في لحظة فارقة من تحولات النظام الدولي، تأتي الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى ثلاث دول خليجية هي المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة في مايو او يونيو 2025، كمؤشر على إعادة ترتيب أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وفق منطق النفوذ والتوازن والمصالح المتبادلة. هذه الزيارة، وإن لم تتم بعد، تُقرأ سياسيًا كحدث استراتيجي له أبعاد تتجاوز الطابع البروتوكولي، لتلامس عمق التحولات الجيوسياسية في الإقليم، في ظل تفاقم التحديات الأمنية، واشتداد التنافس الدولي على الخليج كمنطقة استراتيجية حيوية.(1)
وتنطوي الزيارة على مجموعة من الرسائل السياسية والاقتصادية، التي تسعى من خلالها إدارة ترامب إلى إعادة تثبيت النفوذ الأمريكي في المنطقة، في الوقت الذي تتطلع فيه الدول الخليجية الثلاث إلى استثمار هذا الحضور الأمريكي في ملفات الأمن، والتكنولوجيا، والتنمية، والطاقة، ومشروعات التحول الوطني.
يتناول هذا التقرير التعرف على أهداف كل طرف، ماذا يهدف ترامب من هذه الزيارة، وماذا تريد منه دول الخليج؟.
أولًا: السياق الجيوسياسي للزيارة – لحظة إعادة تموضع استراتيجي:
تأتي الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الخليج العربي، في لحظة تتسم بتعقيدات جيوسياسية بالغة، على المستويين الإقليمي والدولي. فبينما يشهد النظام الدولي موجة من التعددية القطبية غير المستقرة، تتزايد حالة السيولة في العلاقات الدولية، ويتسارع التنافس بين القوى الكبرى على النفوذ في مناطق الطاقة والعبور الاستراتيجي، وعلى رأسها منطقة الخليج.
فالولايات المتحدة، التي شهدت في السنوات الأخيرة تراجعًا نسبيًا في حضورها الشرق أوسطي لصالح الصين وروسيا، تعود اليوم عبر إدارة ترامب الثانية بمقاربة مختلفة، أكثر واقعية، وأشد براغماتية، تهدف إلى استعادة زمام المبادرة في الإقليم، ليس من منطلق التدخل المباشر، وإنما من منطلق “إعادة تعريف التحالفات” وفق معادلة تقوم على تبادل المصالح الصلبة، الأمن مقابل الاستثمارات، التكنولوجيا مقابل الطاقة، النفوذ مقابل التطبيع.(2)
في هذا الإطار، لا تُقرأ الزيارة كمجرد تفعيل لمسار دبلوماسي، بل كعملية تفاوض استراتيجية موسعة، يُعاد فيها ترسيم خطوط التحالفات بين واشنطن والعواصم الخليجية الثلاث: الرياض، الدوحة، وأبوظبي، كلٌ منها وفق مصالحه وسياقاته الخاصة، ولكن ضمن مظلة أمريكية واحدة تستهدف:
• الحد من التمدد الإيراني الإقليمي والنووي.
• إعادة ضبط سوق الطاقة العالمي بما يخدم المصالح الأمريكية.
• حشد الموارد الخليجية في مشاريع اقتصادية تخدم الداخل الأمريكي.
• خلق بيئة سياسية إقليمية مواتية للتطبيع مع إسرائيل، عبر وساطات أمريكية.
• تعزيز التحالف الأمني في وجه الصين وروسيا.
من هنا، فإن الزيارة تُعد اختبارًا فعليًا لقدرة إدارة ترامب على تجديد العقد الاستراتيجي الأمريكي-الخليجي، ولكن بمنطق جديد يقوم على إعادة توزيع الأعباء والمكاسب، بعيدًا عن منطق الحماية المجانية أو التبعية المطلقة.
ثانيًا: الخليج كأولوية أمريكية متجددة – دوافع العودة الأمريكية النشطة:
رغم الخطاب الذي ساد في العقد الأخير عن “انسحاب أمريكي تدريجي من الشرق الأوسط”، إلا أن معادلات الواقع الاستراتيجي كشفت حدود هذا الانسحاب. فموقع الخليج الحيوي كمنطقة عبور للطاقة، وكمحور توازن في الصراع مع إيران، وكمجال مفتوح للمنافسة الصينية-الروسية، يجعل من هذه المنطقة أولوية استراتيجية لا يمكن التفريط بها.
ولذلك، تأتي زيارة ترامب في إطار:
- إعادة التموضع العسكري المرن: عبر مراجعة تموضع القواعد الأمريكية في الخليج وتحديث اتفاقيات الدفاع المشترك.
- تثبيت خطوط إمداد الطاقة: عبر ضمان استمرار تدفق النفط بأسعار معقولة تدعم النمو الغربي.
- الاستثمار في النخبة السياسية الخليجية الصاعدة: من خلال دعم قادة ينسجمون مع الرؤية الأمريكية في التحول الاقتصادي والتقارب مع إسرائيل.(3)
ثالثًا: زيارة متعددة الأجندات – خصوصية العلاقة مع كل دولة:
ما يميز هذه الزيارة، هو أنها ليست مقاربة موحدة تجاه الخليج، بل تحتوي على أجندة مخصصة لكل دولة، تنبع من خصوصية العلاقة التاريخية، ومن موقع كل دولة في النظام الخليجي وفي أولويات واشنطن. فالسعودية، بوصفها الدولة المحورية الأكبر، يُنظر إليها كمرتكز للاستثمار والتحالف السياسي والأمني، بينما تمثل قطر بوابة النفوذ العسكري والدبلوماسي، فيما تُعد الإمارات منصة التحديث الاقتصادي والنفوذ الإقليمي غير المباشر.
وبذلك، فإن التحليل المتعمق للزيارة يقتضي تناول كل دولة بشكل مستقل، مع تفكيك الأجندة السياسية والاقتصادية والأمنية التي تسعى إليها واشنطن، وما تقابله من أهداف خليجية موازية.
الرياض وواشنطن – تحالف في طور إعادة الهيكلة الاستراتيجية:
1. البعد الاستثماري – من شراكة نفطية إلى تحالف اقتصادي عميق
من بين أبرز أهداف زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المرتقبة إلى المملكة العربية السعودية، الدفع باتجاه تحول استراتيجي في طبيعة العلاقة الاقتصادية بين الرياض وواشنطن، يقوم على نقل مركز الثقل من نموذج “النفط مقابل الأمن”، الذي ساد لعقود، إلى نموذج جديد أكثر تعقيدًا وتداخلًا، عنوانه الأبرز: “الاستثمارات الخليجية مقابل التمكين السياسي والتكنولوجي والعسكري”.
في هذا الإطار، يسعى ترامب إلى تحقيق هدف طموح يتمثل في جذب ما يصل إلى تريليون دولار من الاستثمارات السعودية المباشرة وغير المباشرة نحو الاقتصاد الأمريكي، خلال السنوات القادمة، في قطاعات حيوية تشمل: التكنولوجيا المتقدمة، الذكاء الاصطناعي، البنية التحتية، الصناعات الدفاعية، والطاقة النظيفة. ويُعد هذا التوجه امتدادًا لرؤية ترامب في إعادة تنشيط الاقتصاد الأمريكي من خلال رؤوس الأموال الأجنبية، وبخاصة من دول الخليج ذات الفوائض المالية الكبيرة.
وبينما تعكس هذه الرؤية الأمريكية توجهًا براغماتيًا لتعويض الإنفاق الداخلي وتقليص العجز في الميزانية الفيدرالية، فإنها تتلاقى مع المصالح السعودية في إطار رؤية “السعودية 2030”، والتي تهدف إلى تعظيم النفوذ الاقتصادي السعودي في الأسواق العالمية، واكتساب حصة أوسع في صناعة القرار المالي والتكنولوجي الدولي، من خلال الاستثمارات ذات الأثر السياسي.
وبالتالي، فإن زيارة ترامب تُعد منصة تفاوضية رفيعة المستوى لعقد حزم من الاتفاقيات الاقتصادية الكبرى، قد تشمل على سبيل المثال، استثمارات سعودية في شركات أمريكية مثل “تسلا”، و”أمازون”، و”إنتل”، و”جنرال إليكتريك”، بما يحقق للولايات المتحدة تدفقات مالية واستثمارات استراتيجية، ويضمن للسعودية مقعدًا أكثر تقدمًا في سلاسل القيمة العالمية.
إن هذا التحول في بنية العلاقات الاقتصادية بين البلدين يعكس إعادة هيكلة شاملة لتحالف تقليدي، يطمح لأن يتحول من علاقة تبعية نفطية إلى شراكة مالية واستراتيجية متعددة الأبعاد، تقوم على التوازن في المصالح والتأثير، دون المساس بالبُعد الأمني والعسكري، الذي لا يزال يحتفظ بدوره كمحور جوهري في هندسة العلاقة الأمريكية–السعودية.(4)
2. ملف الطاقة – النفط كسلاح جيوسياسي في يد واشنطن
تحتل مسألة الطاقة حيزًا محوريًا في زيارة ترامب، خاصة في ظل سعي إدارته إلى خفض أسعار النفط العالمية، بما يخفف من حدة التضخم في الداخل الأمريكي، ويمنح واشنطن ورقة ضغط في مواجهتها مع روسيا وإيران.
من هذا المنطلق، يُنتظر أن تمارس واشنطن ضغطًا مباشرًا على السعودية لزيادة إنتاج النفط، وهو ما يعني عمليًا تخفيض الأسعار عالميًا، وتقويض قدرة روسيا وإيران على الاستفادة من ارتفاع الأسعار. ورغم أن ذلك قد يتعارض مع مصالح أوبك+، إلا أن السعودية تدرك أهمية استخدام ورقة النفط كأداة تفاوضية مع واشنطن، بما يضمن مصالحها الأوسع في ملفات أخرى.
بالمقابل، تأمل الرياض أن يؤدي تجاوبها مع واشنطن في هذا الملف إلى تحقيق مكاسب استراتيجية، تشمل الدعم الأمريكي في مشاريع الطاقة المتجددة، وتخفيف الضغوط التشريعية الأمريكية التي تضعها أحيانًا تحت المساءلة بخصوص احتكار السوق النفطي.
3. الأمن والدفاع – نحو إعادة تعريف التحالف العسكري
منذ عقود، يُعد التحالف العسكري بين السعودية والولايات المتحدة حجر الزاوية في العلاقات الثنائية. واليوم، مع تصاعد التهديدات الإقليمية، تسعى الرياض إلى تعزيز دعمها العسكري الأمريكي النوعي، لا سيما في مجال الدفاعات الجوية والتكنولوجيا السيبرانية.
ومن أبرز الملفات المطروحة في هذا السياق، إحياء مشروع منظومة “ثاد” الدفاعية (Terminal High Altitude Area Defense)، التي سبق أن أثارت جدلًا في فترات سابقة، لما لها من تداعيات استراتيجية في مواجهة الصواريخ الباليستية، خصوصًا من إيران أو جماعة الحوثي. ومن المتوقع أن تُستخدم هذه الصفقة كورقة تفاوضية رئيسية، بحيث تقدم السعودية التزامات مالية ضخمة في مقابل الحصول على التقنية والمظلة الدفاعية المتقدمة.(5)
كما أن الرياض تسعى إلى الحصول على دعم أمريكي تقني في مجالات الطائرات بدون طيار، المراقبة الفضائية، والقدرات السيبرانية، بما يواكب طبيعة التهديدات الجديدة التي باتت هجينة ومتعددة الأبعاد.
4. الملف اليمني – التطلع لدور أمريكي أكثر فاعلية لاحتواء الحوثيين
لا يزال الملف اليمني يمثل أحد أكثر التحديات إلحاحًا للسعودية، في ظل استمرار تهديدات الحوثيين لأمن المملكة، وتوظيف إيران للجماعة كأداة لاستنزاف الجوار الخليجي. وفي هذا الإطار، تسعى السعودية إلى دفع واشنطن للعب دور أكثر صلابة في احتواء المشروع الحوثي عسكريًا وسياسيًا.
ومن المتوقع أن تطرح الرياض على طاولة المحادثات خلال الزيارة مبادرة تشمل:
• تعزيز الدعم الاستخباراتي الأمريكي في الجنوب اليمني.
• توسيع التنسيق العملياتي في مواجهة الهجمات الحوثية بالطائرات المسيّرة.
• الضغط الأمريكي على طهران لتقليص دعمها العسكري للحوثيين.
وفي المقابل، قد تسعى واشنطن إلى توظيف الورقة اليمنية كورقة ضغط على السعودية لدفعها نحو خطوات تطبيعية مع إسرائيل، في إطار مقايضات إقليمية أوسع.
5. التهديد الإيراني – بناء جدار ردع إقليمي برعاية أمريكية
تدرك السعودية أن الملف الإيراني سيكون حاضرًا بقوة على أجندة ترامب، خاصة في ظل توتر العلاقات بين واشنطن وطهران بسبب المشروع النووي، ودعم طهران لوكلائها الإقليميين. ولهذا، ترى الرياض أن زيارة ترامب تشكل فرصة لإعادة بناء جدار ردع إقليمي، عبر تأكيد التزام واشنطن بمنع إيران من امتلاك سلاح نووي، وتوسيع العقوبات عليها، ودعم الجهود الخليجية لاحتواء نفوذها.
ومن المنتظر أن تطلب السعودية من ترامب:
• موقفًا أمريكيًا واضحًا من الاتفاق النووي الإيراني الجديد.
• توسيع منظومة الدفاع الإقليمي ضد الصواريخ والطائرات الإيرانية.
في المقابل، قد تطلب واشنطن من السعودية اتخاذ مواقف أكثر انخراطًا في التحالفات الأمنية الأمريكية في المنطقة، بما في ذلك دعم انتشار أوسع للقواعد الأمريكية أو العمل الاستخباراتي المشترك في الخليج.(6)
6. ملف غزة والتطبيع – توازن سعودي معقد بين الداخل والمصالح الإقليمية
الملف الفلسطيني سيكون حاضرًا في الزيارة، وإن لم يكن في صدارة المشهد. فواشنطن تضغط باتجاه دفع السعودية لاتخاذ خطوات أكثر جرأة نحو التطبيع مع إسرائيل، ضمن صفقة سياسية تُقدم فيها ضمانات للفلسطينيين، وحوافز اقتصادية للسعودية، وربما امتيازات دفاعية أمريكية.
غير أن الموقف السعودي يتميز بالحذر، إذ تسعى الرياض إلى:
• تأجيل الخطوات التطبيعية العلنية حتى تحقق مكاسب سياسية في ملف غزة.
• استثمار علاقتها مع واشنطن للضغط على إسرائيل بشأن وقف الحرب وتقديم تسهيلات إنسانية.
• الحفاظ على موقعها القيادي في العالمين العربي والإسلامي من خلال تبني خطاب داعم للفلسطينيين.
بذلك، يشكل ملف غزة أداة سعودية للمناورة، في الوقت الذي تستخدمه واشنطن كأحد مداخل إعادة بناء خريطة التطبيع الإقليمي.
إن أهداف الرئيس ترامب من زيارته إلى السعودية تنطلق من رغبة في إعادة إنتاج العلاقة ضمن معادلة أمريكية جديدة تقوم على تبادل المصالح الصلبة، لا الحماية المجانية. وفي المقابل، ترى السعودية في هذه الزيارة فرصة لتعزيز استقلاليتها الاستراتيجية ضمن الغطاء الأمريكي، وللتفاوض على مكانتها في المنطقة كلاعب إقليمي متوازن، قادر على إدارة تعقيدات الجغرافيا السياسية دون أن يقع في فخ الانحياز المطلق.(7)
قطر – الدولة ذات الحضور الكبير في الحسابات الأمريكية:
1. قاعدة العديد: العمق العسكري للولايات المتحدة في الخليج
تشكل قطر بالنسبة للولايات المتحدة حجر زاوية في منظومتها العسكرية في الشرق الأوسط، حيث تضم قاعدة “العديد” الجوية، وهي من أكبر القواعد خارج الأراضي الأمريكية، وتستخدم كنقطة انطلاق للعمليات الأمريكية في الخليج ووسط آسيا.
وبالنظر إلى تحولات البيئة الأمنية في المنطقة، تسعى إدارة ترامب إلى تجديد التفاهمات الدفاعية مع قطر، وتوسيع نطاق التعاون العسكري، ليس فقط على مستوى تمركز القوات، بل في المجالات المتقدمة كالذكاء الاصطناعي العسكري، الأمن السيبراني.
كما تهدف الزيارة إلى تعميق التنسيق الاستخباراتي الأمريكي-القطري، في ظل تصاعد التحديات غير التقليدية مثل الإرهاب العابر للحدود، والتهديدات البحرية في الخليج، والهجمات السيبرانية، بالإضافة إلى إمكانية استخدام الأراضي القطرية كمركز للقيادة في حال نشوب صراع مع إيران.
من جهتها، تسعى قطر إلى تأكيد مكانتها كشريك أمني لا غنى عنه لواشنطن، وتوسيع هامش استقلالها الاستراتيجي، بما يمكنها من لعب أدوار إقليمية أوسع، دون الاصطفاف الكامل خلف أي محور.
وقد تداول إدعاء يفيد بأن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سيطلب من قطر تريليون دولار مقابل بقاء قاعدة العديد العسكرية الأمريكية على أراضيها.(8)
2. الغاز والسياسة: قطر كلاعب طاقوي لا يُستغنى عنه
في ظل التغيرات الجذرية في سوق الطاقة العالمية، أصبحت قطر، بوصفها أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال، لاعبًا استراتيجيًا لا يمكن تجاوزه. ولذا، يُتوقع أن تكون زيارة ترامب فرصة لإعادة تفعيل الشراكة الطاقوية مع الدوحة، ضمن رؤية أمريكية تستهدف:
• تنسيق استراتيجيات تصدير الغاز لمواجهة الهيمنة الروسية في أوروبا.
• جذب الاستثمارات القطرية في قطاع الطاقة الأمريكي، خصوصًا في مشروعات الغاز الطبيعي والبنية التحتية.
• الاستفادة من الخبرة القطرية في إدارة شبكات الإمداد الغازي المتطورة.
وبينما ترى واشنطن في قطر حليفًا طاقويًا بديلًا عن موسكو وطهران، تسعى الدوحة لاستثمار موقعها في سوق الطاقة لتعزيز دورها السياسي في الإقليم، والحفاظ على مكانتها كمورد موثوق ومستقر، خاصة في ظل تزايد الاعتماد الأوروبي عليها بعد أزمة أوكرانيا.
3. الوساطة الإقليمية: قطر كقوة ناعمة في صراعات المنطقة
تسعى الولايات المتحدة إلى توظيف الدور القطري المتنامي في الوساطات الإقليمية والدولية كأداة مكملة لقوتها الصلبة، خاصة في ملفات مثل:
• المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران.
• الوساطة في ملف تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس.
• الجهود الإنسانية في غزة وأفغانستان.
وتقدر إدارة ترامب هذه الأدوار القطرية بوصفها امتدادًا مرنًا للنفوذ الأمريكي في مناطق يصعب فيها الانخراط المباشر، مما يمنح الدوحة هامشًا من المناورة السياسية، ويُضفي على علاقتها بواشنطن طابعًا استراتيجيًا يتجاوز الحسابات العسكرية والاقتصادية.(9)
بالمقابل، تسعى قطر إلى الحفاظ على اعتراف أمريكي بدورها كوسيط موثوق، ومنع أي تقليص لهذا الدور لصالح أطراف إقليمية منافسة.
4. العلاقات مع إيران: توازن حذر في ظل التحالف مع واشنطن
تمثل العلاقة القطرية-الإيرانية نقطة حساسة في الزيارة، إذ تحتفظ الدوحة بعلاقات سياسية واقتصادية مفتوحة مع طهران، رغم شراكتها الأمنية الوثيقة مع الولايات المتحدة.
ويُتوقع أن تطالب إدارة ترامب خلال الزيارة بـ:
• ضبط الإيقاع الدبلوماسي القطري مع إيران.
• التنسيق مع واشنطن في أي وساطات تُجرى مع طهران.
لكن قطر، بحكم موقعها الجغرافي ومصالحها الاستراتيجية، ستسعى إلى الحفاظ على علاقة متوازنة مع إيران، تعفيها من الضغوط الأمنية، وتمنحها قدرة على الاستمرار في لعب دور الوسيط الإقليمي.(10)
5. ملف غزة والتطبيع: وساطة قطرية مشروطة ومحدودة
تحاول واشنطن عبر زيارة ترامب أن تستفيد من العلاقة القطرية القوية مع حركة حماس، خصوصًا في سياق ملف غزة. ويُنتظر أن تضغط الولايات المتحدة على قطر لأداء أدوار محددة، تشمل:
• إقناع حماس بوقف إطلاق النار أو الدخول في تسويات مشروطة.
• الضغط لتبادل الأسرى مع إسرائيل.
• تمويل مشاريع إعادة الإعمار بإشراف دولي.
لكن في المقابل، قد لا تتجاوب الدوحة مع الضغوط الأمريكية باتجاه التطبيع مع إسرائيل بشكل علني، بل ستحاول أن تحافظ على معادلة دقيقة وهي تقديم تسهيلات إنسانية في غزة، مقابل عدم الانخراط السياسي في أي صفقة إقليمية تتعارض مع موقفها التقليدي الداعم للفلسطينيين.(11)
الإمارات – الشريك الأمريكي الطموح في هندسة التوازن الإقليمي:
1. الاقتصاد والاستثمار: الإمارات كمنصة متقدمة للتمويل والتكنولوجيا
تمثل الإمارات بالنسبة للولايات المتحدة شريكًا اقتصاديًا استثنائيًا في منطقة الخليج، ليس فقط بسبب حجم الاستثمارات الثنائية، بل لكون أبوظبي ودبي تمثلان مركزًا ماليًا عالميًا تتقاطع فيه مصالح الشركات الأمريكية الكبرى.(12)
وتسعى إدارة ترامب، عبر هذه الزيارة، إلى:
• تعزيز تدفق الاستثمارات الإماراتية نحو القطاعات الأمريكية الحيوية، خاصة التكنولوجيا المتقدمة، الطاقة، الفضاء، الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني.
• خفض أسعار النفط وحث الإمارات على زيادة إنتاج النفط وزيادة الاستثمارات في أمريكا.
• دعم المشاريع الإماراتية في الأسواق الناشئة، خصوصًا في أفريقيا وجنوب آسيا، من خلال شراكات ثلاثية تُمكِّن واشنطن من التمدد غير المباشر.
ومن جانبها، تسعى الإمارات إلى تحفيز الشركات الأمريكية على اتخاذ الإمارات مركزًا إقليميًا لها في الشرق الأوسط، بما في ذلك شركات الدفاع، البنى التحتية، والخدمات اللوجستية، وتعزيز مكانتها كمركز تجاري وتكنولوجي عالمي، عبر توسيع شراكتها مع واشنطن في مجالات الاقتصاد الجديد، والتحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي، وهو ما يمثل ركيزة في استراتيجيتها الوطنية لما بعد النفط.(13)
2. الصناعات الدفاعية والتكنولوجيا العسكرية: الإمارات كلاعب إقليمي متقدم
تشكل الصناعات الدفاعية أحد أعمدة العلاقات الإماراتية-الأمريكية. فالإمارات ليست فقط مستوردة كبرى للسلاح الأمريكي، بل أصبحت أيضًا شريكًا في مشاريع إنتاج وتطوير التكنولوجيا الدفاعية.
ويسعى ترامب خلال زيارته إلى:
• تعزيز الشراكة العسكرية مع الإمارات في مواجهة التحديات الإقليمية، خصوصًا في الخليج، والبحر الأحمر، والقرن الأفريقي.
بينما تسعى الإمارات إلى إعادة التفاوض حول صفقات أسلحة استراتيجية، مثل طائرات F-35، وأنظمة الدفاع الجوي، والطائرات المسيرة، ودعم مشاريع الصناعات الدفاعية المحلية الإماراتية، ضمن رؤية تجعل أبوظبي مركزًا إقليميًا لصيانة وإنتاج المعدات العسكرية الأمريكية.
وترى الولايات المتحدة في الإمارات شريكًا يمكن الوثوق به في إنتاج التكنولوجيا العسكرية الحساسة، نظرًا لانضباطها الاستراتيجي، ومتانة تحالفها السياسي مع واشنطن.(14)
3. الملف الإيراني: موقع الإمارات في مشروع الردع الأمريكي الجديد
رغم تخفيض التصعيد النسبي بين الإمارات وإيران في السنوات الأخيرة، إلا أن زيارة ترامب تعيد تسليط الضوء على موقع أبوظبي في الاستراتيجية الأمريكية لاحتواء النفوذ الإيراني.
وتسعى واشنطن إلى:
• توسيع التنسيق الأمني مع الإمارات في مراقبة التحركات الإيرانية في مضيق هرمز وخليج عمان.
• تطوير القدرات الاستخباراتية المشتركة لرصد شبكات إيران في أفريقيا واليمن.
• بناء منظومة دفاع صاروخي خليجية تشكل الإمارات إحدى ركائزها.
وتُدرك أبوظبي أن التهديد الإيراني لا يمكن تجاهله، لكنها تسعى إلى الاحتفاظ بعلاقتها المتوازنة مع طهران، منعًا لأي تصعيد يهدد استقرارها الداخلي، أو مصالحها التجارية، خاصة في ظل موقعها كمركز مالي عالمي.
4. شمال أفريقيا والنفوذ الناعم: توافق إماراتي-أمريكي على دعم الاستقرار السياسي
تحاول الإمارات منذ سنوات لعب دور سياسي متنامٍ في شمال أفريقيا، من خلال دعم أنظمة الاستقرار، ومحاربة التنظيمات والجماعات الإرهابية، ومساندة مؤسسات الدولة في دول شمال أفريقيا.
وتسعى إدارة ترامب إلى توظيف هذا الدور الإماراتي ضمن إطار تحالف سياسي إقليمي، يساند الرؤية الأمريكية في إعادة ترتيب الأولويات بعد الانسحاب النسبي من الشرق الأوسط.(15)
وستناقش زيارة ترامب فرص:
• تنسيق الجهود السياسية في ليبيا لمواجهة النفوذ التركي والروسي.
• مساندة الأنظمة السياسية المتحالفة مع الغرب.
• دعم مشروعات التنمية والبنية التحتية في دول الساحل.
وهذا التعاون يعزز من مكانة الإمارات كفاعل غير تقليدي في الدبلوماسية الأمريكية الجديدة بالمنطقة.
5. ملف غزة والتطبيع: من التنسيق الأمني إلى مبادرات إعادة الإعمار
تُعد الإمارات الدولة الخليجية الأكثر انخراطًا في مشروع التطبيع مع إسرائيل، وقد وقّعت بالفعل “اتفاقات إبراهام” في حقبة ترامب الأولى. وتأتي الزيارة اليوم لتثبيت هذا المسار، واستثماره في ملفات ملتهبة كغزة.
وتسعى إدارة ترامب إلى:
• توسيع التعاون الإماراتي-الإسرائيلي بشأن ملف غزة بعد الحرب.
• إشراك الإمارات في جهود إعادة الإعمار ومشاريع التنمية الاقتصادية.
• ربط التطبيع الإماراتي بمبادرات تهدئة واحتواء لحركة حماس، عبر أدوات غير مباشرة (دعم السلطة، رعاية مشاريع إنسانية، تمويل مشترك مع أطراف أوروبية).
وترى الإمارات أن انخراطها في هذا الملف يعزز من مكانتها لدى واشنطن، ويمنحها دورًا مركزيًا في صياغة “ما بعد الحرب”، دون أن تُورط نفسها في صراعات عسكرية أو سياسية مباشرة.
تمثل الإمارات، في نظر إدارة ترامب، نموذجًا متقدمًا للشريك الإقليمي المتعدد الأبعاد، الذي يجمع بين الاقتصاد، الأمن، الدبلوماسية، والقدرة على التوسع الجيوسياسي. وفي المقابل، ترى أبوظبي في زيارة ترامب فرصة لتعزيز موقعها كمحور إقليمي في هندسة الاستقرار، وكمحطة رئيسية للنفوذ الأمريكي في حقبة ما بعد الانكفاء العسكري التقليدي.(16)
ختامًا، تعكس الزيارة المرتقبة للرئيس ترامب إلى الخليج، بما تحمله من محطات دبلوماسية واستراتيجية، تحولًا نوعيًا في طبيعة الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، من نمط التدخل المباشر إلى نمط إعادة الهيكلة من الداخل، عبر تعزيز التحالفات، وتوزيع الأدوار، وتوجيه موازين القوى لصالح توازن يخدم المصالح الأمريكية بعقلانية استراتيجية.
ففي السعودية، تبرز الرغبة الأمريكية في إعادة ضبط أسعار الطاقة عالميًا، وتحصين الشراكة الدفاعية، وموازنة العلاقة مع الصين وروسيا، بينما تسعى المملكة إلى تعظيم موقعها كقوة إقليمية فاعلة تتقاطع مصالحها مع مصالح واشنطن في ملفات مثل إيران واليمن والتطبيع مع إسرائيل.
أما في قطر، فإن الزيارة تؤسس لمرحلة جديدة من الشراكة المركّبة، التي تتجاوز الأمن والغاز لتلامس ملفات الوساطة السياسية والدبلوماسية الرمادية، فيما تمضي قطر في ترسيخ استقلالها الاستراتيجي ودورها كلاعب وسيط في المنطقة.
وفي الإمارات، تُوظَّف الزيارة لتكريس نموذج الشراكة متعددة الأبعاد، حيث تتداخل الاستثمارات، والصناعات الدفاعية، والنفوذ في أفريقيا، مع أجندة التطبيع ودور أبوظبي في رسم هندسة الاستقرار الإقليمي.
في المحصلة، تمثل زيارة ترامب المرتقبة إلى الخليج محطة مفصلية في مسار العلاقات الأمريكية الخليجية، ليس فقط في بعدها الثنائي، بل في إطار إعادة تشكيل الإقليم ككل ضمن منطق “توازن الشراكات”، لا “توازن القوى”، ما يفتح المجال أمام هندسة جديدة للعلاقات، تتجاوز الاصطفاف التقليدي، وتؤسس لحقبة ما بعد التدخل الأمريكي المباشر.
المصادر:
- The Gulf Cooperation Council: Search for Security.
https://www.jstor.org/stable/3991756
- A New U.S. Approach to Gulf Security.
https://carnegieendowment.org/posts/2014/03/a-new-us-approach-to-gulf-security?lang=en
- Iran, Saudi Arabia, and Societal and Political Change in the Middle East.
- The Gulf Shifts Policies in Response to the “New” Syria.
- The Trump Presidency’s Foreign Policy: Implications for the Middle East and Shifting Global Dynamics.
- The Great Powers and Security Competition in the Middle East and the Horn of Africa.
- السفير حمدي صالح يكتب من واشنطن: ما قبل زيارة ترامب وما بعدها، نُشر في 12 ابريل 2025، بوابة أخبار اليوم الاليكترونية.
- «مقابل بقاء قاعدة العديد».. ما حقيقة طلب ترامب تريليون دولار من قطر، نُشر في 5 فبراير 2025، المصري اليوم.
https://www.almasryalyoum.com/news/details/3370560
- زيارة ترامب للخليج.. تعزيز التعاون الاقتصادي أو خطوات جديدة للهيمنة في الشرق الأوسط؟، نُشر في 1 ابريل 2025، الجمهور الإخباري.
https://www.algomhor.com/220164#goog_rewarded
- دلالات زيارة ترامب إلى دول الخليج العربي، نُشر في 6 ابريل 2025، العربية.
- في أول رحلة خارجية.. أكسيوس: ترامب سيزور السعودية منتصف مايو المقبل، نُشر في 31 مارس 2025، مصراوي.
- ترامب يعتزم زيارة السعودية في غضون شهر ونصف، نُشر في 7 مارس 2025، الجزيرة نت.
- المستشار السابق بالخارجية الأمريكية حازم الغبرا: ملف التطبيع يتصدر أجندة زيارة ترامب المرتقبة للشرق الأوسط، نُشر في 12 ابريل 2025، المصري اليوم.
https://www.almasryalyoum.com/news/details/3422142
- وزير الخارجية السعودي في واشنطن تحضيرا لزيارة ترامب للرياض، نُشر في 11 ابريل 2025، أخبار الخليج.
https://akhbar-alkhaleej.com/news/article/1397975
- ترامب يعلن عن زيارة مرتقبة إلى السعودية في مايو المقبل لتعزيز العلاقات الخليجية، نُشر في 11 ابريل 2025.
- وزير الخارجية السعودي يتوجه إلى واشنطن لتحضير زيارة ترامب لبلاده في أولى محطاته الخارجية، نُشر في 9 ابريل 2025، فرانس 24.
باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب