يمثل امتدادًا لحرب النفوذ التي تخوضها الولايات المتحدة في الفناء الخلفي الذي لطالما اعتبرته منطقة حيوية لأمنها القومي.[3]
أولًا: الخلفية السياسية والأمنية للعلاقات الأمريكية الفنزويلية
تُعد العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وفنزويلا من أكثر العلاقات تعقيدًا في الإقليم الأمريكي الجنوبي، إذ تداخلت فيها الاعتبارات السياسية والأمنية والاقتصادية على مدى عقود، لتتحول من شراكة نفطية قوية في منتصف القرن العشرين إلى خصومة استراتيجية مفتوحة منذ مطلع الألفية الجديدة. وتكمن جذور هذا التحول في التناقض بين النموذجين السياسيين اللذين تمثلهما الدولتان وهما، النموذج الليبرالي الغربي القائم على اقتصاد السوق الحر والديمقراطية التمثيلية، في مقابل النموذج الفنزويلي الذي تبنى منذ عهد الرئيس هوغو تشافيز (1999–2013) خطابًا اشتراكيًا راديكاليًا مناهضًا للهيمنة الأمريكية، ضمن ما عُرف بـالثورة البوليفارية.[4]
- التحولات السياسية والتاريخية في العلاقات الثنائية
كانت فنزويلا خلال القرن العشرين أحد أهم موردي النفط إلى الولايات المتحدة، وعضوًا فاعلًا في منظمة أوبك، ما جعلها شريكًا استراتيجيًا لواشنطن في تأمين احتياجاتها من الطاقة. غير أن مجيء تشافيز إلى السلطة في نهاية التسعينيات مثل نقطة انعطاف حادة، إذ تبنت حكومته سياسة خارجية قائمة على مبدأ الاستقلال الوطني ومقاومة النفوذ الأمريكي، مع التقارب من دول تُصنفها واشنطن خصومًا مثل كوبا وإيران وروسيا. وبدأ الخطاب الرسمي الفنزويلي يتحدث عن ضرورة قيام نظام عالمي متعدد الأقطاب، رافضًا ما أسماه الهيمنة الإمبريالية الأمريكية.[5]
ردت واشنطن على هذا النهج بفرض سلسلة من العقوبات الاقتصادية، شملت شركات النفط الوطنية ومسؤولين حكوميين، بدعوى انتهاك حقوق الإنسان وتورط قيادات فنزويلية في تجارة المخدرات وغسل الأموال. وتزايدت حدة التوتر خلال عهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، لتصل إلى ذروتها مع إدارة باراك أوباما التي وصفت فنزويلا عام 2015 بأنها تهديد غير عادي واستثنائي للأمن القومي الأمريكي. ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت العلاقات بين البلدين تُدار عبر مسارين متوازيين هما، الردع الاقتصادي من جانب الولايات المتحدة، والمقاومة السياسية والدبلوماسية من جانب فنزويلا وحلفائها.[6]
- البعد الأمني وتوظيف ملف المخدرات
شكل ملف تهريب المخدرات أحد أبرز محاور الصراع الأمني بين واشنطن وكاراكاس. فقد اتهمت الولايات المتحدة مرارًا مسؤولين في الجيش والحكومة الفنزويلية بالضلوع في شبكات تهريب الكوكايين القادمة من كولومبيا عبر الأراضي الفنزويلية إلى أسواق أمريكا الشمالية. وأطلقت وزارة الخزانة الأمريكية مصطلح كارتل الشمس (Cartel de los Soles) للإشارة إلى شبكة ضباط فنزويليين يُزعم تورطهم في تلك الأنشطة غير المشروعة.[7] في المقابل، اعتبرت الحكومة الفنزويلية تلك الاتهامات جزءًا من حملة سياسية تهدف إلى تشويه النظام البوليفاري وتبرير العقوبات الأمريكية، مؤكدة أنها تشارك ضمن أطر التعاون الإقليمي في مكافحة المخدرات. وقد ساهم انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقيات التعاون الأمني المشترك مع فنزويلا في عام 2005 في تفاقم التوتر، حيث رأت كاراكاس أن واشنطن تستخدم ملف مكافحة المخدرات ذريعة للتغلغل في مؤسساتها الأمنية والعسكرية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الولايات المتحدة تتعامل مع الملف الفنزويلي من زاوية أمن قومي مباشر، إذ تزايدت العمليات الاستخباراتية والمراقبة البحرية في البحر الكاريبي، وتكثفت أنشطة القيادة الجنوبية الأمريكية في محيط فنزويلا، خاصة في ظل تنامي التعاون العسكري بين كاراكاس وموسكو، وشراء فنزويلا منظومات دفاع جوي روسية متقدمة.[8]
- تأثير العقوبات الاقتصادية على الأمن الداخلي والإقليمي
أدت العقوبات الأمريكية إلى إضعاف الاقتصاد الفنزويلي الذي يعتمد بشكل شبه كلي على صادرات النفط، ما أدى إلى انهيار العملة وارتفاع معدلات التضخم ونقص الإمدادات الأساسية، وهو ما انعكس على الوضع الاجتماعي والأمني الداخلي. ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، فإن الأزمة الاقتصادية المتفاقمة ساهمت في موجات هجرة جماعية تجاوزت سبعة ملايين فنزويلي حتى عام 2024، ما خلق ضغطًا أمنيًا وإنسانيًا على دول الجوار مثل كولومبيا والبرازيل.[9] ورأت واشنطن في هذا الانهيار فرصة لزيادة الضغط على حكومة نيكولاس مادورو، بينما استخدم النظام الفنزويلي الأزمة لتصوير الولايات المتحدة كقوة استعمارية جديدة تسعى لإخضاع الشعوب المستقلة. وبهذا المعنى، أصبحت الأزمة الاقتصادية والأمنية متشابكة في بنية العلاقات بين البلدين، حيث توظفها كل طرف كأداة في معركة الشرعية السياسية والهيمنة الإقليمية.[10]
- العلاقات العسكرية والتحالفات الدولية لفنزويلا
في ظل الحصار الأمريكي، اتجهت فنزويلا إلى تنويع شراكاتها العسكرية مع روسيا، الصين، وإيران، من خلال صفقات تسليح وتدريب وتعاون تقني. وقد أثار ذلك قلق واشنطن التي رأت فيه تهديدًا مباشرًا لنفوذها في منطقة تُعد تقليديًا مجالًا لنفوذها الحصري وفق “مبدأ مونرو”. ومنذ عام 2018، شهدت المنطقة تزايدًا في التحركات العسكرية الأمريكية الاستطلاعية في البحر الكاريبي تحت ذريعة مكافحة تهريب المخدرات، في حين اعتبرتها فنزويلا تحركات استفزازية تمهيدًا لتدخل عسكري. وبهذا المعنى، يمكن القول إن البعد الأمني في العلاقات الثنائية تجاوز الإطار الإقليمي، ليصبح جزءًا من التنافس الدولي بين واشنطن ومحور موسكو بكين في القارة اللاتينية.[11]
شهدت العلاقات العسكرية بين فنزويلا وروسيا مستوى غير مسبوق من التعاون المؤسسي منذ توقيع اتفاقية التعاون العسكري التقني في عام 2001، والتي جرى تحديثها عدة مرات لتشمل مجالات التدريب المشترك وتوريد أنظمة الدفاع الجوي “إس–300” والطائرات المقاتلة “سوخوي-30”. كما أُنشئت لجنة روسية فنزويلية دائمة لمتابعة تنفيذ برامج التعاون الدفاعي، عُقد آخر اجتماعاتها في موسكو عام 2023، حيث ناقش الطرفان مشاريع تطوير الصناعات الدفاعية المشتركة وتوسيع القاعدة اللوجستية البحرية في ميناء لا غوايرا. هذا المستوى من الشراكة جعل روسيا المزود الرئيسي للسلاح الفنزويلي بنسبة تتجاوز 60% من إجمالي واردات التسليح خلال العقد الأخير[12]، وفق تقارير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI).
أما على صعيد الصين، فقد تطورت العلاقات الدفاعية في إطار اتفاقية التعاون العسكري والتقني الشامل الموقعة عام 2010، والتي تضمنت برامج تدريب للقوات الفنزويلية على تقنيات المراقبة الجوية والبحرية، إضافة إلى صفقات لتوريد طائرات بدون طيار وأنظمة اتصالات عسكرية مؤمنة. كما شاركت الصين في تحديث البنية التحتية لموانئ عسكرية فنزويلية ضمن مبادرة الحزام والطريق، بما يعزز الدور الاستراتيجي لفنزويلا كمركز لوجستي في الكاريبي.[13]
أما إيران، فقد برزت كشريك دفاعي مهم منذ عام 2020 عبر اتفاقيات تعاون في مجالات الطائرات المسيرة وبناء السفن الصغيرة، وتبادل الخبراء في مجال الحرب الإلكترونية. وقد أسفرت هذه الشراكات عن تشكل محور تقني عسكري ثلاثي (فنزويلي–روسي–إيراني) يتحدى نظام العقوبات الأمريكية ويعمل على بناء نموذج ردع غير متماثل في القارة اللاتينية.[14]
إن هذه الخلفية السياسية والأمنية المعقدة تُظهر أن حادث تفجير الغواصة الفنزويلية لا يمكن النظر إليه بمعزل عن تراكمات الصراع التاريخي بين البلدين. فالحدث هو نتاج تصعيد ممنهج في استراتيجية واشنطن الهادفة إلى إعادة بسط سيطرتها في محيطها الإقليمي، في مقابل إصرار فنزويلا على ترسيخ نموذجها المناهض للهيمنة وبناء تحالفات دولية تُعيد رسم خريطة القوة في أمريكا اللاتينية.[15]
ثانيًا: الإطار القانوني لحادث تفجير الغواصة الفنزويلية
يُعد تفجير الولايات المتحدة لغواصة فنزويلية سواء تم داخل المياه الإقليمية لفنزويلا أو في نطاق البحر الكاريبي حدثًا بالغ الحساسية سياسيًا وقانونيًا، لما ينطوي عليه من انتهاك محتمل لقواعد القانون الدولي وخرق لمبدأ السيادة الوطنية، فضلًا عما يحمله من رسائل سياسية تتجاوز حدود الواقعة العسكرية ذاتها. فالحادث لا يمكن فصله عن السياق التاريخي للعلاقات المتوترة بين واشنطن وكاراكاس، ولا عن الصراع الأوسع حول إعادة تعريف النفوذ الأمريكي في النصف الجنوبي من القارة. ومن ثم، فإن قراءة الدلالات السياسية والقانونية للواقعة تقتضي تناولها في إطارين متكاملين هما، الإطار القانوني الدولي الذي يحكم استخدام القوة في البحر، والإطار السياسي الذي يفسر الدوافع الأمريكية وتداعياتها الإقليمية. [16]
- الإطار القانوني الدولي: مبدأ السيادة وحدود استخدام القوة البحرية
يحكم القانون الدولي، ولا سيما اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 (UNCLOS)، قواعد واضحة بشأن حرية الملاحة، ومناطق السيادة البحرية، وحدود التدخل العسكري في أعالي البحار. وتنص الاتفاقية على أن المياه الإقليمية لأي دولة تمتد حتى 12 ميلًا بحريًا من سواحلها، وتخضع لسيادتها الكاملة، فيما تمتد المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى 200 ميل بحري، مع حقوق اقتصادية دون سيادة عسكرية مطلقة.[17]
إذا كان تفجير الغواصة قد تم داخل هذه الحدود، فإن ذلك يمثل خرقًا واضحًا لمبدأ عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية، المنصوص عليه في المادة (2/4) من ميثاق الأمم المتحدة، التي تحظر التهديد أو استخدام القوة ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة. أما إذا جرى التفجير في أعالي البحار، فإن الإطار القانوني يصبح أكثر تعقيدًا، إذ يحق للدول وفق القانون الدولي ملاحقة السفن التي تُشتبه في تورطها بجرائم دولية محددة مثل القرصنة أو تهريب المخدرات، شرط أن يتم ذلك بناءً على إذن قانوني أو تنسيق دولي مع الدولة المعنية أو عبر تفويض من مجلس الأمن. وبغياب مثل هذا التفويض أو التنسيق، تُعد العملية الأمريكية عملًا أحاديًا يخرق الأعراف البحرية الدولية، ويشكل سابقة خطيرة في العلاقات بين الدول ذات السيادة.[18]
تؤكد تقارير قانونية عدة صادرة عن مؤسسات متخصصة منها مركز دراسات القانون البحري في جامعة أكسفورد ومؤسسة نافيغيتورز (NAVIGATOR)إنترناشونال، أن قيام الولايات المتحدة بتفجير غواصة تابعة لدولة ذات سيادة دون تفويض دولي أو إثبات مادي قانوني على تورطها في تهريب المخدرات يُعد انتهاكًا لمبدأ الاختصاص الإقليمي واعتداءً على السلم والأمن الدوليين. كما أنه يتعارض مع مبدأ قرينة البراءة في القانون الدولي الجنائي الذي يفترض التحقق المسبق من الأدلة عبر مؤسسات متعددة الأطراف وليس بقرارات تنفيذية أحادية.[19]
تتعارض العملية الأمريكية مع أحد المبادئ الجوهرية في العلاقات الدولية، وهو مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، الذي نصت عليه قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1965 و1981، باعتباره ركيزة أساسية في النظام الدولي القائم على احترام السيادة الوطنية. ومن ثم، فإن تفجير الغواصة حتى لو صحت المزاعم بشأن تورطها في أنشطة غير مشروعة لا يبرر قانونيًا تجاوز سيادة الدولة المعنية أو تنفيذ عمليات عسكرية دون إذن منها أو من مجلس الأمن.[20]
كما أن الذرائع الأمنية المتعلقة بتهريب المخدرات لا تمنح أي دولة الحق في تنفيذ عمليات عسكرية خارج أراضيها إلا في إطار التعاون الدولي أو بموجب اتفاقيات واضحة. فالقانون الدولي يميز بين العمل الشرطي الدولي الذي يتم بتنسيق بين الدول، والعمل العسكري العدائي الذي يُعد خرقًا صريحًا للسيادة. وعليه، فإن الحادث، من منظور قانوني صارم، يمثل توسيعًا غير مشروع لمفهوم الدفاع الوقائي الذي لطالما استخدمته الولايات المتحدة لتبرير تدخلاتها الخارجية، بدءًا من العراق مرورًا بسوريا وصولًا إلى أمريكا اللاتينية.[21]
جاء الموقف الفنزويلي حادًا وواضحًا، إذ وصف الرئيس نيكولاس مادورو التفجير بأنه “عمل عدواني مدبّر ينتهك السيادة الوطنية ويشكل إعلان حرب غير رسمي”، مؤكدًا أن بلاده ستتقدم بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي ومحكمة العدل الدولية. كما اعتبر وزير الدفاع الفنزويلي أن الحادث يمثل “تجسيدًا جديدًا للعقيدة الاستعمارية الأمريكية”، مشيرًا إلى أن الغواصة كانت في مهمة تدريبية داخل المياه الوطنية، وأن واشنطن اختلقت رواية المخدرات لتبرير العمل العسكري.[22]
على المستوى الدولي، عبرت عدة دول في أمريكا اللاتينية مثل كوبا ونيكاراغوا وبوليفيا عن تضامنها مع فنزويلا، معتبرة الحادث انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي وتهديدًا لاستقرار المنطقة. أما روسيا والصين، فقد طالبتا بتحقيق دولي مستقل ووصفتا الحادث بأنه إجراء عدواني أحادي الجانب يعكس ازدراء واشنطن للشرعية الدولية. في المقابل، التزمت بعض الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة مثل كولومبيا والبرازيل الصمت، أو أعربت عن تفهمها للدوافع الأمنية الأمريكية، ما يكشف انقسامًا إقليميًا حادًا في الموقف من الحادث.[23]
ثالثًا: الدلالات السياسية لحادث تفجير الغواصة الفنزويلية
- البعد السياسي للحادث: إعادة تعريف النفوذ الأمريكي في نصف الكرة الغربي
يحمل التفجير في بعده السياسي رسائل استراتيجية متشابكة، إذ يمثل تجسيدًا جديدًا لمبدأ الهيمنة الوقائية الذي تعتمده واشنطن حين ترى أن أي تهديد محتمل اقتصادي أو أمني أو حتى رمزي يستدعي استخدام القوة قبل تحققه. ومن هذا المنظور، فإن استهداف غواصة فنزويلية بدعوى مكافحة المخدرات يُعيد إلى الأذهان سياسات التدخل الأمريكية في أمريكا اللاتينية خلال القرن العشرين، التي كانت غالبًا تُبرر بشعارات مكافحة الشيوعية أو حماية الديمقراطية، لتتحول لاحقًا إلى أدوات لإعادة فرض السيطرة السياسية والاقتصادية على دول المنطقة.[24]
تأتي تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتضفي على الحادث بُعدًا سياسيًا داخليًا أيضًا، إذ وُظفت الواقعة ضمن خطابه التقليدي القائم على القوة والردع في مواجهة ما يصفه بالدول الفاشلة أو المارقة. فقد أكد ترامب أن الغواصة كانت تحمل آلاف الكيلوجرامات من الكوكايين الموجهة إلى الأراضي الأمريكية، وهو تصريح يعكس توجهًا أوسع لتبرير العمل العسكري خارج الإطار القانوني التقليدي تحت ذريعة حماية الأمن القومي الأمريكي من التهديدات العابرة للحدود. غير أن هذا الخطاب يثير تساؤلات حول ازدواجية المعايير الأمريكية في التعامل مع القانون الدولي، حيث تتذرع واشنطن تارة بمبادئ السيادة حين يتعلق الأمر بمصالحها، وتتجاهلها حين تمس دولًا تعتبرها خصومًا سياسيين.[25]
- إحياء مبدأ مونرو بصيغة جديدة
من الناحية الجيوسياسية، يمثل حادث الغواصة جزءًا من محاولة أمريكية لإحياء مبدأ مونرو (1823) بصيغة محدثة تتلاءم مع التحولات الراهنة في ميزان القوى الدولي. فبينما كان المبدأ في القرن التاسع عشر يهدف إلى منع التدخل الأوروبي في شؤون القارة الأمريكية، أصبح اليوم يُستدعى من قبل صناع القرار الأمريكيين لتبرير التدخل الأمريكي في شؤون أمريكا اللاتينية ذاتها، بحجة حماية الاستقرار الإقليمي ومكافحة الجريمة المنظمة.[26]
في هذا السياق، تسعى واشنطن إلى إعادة تأكيد هيمنتها في منطقة باتت تشهد تغلغلًا متزايدًا للنفوذ الروسي والصيني والإيراني، خاصة في فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا. ومن ثم، فإن حادث تفجير الغواصة يُقرأ ضمن رسالة استراتيجية مزدوجة من جهة، تهدف إلى ردع النظام الفنزويلي وإظهار أن أي نشاط ذي طابع عسكري أو استخباراتي في المنطقة سيواجه برد مباشر، ومن جهة أخرى، تُوجه رسالة إلى موسكو وبكين مفادها أن الولايات المتحدة لن تسمح بتحول أمريكا اللاتينية إلى مجال نفوذ مضاد على غرار ما يجري في آسيا الوسطى أو إفريقيا.[27]
وقد أشار عدد من المحللين في معهد بروكينغز ومجلس العلاقات الخارجية الأمريكي (CFR) إلى أن الحادث يُمثل تطبيقًا عمليًا للنسخة الجديدة من مبدأ مونرو، حيث لم تعد واشنطن تكتفي بالأدوات الاقتصادية أو الدبلوماسية، بل عادت إلى استخدام القوة المحدودة كأداة سياسية لإعادة ترسيم حدود النفوذ.[28]
- الردع الأمريكي في منطقة الكاريبي للأنظمة غير المتعاونة
يخدم الحادث أهدافًا استراتيجية متعددة. فمن جهة، يعيد ترسيخ مبدأ الردع الأمريكي في محيط البحر الكاريبي، عبر توجيه رسالة إلى الأنظمة غير المتعاونة بأن الولايات المتحدة ما زالت قادرة على التحرك العسكري الوقائي دون الحاجة إلى تفويض دولي. ومن جهة أخرى، يتيح الحادث للإدارة الأمريكية فرصة لإعادة التموضع العسكري في المنطقة بعد سنوات من الانكفاء النسبي.[29] كما أن الحادث يعزز موقع الولايات المتحدة في مفاوضاتها مع دول الجوار خاصة كولومبيا والبرازيل حول إنشاء آلية إقليمية جديدة لمكافحة الجريمة المنظمة، بما يمنح واشنطن قيادة ميدانية مضمنة في بنية التعاون الأمني الإقليمي. وبذلك يصبح الحدث جزءًا من استراتيجية أشمل لإعادة بناء الدور الأمريكي في أمريكا اللاتينية، استنادًا إلى القوة الصلبة والخطاب الأمني التبريري.[30]
- استمرار قدرة الولايات المتحدة على فرض إرادتها الأمنية في البحر الكاريبي رغم انكفائها النسبي عن بعض مناطق العالم
يتجاوز الحادث في رمزيته حدود المواجهة الثنائية بين واشنطن وكاراكاس، ليعكس تحولًا في نمط القوة الأمريكية في الإقليم. فواشنطن أرادت من خلال هذا التفجير إرسال رسالة مزدوجة من جهة، تأكيد استمرار قدرتها على فرض إرادتها الأمنية في البحر الكاريبي رغم انكفائها النسبي عن بعض مناطق العالم، ومن جهة أخرى، تحذير حلفاء فنزويلا ولا سيما روسيا وإيران من أن أي تمدد عسكري أو لوجستي في نصف الكرة الغربي لن يمر دون رد. غير أن هذه الرسالة جاءت على حساب شرعية النظام الدولي، حيث أعادت إلى الأذهان جدلية الردع بالقوة أم الردع بالقانون، وأثارت نقاشًا واسعًا حول ما إذا كانت الولايات المتحدة بصدد إحياء مبدأ مونرو بصيغة عسكرية جديدة، قوامها التدخل المباشر تحت مسميات أمنية ووقائية.[31]
وبذلك يمكن القول إن حادث تفجير الغواصة الفنزويلية يحمل دلالات قانونية خطيرة تتعلق بشرعية استخدام القوة خارج التفويض الدولي، ودلالات سياسية أعمق تتصل بعودة واشنطن إلى ممارسة سياسة الردع المسبق في محيطها الجغرافي. فهو ليس حادثًا معزولًا، بل يعبر عن تحول استراتيجي في مقاربة الولايات المتحدة لأمنها القومي في أمريكا اللاتينية، وعن تحدي مباشر للنظام القانوني الدولي الذي يفترض أن يقيد القوة لا أن يجعلها مشروعة.[32]
رابعًا: التوظيف السياسي الأمريكي للحادث
يمثل حادث تفجير الغواصة الفنزويلية لحظة هامة في طريقة توظيف الولايات المتحدة للأحداث الأمنية لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية أوسع، سواء على المستوى الداخلي أو في سياق إعادة صياغة نفوذها في أمريكا اللاتينية. فمنذ الحرب الباردة، اعتمدت واشنطن على مبدأ تسييس القضايا الأمنية كأداة لتبرير تدخلاتها وتوسيع نطاق نفوذها، وهو ما يتكرر اليوم عبر توظيفها لخطاب مكافحة المخدرات كمبرر لتدخل عسكري مباشر في محيطها الإقليمي.[33] يُظهر تحليل الموقف الأمريكي أن حادث الغواصة لم يكن مجرد رد فعل أمني على تهديد محدد، بل جزءًا من بنية سردية سياسية أمريكية أوسع، تسعى من خلالها واشنطن إلى إعادة تأكيد حضورها في منطقة تعتبرها تقليديًا مجالًا طبيعيًا لأمنها القومي ومسرحًا لتوازن القوى الدولي.
- استغلال الحادث في الدعاية الأمريكية لإنقاذ أمريكا من المخدرات الفنزويلية
تزامن تفجير الغواصة الفنزويلية مع تصاعد الخطاب الأمريكي الداخلي حول أمن الحدود ومكافحة تهريب المخدرات، وهي قضايا تشكل محورًا مركزيًا في الحياة السياسية الأمريكية، خاصة في الخطاب اليميني المحافظ. وقد شكل الحادث بالنسبة إلى الرئيس دونالد ترامب فرصة لإعادة تسويق خطابه الشعبوي القائم على القوة والسيادة، إذ صرح بأن “القوات الأمريكية أنقذت آلاف الأرواح عبر منع غواصة فنزويلية محملة بالمخدرات من الوصول إلى السواحل الأمريكية”، مؤكدًا أن الإدارة الديمقراطية السابقة فشلت في حماية الشعب الأمريكي من أخطار الأنظمة الفاسدة في أمريكا اللاتينية.[34]
- جذب جمهور الناخبين في الانتخابات القادمة
هذا الخطاب يتناغم مع الاستراتيجية الدعائية التي اتبعها ترامب منذ توليه الرئاسة عام 2017، والتي تقوم على تضخيم التهديدات الخارجية من المهاجرين والمخدرات والإرهاب لتبرير سياسات أكثر تشددًا داخليًا وخارجيًا. فحادث الغواصة قدم له نموذجًا مثاليًا لتجسيد فكرة الخطر القادم من الجنوب، بما يعزز الصورة الذهنية التي طالما رسخها عن فنزويلا بوصفها دولة مارقة تقود محورًا معاديًا للمصالح الأمريكية في نصف الكرة الغربي.[35]
ومن هذا المنظور، لا يمكن فصل الحادث عن الاعتبارات الانتخابية والسياسية الداخلية، إذ جاء في توقيت يتزامن مع اشتداد الحملات الرئاسية داخل الحزب الجمهوري، واحتدام الجدل حول سياسات الهجرة والمخدرات. فاستغلال ترامب للحادث يدخل ضمن إعادة بناء الشرعية السياسية عبر توظيف الأزمات الخارجية، وهو نهج متجذر في السياسة الأمريكية منذ حقبة ريغان وبوش الابن، حيث يُستخدم الخطر الخارجي لتوحيد الرأي العام الداخلي خلف القيادة.[36]
من أبرز ملامح التوظيف السياسي الأمريكي للحادث الاستثمار الإعلامي المكثف في تفاصيله. فقد حظي الحدث بتغطية واسعة في وسائل الإعلام الأمريكية المحافظة مثل Fox News وThe Washington Examiner، حيث قُدم بوصفه انتصارًا جديدًا للقوات الأمريكية في حربها ضد تهريب المخدرات. وقد ساهمت هذه التغطية في تشكيل صورة نمطية عن فنزويلا كدولة خارجة عن القانون، تُدار من قبل نظام إجرامي يتاجر بالمخدرات لتمويل أنشطته[37]. في المقابل، جرى تجاهل الرواية الفنزويلية في معظم القنوات الأمريكية الرئيسية، ما يؤكد التحكم المتعمد في السردية الإعلامية لخدمة الأهداف السياسية الأمريكية.[38]
- استخدام الولايات المتحدة ملف المخدرات كذريعة للتدخل العسكري في أمريكا اللاتينية
لطالما استخدمت الولايات المتحدة ملف تهريب المخدرات كوسيلة لتبرير تدخلاتها العسكرية في أمريكا اللاتينية، بدءًا من العمليات في كولومبيا (خطة كولومبيا عام 2000) وصولًا إلى المراقبة البحرية في البحر الكاريبي. غير أن حادث الغواصة يكشف عن تحول جوهري في توظيف هذا الملف، حيث لم يعد الهدف المعلن هو فقط مكافحة شبكات الجريمة، بل ربطها بأنظمة سياسية بعينها لتبرير سياسات عدائية ضدها. فمن خلال الزعم بأن الغواصة كانت جزءًا من شبكة تمول النظام الفنزويلي، سعت واشنطن إلى تجريم النظام نفسه وليس فقط المتورطين في التهريب، وهو ما يمنحها مبررًا سياسيًا وقانونيًا لتصعيد الضغوط، سواء عبر فرض عقوبات جديدة أو عبر دعم قوى معارضة داخلية.[39]
وقد لاحظ باحثون في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) أن الإدارة الأمريكية في عهد ترامب وسعت مفهوم الأمن القومي ليشمل مكافحة المخدرات بوصفها تهديدًا سياسيًا، وليس مجرد قضية جنائية. وبهذا التوسع المفاهيمي، أصبحت مكافحة المخدرات أداة لإعادة هندسة التوازنات السياسية في أمريكا الجنوبية، بما يتوافق مع المصالح الأمريكية.[40]
خامسًا: التداعيات الإقليمية والدولية لحادث تفجير الغواصة الفنزويلية
أثار حادث تفجير الغواصة الفنزويلية المنسوبة للبحرية الأمريكية موجة من التفاعلات الإقليمية والدولية، تجاوزت البعد الثنائي بين واشنطن وكاراكاس، لتنعكس على شبكة العلاقات السياسية والأمنية في أمريكا اللاتينية، وعلى طبيعة التوازنات بين القوى الكبرى المتنافسة على النفوذ في النصف الغربي من الكرة الأرضية. فقد أعاد الحادث طرح أسئلة جوهرية حول حدود السيادة، ومفهوم الردع، ومشروعية استخدام القوة خارج إطار القانون الدولي، في سياق يتسم بتصاعد التوترات الجيوسياسية العالمية، وعودة الولايات المتحدة إلى نهج أكثر صدامية في مواجهة خصومها الإقليميين.[41]
- التداعيات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة
لا يمكن إغفال البعد الداخلي للحادث، إذ مثل مادة خصبة للنقاش السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين. ففي حين اعتبر الجمهوريون التفجير دليلًا على الحزم الأمريكي في مواجهة الأنظمة العدائية، انتقد الديمقراطيون ما وصفوه بتجاوز القانون الدولي وتجاهل القنوات الدبلوماسية. وقد استُخدم الحادث لتغذية الاستقطاب السياسي الداخلي حول مفهوم الأمن القومي، ودور الولايات المتحدة في الخارج، وهو استقطاب يتجاوز حادث الغواصة ليعكس جدلًا أعمق حول حدود استخدام القوة العسكرية في السياسة الخارجية الأمريكية.[42] وفي هذا السياق، يمكن القول إن الحادث أسهم في تدوير الخطاب الأمني القومي الأمريكي باتجاه أكثر تشددًا، وربما مهد الطريق لإعادة بناء توافق داخلي حول أهمية استعادة الهيبة الأمريكية في محيطها الجغرافي، خصوصًا في ظل صعود قوى عالمية منافسة.[43]
إن التوظيف السياسي الأمريكي لحادث تفجير الغواصة الفنزويلية لا يقتصر على إطار الدعاية الانتخابية أو المبررات الأمنية، بل يعكس نهجًا بنيويًا في التفكير الاستراتيجي الأمريكي يقوم على استثمار الأزمات الخارجية لإعادة إنتاج الهيمنة ضمن النظام الدولي. فواشنطن استخدمت الحادث لتأكيد مركزيتها كقوة قادرة على فرض النظام في محيطها، ولتذكير خصومها وحلفائها على السواء بأن الهيمنة الأمريكية لم تنته بل تتجدد بأشكال جديدة أكثر مرونة.[44]
- التأثير على المنظومة الإقليمية في أمريكا اللاتينية
أول ما برز عقب الحادث هو الاستقطاب السياسي داخل أمريكا اللاتينية بين الدول المؤيدة للولايات المتحدة وتلك المتحالفة مع فنزويلا. فقد سارعت كولومبيا والإكوادور إلى تأييد الموقف الأمريكي، مشيرة إلى حق واشنطن في حماية أمنها من تهديدات المخدرات العابرة للحدود، بينما أدانت دول أخرى مثل بوليفيا ونيكاراغوا وكوبا وشيلي ما وصفته بالعدوان الأمريكي على سيادة دولة مستقلة.[45]
هذا الانقسام يعكس تجدد خطوط الانقسام الأيديولوجي في القارة بين المعسكر المحافظ المؤيد لليبرالية الغربية والمعسكر اليساري الذي لا يزال يتبنى إرث الثورة البوليفارية المناهضة للهيمنة. ومع ذلك، فإن معظم الدول اللاتينية التزمت موقفًا حذرًا، خشية من انزلاق المنطقة نحو مواجهة عسكرية مباشرة، خاصة أن البحر الكاريبي يشكل شريانًا تجاريًا رئيسيًا وفضاءً استراتيجيًا تتقاطع فيه مصالح كبرى.[46]
من ناحية أخرى، أدى الحادث إلى إحياء النقاش حول جدوى وجود القيادة الجنوبية الأمريكية في المنطقة، ودورها في العمليات البحرية والاستخباراتية. فبينما ترى واشنطن في تلك القيادة أداة لحماية الأمن البحري ومكافحة التهريب، تعتبرها العديد من العواصم اللاتينية رمزًا لاستمرار العسكرة الأمريكية في الإقليم. وبذلك، أسهم الحادث في زيادة الضغوط على حكومات اليسار الإقليمي لتعزيز التنسيق الدفاعي المشترك عبر منظمات مثل أوناسور وسيلات، في محاولة لخلق بديل إقليمي للهيمنة الأمريكية الأمنية.[47]
- التداعيات على العلاقات الأمريكية – الروسية – الصينية
لم يتأخر الرد الروسي والصيني في التعبير عن إدانة غير مباشرة للسلوك الأمريكي. فقد اعتبرت موسكو أن الحادث يمثل تصعيدًا غير مبرر من قبل واشنطن، وقد أشارت وزارة الخارجية الروسية وبيانها الرسمي إلى أن الولايات المتحدة استخدمت “قوة عسكرية مفرطة” في البحر الكاريبي واستهدافها فنزويلا “يثبت دعم روسيا الكامل لقيادة فنزويلا في الدفاع عن سيادتها الوطنية“. في وقت يشهد فيه النظام الدولي تحولات حساسة، مشيرة إلى أن استهداف غواصة فنزويلية يهدد الاستقرار في أمريكا اللاتينية، التي تراها روسيا منطقة نفوذ صديقة. أما بكين فقد اكتفت بدعوة جميع الأطراف إلى ضبط النفس وحل الخلافات عبر الحوار، لكنها في الوقت ذاته أعادت تأكيد دعمها لحق الدول النامية في حماية سيادتها من التدخلات الخارجية. وقد صرحت وزارة الخارجية الصينية وناطقها الرسمي بأن “الصين تعارض استخدام أو التهديد باستخدام القوة في العلاقات الدولية، وترفض أي تدخل خارجي في شؤون فنزويلا الداخلية تحت أي ذريعة”، ودعت واشنطن إلى العمل ضمن أُطر قانونية قضائية متعددة الأطراف بدلاً من “العمليات الأحادية المفرطة“. هذا الموقف يعكس تلاقي المصالح الروسية الصينية في استثمار الحادث لإبراز التناقضات الأمريكية، وتقديم نفسيهما كقوتين مدافعتين عن مبدأ عدم التدخل، مقابل ما يُنظر إليه على أنه توغل أمريكي في مناطق تعتبرها واشنطن مجالًا حصريًا لنفوذها وفق مبدأ مونرو التقليدي.[48]
وقد استغل البلدان الحادث لتأكيد خطابهما المناهض للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وربط الحادث بالأنماط نفسها التي اتبعتها واشنطن في مناطق أخرى، من الشرق الأوسط إلى بحر الصين الجنوبي. ومن ثم، يمكن القول إن تفجير الغواصة لم يكن مجرد حادث عسكري معزول، بل حدث يوظف في سياق الصراع الجيوسياسي العالمي بين محور الهيمنة الغربية ومحور القوى الصاعدة.[49]
- تأثير الحادث على توازنات الردع في المنطقة
يمثل الحادث أيضًا تحولًا في ميزان الردع الإقليمي، حيث أظهر استعداد واشنطن لاستخدام القوة الصلبة في مواجهة خصومها في نصف الكرة الغربي بعد سنوات من الاكتفاء بالعقوبات الاقتصادية والدبلوماسية. هذه الرسالة فُسرت إقليميًا باعتبارها إحياء لعقيدة التدخل الوقائي الأمريكي، وكمحاولة لإعادة ترسيخ الهيمنة البحرية في منطقة شهدت تمددًا متزايدًا لنفوذ روسيا والصين.[50] في المقابل، فإن فنزويلا وحلفاءها قد يسعون إلى توسيع تحالفاتهم الدفاعية، وتعزيز التعاون الاستخباراتي والعسكري مع موسكو وطهران، ما ينذر بتشكل نمط جديد من سباق النفوذ العسكري في الكاريبي. ومن المرجح أن تدفع هذه التطورات دولًا أخرى مثل البرازيل والمكسيك إلى تبني مواقف أكثر حذرًا، خشية انزلاق المنطقة إلى صراع غير مباشر بين القوى الكبرى.[51]
إن هذه التداعيات تؤكد أن حادث تفجير الغواصة الفنزويلية لم يكن حدثًا عابرًا، بل حلقة في سلسلة إعادة تشكل النظام الإقليمي في أمريكا اللاتينية، وانعكاسًا مباشرًا لصراع القوى الكبرى على مناطق النفوذ في النظام الدولي الجديد. وبينما تحاول واشنطن إعادة تثبيت موقعها كقوة ضامنة للأمن الإقليمي وفق رؤيتها الأحادية، تتحرك القوى الصاعدة لتكريس مبدأ التعددية القطبية والدفاع عن سيادة الدول الضعيفة. وهكذا، يغدو الحادث مؤشرًا على عمق التحول في العلاقات الدولية الراهنة، حيث يتقاطع المحلي بالإقليمي والعالمي في مشهد جديد من إعادة توزيع القوة والشرعية.[52]
- انعكاس الحادث على منظومة القانون الدولي
من زاوية قانونية، أثار الحادث نقاشًا واسعًا في أوساط القانون الدولي العام حول شرعية استهداف هدف عسكري خارج نطاق الحرب المعلنة، ودون تفويض من مجلس الأمن. فحتى وإن كانت الغواصة محملة وفق الرواية الأمريكية بشحنات مخدرات، فإن تفجيرها في المياه الدولية أو الإقليمية الفنزويلية يثير إشكالية انتهاك مبدأ السيادة الإقليمية ومبدأ عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية، المنصوص عليهما في ميثاق الأمم المتحدة (المادتان 2/4 و51).[53]
أشار عدد من الخبراء القانونيين في أمريكا اللاتينية إلى أن الحادث يُعيد إلى الأذهان العمليات العسكرية الأمريكية أحادية الجانب في مناطق مثل بنما عام 1989 أو سوريا عام 2017، وهو ما يطرح تساؤلات حول مدى التزام الولايات المتحدة بالقانون الدولي عندما تتذرع بالأمن القومي لتبرير استخدام القوة. وبالتالي، فإن التداعيات القانونية للحادث قد تتطور إلى تحركات أمام المنظمات الدولية، مثل مجلس حقوق الإنسان أو محكمة العدل الدولية، خاصة إذا تقدمت فنزويلا بشكوى رسمية تدعمها دول من محور الجنوب العالمي.[54]
مجمل القول، إن حادث تفجير الغواصة الفنزويلية من قبل الولايات المتحدة لا يمكن فصله عن مناخ دولي مضطرب تتداخل فيه المصالح الأمنية بالاعتبارات الأيديولوجية، وتختلط فيه أدوات الردع التقليدي بوسائل الضغط غير المتماثلة. فهو ليس مجرد رد عسكري على تهديد محتمل، بل تعبير عن تحول نوعي في أنماط السلوك الأمريكي، واستعادة الردع في محيطه الإقليمي المباشر. وبذلك، يصبح الحادث بمثابة رسالة موجهة إلى الداخل الأمريكي بقدر ما هي موجهة إلى خصوم واشنطن، مفادها أن الولايات المتحدة لا تزال تمتلك القدرة والإرادة لفرض إرادتها في النصف الغربي من العالم. وقد وظفت الولايات المتحدة الحادث من خلال استغلاله في الدعاية الأمريكية لإنقاذ أمريكا من المخدرات الفنزويلية، وجذب جمهور الناخبين في الانتخابات القادمة، واستخدام ملف المخدرات كذريعة للتدخل العسكري في أمريكا اللاتينية.
وعليه، فإن مستقبل العلاقات الأمريكية الفنزويلية سيتوقف على قدرة الطرفين على تحويل الصراع من المواجهة إلى إدارة الخلاف ضمن أطر قانونية ودبلوماسية أكثر اتزانًا، بعيدًا عن منطق القوة والاتهامات المتبادلة. كما أن الحادث يشير إلى أن الاستقرار الإقليمي في أمريكا اللاتينية بات مرهونًا بإعادة صياغة مفهوم الأمن الجماعي بما يتجاوز الهيمنة الأمريكية التقليدية، نحو مقاربة متعددة الأطراف تحفظ السيادة وتوازن المصالح في آن واحد. إنها لحظة اختبار حقيقية ليس فقط للعلاقات الثنائية، بل لشرعية النظام الدولي برمته في عصر يتجه بثبات نحو التعددية القطبية.
المصادر:
[1] ترامب يعلن تدمير غواصة كبيرة محملة بالمخدرات أثناء توجهها إلى الولايات المتحدة، نُشر في 18 أكتوبر 2025، RT.
[2] تأهب فنزويلي بـ4 ولايات وأميركا تقصف “غواصة مخدرات” بالكاريبي، نُشر في 18 أكتوبر 2025، الجزيرة.
[3] واشنطن تنفذ ضربة جديدة قبالة سواحل فنزويلا وتنشر أسلحة متطورة، نُشر في 17 أكتوبر 2025، الجزيرة.
[4] Venezuela: Background and U.S. Relations, 6 Dec 2022, congressional research service.
https://sgp.fas.org/crs/row/R44841.pdf?utm_source
[5] Venezuela: Background and U.S. Relations, 2022, CRS.
https://www.congress.gov/crs-product/R44841
[6] On the Uses and Misuses of Venezuela Sanctions, 29 Nov 2023, CSIS.
https://www.csis.org/analysis/uses-and-misuses-venezuela-sanctions
[7] “ترامب يدرس خططا لاستهداف منشآت الكوكايين داخل فنزويلا”، نُشر في 25 أكتوبر 2025، العربية.
[8] السيناريوهات المُتوقعة للتوترات الراهنة بين واشنطن وكاراكاس، نُشر في 22 سبتمبر 2025، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.
https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/10469
[9] فنزويلا تسعى لحشد الدعم في الأمم المتحدة ضد التهديد الأميركي، نُشر في 27 سبتمبر 2025، سكاي نيوز عربية.
[10] فنزويلا… عمليات لمكافحة المخدّرات على الحدود مع كولومبيا، نُشر في 26 أغسطس 2025، النهار العربي.
[11] بوصلة ترامب تعود إلى فنزويلا.. المخدرات أم النظام؟، نُشر في 17 أكتوبر 2025، العين الإخبارية.
https://al-ain.com/article/venezuela-maduro-trump
[12] Russian-Venezuelan Defense Cooperation.
https://www.cna.org/reports/2019/06/IOP-2019-U-020309-Final.pdf?utm_source
[13] China and Venezuela to strengthen military and technical cooperation.
[14] Iran and Venezuela: Axis of Anti-Americanism.
https://www.unitedagainstnucleariran.com/iran-and-venezuela/military-assets
[15] ترامب يفكر بشن غارات على أراضي فنزويلا ضد كارتيلات المخدرات، نُشر في 16 أكتوبر 2025، العربية.
[16] فنزويلا بعد التهديدات الأمريكية العسكرية: لا يمكن لأحد أن يستعبدنا، نُشر في 22 أبريل 2025.
[17] الولايات المتحدة تضغط على فنزويلا: حرب المخدرات تتحول إلى حرب نفسية تهز حكومة كراكاس، نُشر في 29 سبتمبر 2025، فرانس 24.
[18] فنزويلا: مناورات أميركا في ترينيداد وتوباغو استفزاز لبدء حرب، نُشر في 27 أكتوبر 2025، سكاي نيوز عربية.
[19] محمد عز الدين، عضو الحزب الجمهوري: التحرك العسكري الأمريكي ضد فنزويلا هدفه وقف تدفق المخدرات، نُشر في 20 أكتوبر 2025، الوطن.
https://www.elwatannews.com/news/details/8158327
[20] «حرب الكارتلات».. خطة ترامب الجديدة للإطاحة بمادورو، نُشر في 12 أكتوبر 2025، العين الإخبارية.
https://al-ain.com/article/trump-war-drugs-venezuela-regime-change
[21] مسؤول أميركي لـ”دروب سايت”: الاستخبارات تؤكد أن فنزويلا ليست مصدر الفنتانيل المهرب إلى أميركا، نُشر في 25 أكتوبر 2025، الميادين.
[22] للحصول على أموال من المخدرات.. إيران وحزب الله يستغلان فنزويلا في عهد مادورو، نُشر في 7 سبتمبر 2025، لعربية.
[23] فنزويلا تشن عملية عسكرية ضد تهريب المخدرات من كولومبيا، نُشر في 26 أغسطس 2025، الجزيرة.
[24] هل اقتربت ساعة الصفر في فنزويلا؟، نُشر في 30 أكتوبر 2025.
[25] ترمب يفكر بشن غارات على الأراضي الفنزويلية ضد عصابات المخدرات، نُشر في 16 أكتوبر 2025، انديبندنت عربية.
[26] “مبدأ مونرو”.. بسببه تدخلت الولايات المتحدة بدول أميركا، نُشر في 10 فبراير 2025، العربية.
[27] “عقيدة مونرو” وتاريخ نشأتها .. “لافروف”: الغرب يحاول إعطاءها طابعا عالميا، نُشر في 23 سبتمبر 2023، القاهرة الإخبارية.
[28]سمية نصر، روسيا وأوكرانيا: لماذا تم الحديث عن “عقيدة مونرو” الأمريكية خلال الأزمة الأوكرانية؟، نُشر في 3 مارس 2022، بي بي سي عربية.
https://www.bbc.com/arabic/world-60590223
[29] الإكوادور تفرج عن ناج من هجوم أمريكي على غواصة تهريب مخدرات، نُشر في 21 أكتوبر 2025، RT.
[30] العسكرة الأميركية قرب سواحل فنزويلا تكشف انقسامات القارة اللاتينية، نُشر في 20 سبتمبر 2025، الشرق نيوز.
[31] ملف المخدرات مجرد ستار لصراع النفط بين أمريكا وفنزويلا، نُشر في 9 نوفمبر 2018، المنتدى العربي للدفاع والتسليح.
https://defense-arab.com/vb/threads/207605
[32] توقيف 32 شخصاً في فنزويلا بتهمة «التآمر» ضدّ مادورو، نُشر في 23 يناير 2024، صحيفة الشرق الأوسط.
[33] عملية عسكرية في فنزويلا ضد مهربي المخدرات، نُشر في 26 أغسطس 2025.
[34] من اجتياح بنما إلى تهديد فنزويلا.. المخدرات ذريعة لحروب أمريكا، نُشر في 25 سبتمبر 2025، إرم نيوز.
https://www.eremnews.com/news/world/9o63kuf
[35] إسراء عادل، التوتر الأمريكي – الفنزويلي في الكاريبي: بين الردع العسكري وآفاق الاستقرار الإقليمي، نُشر في 12 سبتمبر 2025، شاف سنتر.
[36] عسكرة البحر الكاريبي: كيف غيّر تفويض ترامب الـCIA قواعد اللعبة؟، نُشر في 18 أكتوبر 2025، الميادين.
[37] البنتاجون: مقتل 6 في هجوم أمريكي على سفينة مخدرات مزعومة في الكاريبي، نُشر في 24 أكتوبر 2025، Reuters.
https://www.reuters.com/ar/world/TPC4EK4GWNKS3NFWBFAHYC2PZA-2025-10-24
[38] الجيش الأميركي يعلن تنفيذ غارة على سفينة مخدرات مزعومة قرب فنزويلا، نُشر في 3 أكتوبر 2025، الشرق نيوز.
[39] مادورو: فضحنا مؤامرة للاستخبارات الأمريكية لشن هجوم في البحر الكاريبي، نُشر في 30 أكتوبر 2025، RT.
[40] «هجوم الغواصة» يصعّد التوتر بين واشنطن وكاراكاس، نُشر في 17 أكتوبر 2025، صحيفة الشرق الأوسط.
[41] «الكاريبي يغلي».. حشد عسكري أمريكي غير مسبوق وعقوبات على بيترو، نُشر في 24 أكتوبر 2025، العين الإخبارية.
https://al-ain.com/article/1761333822
[42] ماذا يفعل الجيش الأميركي قرب فنزويلا؟، نُشر في 13 سبتمبر 2025، الجزيرة.
[43] تحشيد أميركي غامض على سواحل فنزويلا.. مدمرات وغواصة نووية، نُشر في 31 أغسطس 2025، العربية.
[44] أميركا تقصف سفينة فنزويلية أخرى يشتبه بأنها تنقل مخدرات ومقتل 3، نُشر في 16 سبتمبر 2025، صحيفة الشرق الأوسط.
[45] الرئيس الفنزويلي: إرسال غواصة نووية أمريكية إلى سواحلنا انتهاك لسيادتنا، نُشر في 28 أغسطس 2025، أخبار الغد.
[46] تعزيز عسكري أميركي في البحر الكاريبي.. «جيرالد فورد» جزء من الخطة، نُشر في 24 أكتوبر 2025، صوت بيروت انترناشونال.
[47] تصعيد الكاريبي.. بارجة أمريكية جديدة على بعد 10 كيلومترات من فنزويلا، نُشر في 26 أكتوبر 2025، العين الإخبارية.
https://al-ain.com/article/america-venezuela-battle
[48] Russian-Venezuelan Relations at a Crossroads, Wilson center.
[49] وزير: أمريكا تنفذ غارة جديدة على سفينة مخدرات مزعومة قرب فنزويلا، نُشر في 3 أكتوبر 2025، Reuters.
https://www.reuters.com/ar/world/TR2JHCVPTJNUZA6BHXIKIQ6QXY-2025-10-03
[50] Guillaume Long, The US warships off Venezuela aren’t there to fight drugs, 24 Oct 2025, Aljazeera.
[51] Economic Sanctions as State Crime: Empire, Law and the United States’ Economic Warfare in Latin America, 19 February 2025, OUP.
https://academic.oup.com/bjc/article-abstract/65/6/1183/8024302
[52] ضبط مخدرات في بحر العرب بقيمة تناهز مليار دولار، نُشر في 22 أكتوبر 2025، صحيفة الشرق الأوسط.
[53] سوسن مهنا، مدمرات في الكاريبي… هل تفتح واشنطن حربا صامتة ضد فنزويلا؟، نُشر في 20 سبتمبر 2025، انديبندنت عربية.
[54] “تحول مفاجئ” في بوصلة ترامب.. دول جديدة تتصدر أولويات واشنطن، نُشر في 24 أكتوبر 2025، المركزية.
باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب