تمر تركيا بمرحلة سياسية حرجة مع تصاعد التوتر بين الحكومة والمعارضة، وذلك عقب اعتقال رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، في 19 مارس 2025، في خطوة أثارت جدلاً واسعاً داخلياً وخارجياً. وقد جاء هذا التطور في سياق احتدام الصراع السياسي بين حزب العدالة والتنمية الحاكم والمعارضة التي تحاول تعزيز مكانتها بعد الانتخابات المحلية الأخيرة.
ورداً على اعتقال إمام أوغلو، نظم حزب الشعب الجمهوري ، الذي ينتمي إليه، انتخابات تمهيدية رمزية أمس الموافق 23 مارس 2025 شارك فيها نحو 15 مليون ناخب، في رسالة قوية تعكس حجم التأييد الشعبي لأوغلو، مما يعكس التغيرات العميقة في المزاج الشعبي التركي والتحديات العميقة التي يواجهها نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث يبين هذا التأييد الشعبي لأوغلو حجم الأزمة والمأزق الكبير الذي يواجهه أردوغان.(1)
أولاً: السياق العام للأزمة السياسية:
تأتي هذه الأزمة في ظل تزايد الضغوط الاقتصادية والتحديات السياسية التي تواجهها حكومة أردوغان. فبعد الانتخابات المحلية لعام 2019، التي شهدت فوز إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول، أصبح أوغلو شخصية بارزة في المعارضة التركية، ومرشحاً محتملاً لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2028. ومنذ فوزه، خاضت حكومته صراعات متكررة مع السلطة المركزية، التي سعت إلى تقليص صلاحيات البلديات الكبرى التي تسيطر عليها المعارضة.(2)
ثانياً: اعتقال إمام أوغلو وأبعاده السياسية:
في 23 مارس 2025، أصدرت محكمة تركية قراراً باعتقال إمام أوغلو بتهمة الفساد وسوء الإدارة المالية، وهو ما اعتبرته المعارضة خطوة ذات دوافع سياسية تهدف إلى تحييده عن المشهد السياسي. وجاء الاعتقال بعد سلسلة من التحقيقات التي استهدفت شخصيات معارضة بارزة، ما أدى إلى اتهام الحكومة باستخدام القضاء كأداة لتصفية الخصوم السياسيين.
وقد أثار هذا القرار موجة غضب شعبي غير مسبوقة، حيث خرج الآلاف إلى الشوارع في عدة مدن، مطالبين بإطلاق سراح إمام أوغلو ووقف “التدخلات السياسية في القضاء”. ومن جانبها، ردّت الحكومة بالتأكيد على استقلالية القضاء، معتبرة أن التهم الموجهة إليه تستند إلى أدلة قانونية وليست ذات طابع سياسي.(3)
ثالثاً: الانتخابات التمهيدية الرمزية ودعم 15 مليون ناخب:
رداً على اعتقال إمام أوغلو، نظم حزب الشعب الجمهوري، الذي ينتمي إليه، انتخابات تمهيدية رمزية شارك فيها نحو 15 مليون ناخب، في رسالة قوية تعكس حجم التأييد الشعبي له. وقد صوتت الغالبية العظمى لصالحه، ما يعكس تنامي شعبية المعارضة وتراجع التأييد لحزب العدالة والتنمية، خاصة في المدن الكبرى.
ويُعد هذا الدعم الجماهيري غير المسبوق مؤشراً على تحولات عميقة في المشهد السياسي التركي، حيث باتت المعارضة قادرة على حشد تأييد واسع النطاق، مما يعزز فرصها في الانتخابات الرئاسية المقبلة. كما أن هذا التطور يُبرز حالة الاستقطاب المتزايدة بين الحكومة والمعارضة، والتي قد تؤدي إلى مزيد من التصعيد في المرحلة القادمة.(4)
رابعاً: تداعيات الأزمة على الاستقرار السياسي والاقتصادي:
يأتي اعتقال إمام أوغلو في وقت يواجه فيه نظام أردوغان تحديات اقتصادية كبيرة، بما في ذلك ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة الليرة التركية. وقد أثّر هذا الحدث على الأسواق المالية، حيث شهدت الليرة تراجعاً حاداً أمام الدولار، كما سجلت البورصة التركية انخفاضاً ملحوظاً وسط مخاوف من تصاعد التوترات السياسية.
على الصعيد السياسي، أدى هذا الحدث إلى تفاقم الانقسامات داخل المجتمع التركي، حيث يرى أنصار الحكومة أن الاعتقال خطوة ضرورية لمكافحة الفساد، في حين تعتبره المعارضة محاولة لإقصاء أحد أبرز رموزها. وقد عززت هذه الأزمة المخاوف بشأن مستقبل الديمقراطية في تركيا، لا سيما مع تزايد الانتقادات الدولية لسياسات الحكومة تجاه المعارضة.(5)
خامساً: الموقف الدولي وردود الفعل الخارجية:
أثار اعتقال إمام أوغلو ردود فعل دولية واسعة، حيث أعرب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة عن قلقهم إزاء ما وصفاه بـ”تسييس القضاء في تركيا”. كما دعت منظمات حقوقية دولية إلى الإفراج الفوري عنه، معتبرة أن ما يحدث يشكل انتهاكاً لمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.(6)
وفي ظل هذه الضغوط، قد تواجه الحكومة التركية صعوبات في علاقاتها مع الشركاء الدوليين، خاصة في ظل تزايد المخاوف بشأن مستقبل سيادة القانون في البلاد. ومن المتوقع أن تؤثر هذه التطورات على مفاوضات تركيا مع الاتحاد الأوروبي، خاصة فيما يتعلق بملف انضمامها إلى التكتل الأوروبي، والذي شهد تباطؤاً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة.(7)
سادسًا: محاولة الانقلاب 2016 وأثرها على المشهد السياسي التركي:
في 15 يوليو 2016، شهدت تركيا محاولة انقلاب عسكري فاشلة، نفذتها عناصر داخل الجيش التركي، متهمةً بالانتماء إلى جماعة فتح الله غولن، رجل الدين المقيم في الولايات المتحدة، والذي تصنفه أنقرة كزعيم تنظيم إرهابي. فشلت المحاولة بعد ساعات من المواجهات بين الجيش وقوات الأمن، في ظل دعوة أردوغان الشعب للنزول إلى الشوارع والتصدي للانقلابيين. وأعقب ذلك إعلان حالة الطوارئ التي استمرت لعامين، وشهدت حملة واسعة من الاعتقالات والإقالات في صفوف الجيش، والقضاء، والأكاديميين، والإعلاميين، والمعارضين السياسيين.
أسفرت هذه الإجراءات عن تعزيز سلطات الرئيس أردوغان، لا سيما بعد التعديلات الدستورية عام 2017، التي نقلت البلاد من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، مانحةً الرئيس سلطات واسعة على حساب البرلمان والقضاء. وبذلك، شكّلت محاولة الانقلاب نقطة انطلاق لمسار جديد في السياسة التركية، حيث زادت مركزية السلطة، وازداد التضييق على المعارضة، مما جعل المشهد السياسي أكثر استقطابًا.(8)
سابعاً: السيناريوهات المحتملة للأزمة:
في ظل استمرار التصعيد، يمكن تصور عدة سيناريوهات للأزمة:
1. التصعيد السياسي والمزيد من الاحتجاجات: قد تؤدي الأزمة إلى استمرار المظاهرات واتساع نطاقها، ما قد يدفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد المعارضة، مما يزيد من حالة عدم الاستقرار.
2. التفاوض والحوار السياسي: قد تلجأ الحكومة إلى تقديم تنازلات أو الدخول في مفاوضات مع المعارضة في محاولة لاحتواء التوترات.
3. انتخابات مبكرة: في ظل تصاعد الضغوط، قد تلجأ الحكومة إلى خيار الانتخابات المبكرة، إلا أن ذلك سيظل مرهوناً بميزان القوى السياسية في البرلمان.
ختامًا، تعكس الأزمة الحالية في تركيا حالة التوتر العميق بين الحكومة والمعارضة، في سياق يشهد تحولات سياسية واقتصادية كبرى. ويبدو أن اعتقال إمام أوغلو قد يكون نقطة تحول في المشهد السياسي، حيث عزز من مكانته كرمز للمعارضة، في وقت تتزايد فيه الدعوات للإصلاح السياسي. وعلى المدى القريب، ستظل تداعيات هذه الأزمة عاملاً رئيسياً في تحديد مستقبل تركيا السياسي، سواء من حيث استقرار النظام الحاكم أو صعود المعارضة في الانتخابات المقبلة.
المصادر:
- تركيا.. 15 مليون ناخب يدعمون “رمزيا” ترشح أوغلو للرئاسة، نُشر في 24 مارس 2025، سكاي نيوز عربية – أبوظبي.
- ملايين الأتراك يختارون أكرم إمام أوغلو مرشحا رئاسيا لحزب الشعب الجمهوري في انتخابات رمزية رغم سجنه، نُشر في 24 مارس 2025، فرانس 24.
- المعارضة التركية تعلن جمع 15 مليون صوت لدعم ترشح إمام أوغلو للرئاسة، نُشر في 23 مارس 2025، الشرق نيوز.
- 15 مليون تركي يدعمون «رمزيا» ترشح أوغلو للانتخابات الرئاسية رغم توقيفه، نُشر في 23 مارس 2025، صحيفة الشرق الأوسط.
- حزب الشعب الجمهوري يعلن رئيس بلدية إسطنبول الموقوف مرشحا له في الانتخابات الرئاسية، نُشر في 24 مارس 2025، أر تي نيوز عربية.
- هل تحول المعارضة التركية إمام أوغلو إلى “مرشح مظلوم”؟، نُشر في 23 مارس 2025، الجزيرة.
- تركيا.. صدور حكم بحق رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو والمعارضة تهاجم أردوغان، نُشر في 23 مارس 2025، سي ان ان عربية.
- إنقلاب تركيا الفاشل: كيف تغيرت الجمهورية خلال السنوات الخمس الماضية؟، نُشر في يوليو 2021، بي بي سي عربية.
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-57779491
باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب