Cairo

(تصويت الكنيست الإسرائيلي على ضمّ “يهودا والسامرة”: السياق الداخلي والتداعيات السياسية الإقليمية والدولية) – قسم الشؤون العربية

قائمة المحتويات

باحث مساعد في النظم والنظرية السياسية بمركز ترو للدراسات والتدريب

   صوّت الكنيست الإسرائيلي في 22 أكتوبر من عام 2025 بالقراءة التمهيدية على مشروعي قانون، الأول يُفضي إلى ضمّ الضفة الغربية، أو ما يُعرف في الخطاب الصهيوني الرسمي بـ”يهودا والسامرة”، أما الثاني يسعى إلى ضمّ مستوطنة “معاليه أودميم” الواقعة شرق القدس. وقد صوّت لصالح المشروع الأول 25 نائبًا، بينما رفضه 24 آخرون. وفيما يخص المشروع الثاني قد أيده 31 نائبًا ورفضه 9 من أعضاء الكنيست. كما أن المعارضة قد انقسمت بين من أيد مشاريع الضمّ وبين من عارضها، بينما عارضت الحكومة مشاريع الضمّ واعتبرتها “استفزازًا سياسيًا” من قبل المعارضة غرضه إحراج الحكومة.[1]

   ويُعدّ هذا التصويت حدثًا ذا دلالة رمزية هامة في مسار القضية الفلسطينية، إذ مثّل هذا الحدث تتويجًا لمسار طويل من التحولات الفكرية والسياسية داخل إسرائيل منذ نشأتها وحتى هذه اللحظة، وتعبيرًا عن الرغبة في انتقال المشروع الصهيوني من طور السيطرة الفعلية إلى طور السيادة القانونية. فالتصويت بالقراءة التمهيدية للضمّ لم يكن خطوة قانونية معزولة، بل هو نتيجة لتراكمات أيديولوجية تمتد من الجذور التوراتية للفكر الصهيوني إلى التحولات اليمينية المتطرفة في بنية النظام السياسي الإسرائيلي المعاصر.

   تأتي أهمية هذا التصويت من كونه يُجسّد اندماج البُعد الديني القومي بالبعد السياسي العملي في لحظة تاريخية حساسة أعقبتحرب الإبادة على قطاع غزة وما خلفتها من تحولات في ميزان القوة الإقليمي والدولي. كما يُبرز الحدث طبيعة التفاعلات الداخلية في إسرائيل، لا سيما صعود التيارات الدينية القومية المتشددة إلى مراكز القرار، وتوظيفها للضمّ كأداة لتوظيف المخزون الأيديولوجي للنظام اليميني القائم، مقابل تراجع التيارات البراجماتية التقليدية التي كانت تميل إلى تأجيل مثل هذه الخطوات خشية التبعات الدولية والمحددات الأمنية للدولة الإسرائيلية.

   وعلى المستوى الإقليمي والدولي، يفتح التصويت الباب أمام إعادة تشكّل العلاقات بين إسرائيل ومحيطها العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية ودول الاتفاقات الإبراهيمية، ويُظهر مناطق الخلل والتوتر في العلاقات الأمريكية والأوروبية مع إسرائيل، وذلك في ظل إظهار بروز التباين المؤقت بين الدعم الاستراتيجي والحسابات الدبلوماسية والمصالح. ومن ثم، تسعى هذه الورقة إلى قراءة الحدث في ضوء سياقه الأيديولوجي، والسياسي الداخلي، وتداعياته الإقليمية والدولية، بغرض الكشف عن مدى أهميته في التأثر بهذه المستويات، وإعادة تشكيلها في الوقت ذاته.  

أولًا: الخلفية الأيديولوجية الصهيونية لضمّ الضفة الغربية أو ما يُدعى “يهودا والسامرة”:

   يعتبر مشروع القانون الذي صوّت بموجبه الكنيست الإسرائيلي في الأيام الأخيرة من أكتوبر 2025 بالموافقة المبدئية على فرض السيادة الصهيونية على الضفة الغربية نتاج إرث طويل من تفاعل العوامل الأيديولوجية والتاريخية التي تجد صدى عميقًا لها في التجربة الصهيونية. لذا، من المفيد أن نستعرض هذا الحدث على ضوء تلك التفاعلات كي نفهم جذور منطق اللحظة التشريعية الصهيونية الراهنة.

   تعود فكرة ضمّ “يهودا والسامرة” – وهو التعبير التوراتي المُستخدم للإشارة إلى الضفة الغربية – إلى البنية التأسيسية للفكر الصهيوني نفسه، الذي نشأ منذ أواخر القرن التاسع عشر بوصفه مشروعًا قوميًا استيطانيًّا يستهدف إعادة تأسيس الوطن القومي اليهودي فيما أطلق عليه الصهاينة “أرض إسرائيل التاريخية”. لم يكن المشروع الصهيوني في بداياته محصورًا بحدود سياسية واضحة، بل ارتكز على رؤية أيديولوجية واسعة للأرض، تشكلت لاحقًا في تصور الامتداد من نهر الأردن شرقًا إلى البحر المتوسط غربًا، وتستمد تلك الرؤية مشروعيتها من الذاكرة الدينية والتاريخية لليهود في فلسطين، ومن مفهوم “الوعد الإلهي” الذي جرى إحياؤه – بعد علمنته – في الخطاب الصهيوني الحديث لتبرير العودة للأرض المقدسة وإقامة الدولة، ومن ثمة التوسع الإقليمي.[2]

   رغم أن التيار الصهيوني العمالي بزعامة دافيد بن غوريون كان أكثر ميلاً للبراجماتية السياسية؛ لأنه كان يهدف لتوطيد أركان الدولة الناشئة بعد حرب 1948، فإن النزعة التوسعية لم تغب عن تصورات النخبة الحاكمة المبكرة، بل كانت متروكة لحسابات الأمن.[3] أما في المعسكر اليميني، فقد وجدت فكرة الضمّ تعبيرها الواضح في فكر تصحيحي تبناه “زئيف جابوتنسكي”، مؤسس تيار الصهيونية التنقيحية، الذي رفض أي تنازل إقليمي واعتبر أن الأردن والضفة الغربية يشكّلان معًا جزءًا من الوطن القومي اليهودي غير القابل للتقسيم، وهو ما تبلور في رؤيته حول أرض إسرائيل التي تمتد على ضفتي نهر الأردن.[4] هذا الخط الأيديولوجي أصبح لاحقًا حجر الزاوية في برامج حزب “حيروت” بقيادة “مناحم بيجن”، ومن بعده حزب “الليكود”، حيث تَكرّس مبدأ “إسرائيل الكبرى” كمبدأ تأسيسي للهوية اليمينية الإسرائيلية ومنطلق أساسي في خطابها السياسي.[5]

   أما بعد حرب 1967، حين احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية والجولان وسيناء، برز داخل المجتمع الإسرائيلي جدل واسع حول مصير هذه الأراضي، وهو ما عُرف بجدل ما بعد 1967. فبينما رأت النخبة الأمنية، وفقًا لمنطق براجماتي، أن هذه المناطق يمكن أن تُستخدم كورقة تفاوضية لتحقيق السلام وضمان أمن إسرائيل، نشأت تيارات دينية قومية تعمل وفق منطق أيديولوجي، أبرزها حركة “غوش إيمونيم” أو (الكتلة المؤمنة) التي تبلورت في مطلع السبعينيات، والتي رأت في استعادة “يهودا والسامرة” تحقيقًا للوعد التوراتي وواجبًا دينيًا خلاصيًا لليهود لا يخضع للمساومة السياسية ولا الترتيبات الأمنية.[6] وبذلك تحولت الأراضي المحتلة في الدولة الفلسطينية من مناطق مُسيطر عليها بالقوة في انتظار التسوية إلى مجال خلاص ديني وسياسي في الوعي الصهيوني الديني.

   مع صعود حزب “الليكود” إلى الحكم عام 1977 بقيادة “مناحم بيجن”، وهو الصعود الذي أنهى سيطرة الاتجاه العمالي على السلطة الإسرائيلية، انتقلت فكرة الضمّ من الأطراف الأيديولوجية الرمزية الدينية إلى مركز السلطة السياسية كمشروع سياسي قابل للتحقق من قبل الحكومة الإسرائيلية. فالبيان السياسي لحزب الليكود الذي تضمن البرنامج الانتخابي لعام 1977 نصّ بوضوح على أن “يهودا والسامرة جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل”، وأن الدولة اليهودية تمتلك حق السيادة الكاملة عليهما.[7]

   ومنذ التسعينيات وحتى الانتفاضة الثانية عام 2000، أي في سياق توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، أُعيد إنتاج فكرة الضمّ بطريقة غير مباشرة عبر سياسة الضمّ الزاحف التي اتخذت من سياسات المكان كهندسة استعمارية تجلّت في التوسع الاستيطاني المنهجي، وشبكات الطرق الالتفافية، ونظام المناطق المُقسمة إلى (أ – ب – ج)، ووفقًا لاتفاقية أوسلو، تمثل منطقة (أ) نسبة 18% من الضفة وهي تُحكم بموجب الاتفاقية سياسيًا وأمنيًا بالكامل من السلطة الفلسطينية، بينما المنطقة (ب) تمثل نسبة 22% وتُحكم بالتشارك بين السلطة الفلسطينية التي تتولى الجانب الإداري، وسلطة الاحتلال التي تتولى الجانب الأمني. لكن في المنطقة (ج) التي تمثل نسبة 60% احتفظت إسرائيل لنفسها فعليًا السيطرة الأمنية والإدارية في أراضي الضفة.[8] لكن وجب التنويه أنه على المستوى الواقعي، تتدخل وتسيطر سلطة الاحتلال على أي بقعة من الضفة بالرغم من التقسيمة الواضحة في الاتفاقية. وما يهمنا في تلك المرحلة هو تحوّل الضمّ تاريخيًا من شعار أيديولوجي إلى سياسة بنيوية بطيئة تقوم على تكريس واقع جغرافي وديموغرافي يسبق أي إعلان قانوني.

    هذه التحولات الفكرية الأيديولوجية والسياسية التاريخية تعكس ارتكاز فكرة ضمّ الضفة الغربية في بنية الفكر الصهيوني والسياسة الإسرائيلية التوسعية التي ارتبطت بالتحولات الداخلية في الحكومة الإسرائيلية من اليسار العمالي الصهيوني الذي حمل عبئ تأسيس وإدارة الدولة الصهيونية حتى حقبة السبعينيات التي ارتبطت بصعود نفوذ اليمين سياسيًا وفكريًا.

ثانيًا: السياق السياسي والتفاعلات الداخلية الإسرائيلية للتصويت على مشروع قانون ضمّ الضفة الغربية “يهودا والسامرة” في أكتوبر 2025:

   على الرغم من أن التصويت الآني في الكنيست الإسرائيلي لم يُفضِ بعد إلى ضمّ قانوني فعلي للضفة الغربية؛ لأنه لا يزال في حاجة إلى ثلاثة قراءات أخرى داخل الكنيست، إلا أن رمزيته السياسية والأيديولوجية كانت بالغة الأهمية، إذ عبّرت عن تتويج لمسار طويل من التحوّلات الفكرية والتاريخية التي تناولها المحور السابق، وعن انتقال فكرة أرض إسرائيل الكبرى من المجال الأيديولوجي إلى حقل التشريع الرسمي. وننتقل الآن لمناقشة التحوّلات الائتلافية والسياسية في الحكومة الإسرائيلية الحالية وتفاعلاتها مع السياق السياسي الداخلي للحظة التصويت على مشروع قانون الضمّ.

أ – التحولات الائتلافية والسياسية في إسرائيل (2022 – 2025) كتمهيد لمشروع الضمّ:

   شهدت إسرائيل بين عامي 2022 – 2025 سلسلة من التحولات الحادة في بنيتها الائتلافية، أسهمت بصورة مباشرة في تهيئة المناخ السياسي والفكري لإحياء لمشاريع ضمّ الضفة الغربية سواء التدريجية أو المحتملة، وذلك بعد فترة من التجميد النسبي منذ عام 2020. فمع انهيار حكومة نفتالي بينت – يائير لابيد في منتصف عام 2022، عاد بنيامين نتنياهو إلى السلطة على رأس ائتلاف يُوصف بأنه “الأكثر يمينية” في تاريخ إسرائيل، جمع هذا الائتلاف بين حزب “الليكود” والتيارات الدينية والقومية المتشددة مثل “الصهيونية الدينية” بقيادة “بتسلئيل سموتريتش”، و”عوتسما يهوديت” أو “القوة اليهودية” بقيادة “إيتمار بن غفير”، إضافة إلى حزب “نوعام” ذي النزعة الدينية الأصولية وحزب “شاس”.[9]

   مثّل هذا الائتلاف الجديد استمرارًا في التوازن الداخلي لطبيعة حكومات نتنياهو التي تقوم على الائتلاف مع قوى اليمين، وأصبح اليمين المتطرف شريكًا حاكمًا يمتلك أدوات تأثير مؤسسية داخل الوزارات السيادية مثل المالية والأمن القومي والدفاع المدني في الضفة الغربية.[10] وهذا التشكيل الحكومي الأكثر تطرفًا قد مكّن التيارات الأيديولوجية الداعية إلى تطبيق السيادة الإسرائيلية على “يهودا والسامرة” من الانتقال من موقع الدعوة الخطابية إلى موقع التأثير التشريعي المباشر داخل الكنيست ولجانه.

   وخلال الفترة بين عامين 2023 – 2024، أي في سياق عملية طوفان الأقصى وحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، حاول نتنياهو موازنة الضغوط المتعارضة بين حلفائه المتشددين داخليًا، الداعمين للضمّ، وبين الضغوط الأمريكية والدولية الرافضة لأي خطوات أحادية نحو الضمّ، فعمل على تجميد المبادرات الرسمية، لكنه في المقابل أعطى الضوء الأخضر لتوسيع المستوطنات وتعديل صلاحيات الإدارة المدنية في الضفة بحيث باتت أقرب إلى نموذج السيادة الفعلية دون دعمها بإعلان قانوني صريح.[11] وقد شكّل هذا التوسع العملي على الأرض مقدمة أساسية للضمّ التشريعي الذي طُرح لاحقًا في الكنيست  عام 2025.

   أما في بدايات عام 2025، فقد تزايدت هشاشة الائتلاف الحاكم نتيجة الانقسامات الداخلية حول إدارة الحرب في غزة ومفاوضات ما بعد عملية طوفان الأقصى،[12] وهو ما دفع الأحزاب اليمينية الدينية إلى توظيف قضية الضمّ كورقة ضغط على نتنياهو لاحقًا. إذ سعى كل من حزب “الصهيونية الدينية” و“نوعام” إلى تأكيد التزام الحكومة بـالرؤية التوراتية لأرض إسرائيل الكاملة، فقدموا مشاريع قوانين لإعادة فتح ملف الضمّ في الكنيست، بدعم من بعض أعضاء حزب “إسرائيل بيتنا” الذين رأوا في الخطوة وسيلة لتقويض خصومهم السياسيين داخل الليكود.

   وإذا تتبعنا التغيرات في الائتلاف الإسرائيلي الحاكم منذ تشكيل الحكومة الحالية عام 2022؛ سنجد مدى تأثير حرب غزة على تطورات التفاعلات الحزبية في تكوين الحكومة الإسرائيلية الحالية. ففي بدايات الحكومة، كان الهدف المُعلن توسيع الاستيطان، وتعزيز السيطرة على الضفة الغربية، والمضي في إصلاح قضائي واسع لتقليص سلطات المحكمة العليا. لكن عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 غيّرت المشهد بشكل كبير، إذ أجبر نتنياهو على إشراك أطراف من الوسط لتشكيل “مجلس حرب” يضمّ “بيني جانتس” و”غادي آيزنكوت” من تحالف “الوحدة الوطنية”، إلى جانب وزير الدفاع السابق “يوآف غالانت”، في محاولة لإظهار وحدة وطنية خلال الحرب.[13]

   غير أن هذا الانفتاح المؤقت على قوى الوسط لم يدم طويلًا. فمع استمرار الحرب، تصاعد الخلاف بين جناح نتنياهو واليمين الديني من جهة، وبين “جانتس” و”آيزنكوت” من جهة أخرى، وذلك حول إدارة الحرب، وصفقة الأسرى، والخيارات السياسية لما بعد غزة. وفي أواخر مارس 2024 أعلن “جدعون” ساعر انسحاب حزبه “أمل جديد” من الحكومة احتجاجًا على تهميشه واستبعاده من مجلس الحرب. وبعدها في أوائل يونيو من نفس العام، أعلنا بيني “جانتس” و”آيزنكوت” انسحابهما من الحكومة ومجلس الحرب، متهمين رئيس الحكومة نتنياهو بالخضوع لأحزاب اليمين المتطرف وخدمة مصالحه الشخصية، ذلك ما أدى إلى تفكك حكومة الطوارئ.[14]

   أما داخل اليمين نفسه، تسببت الحرب أيضًا في انقسامات أيديولوجية حادة. ففي يناير 2025 أعلن إيتمار بن غفير، زعيم حزب “القوة اليهودية”، تعليق مشاركة حزبه في الحكومة احتجاجًا على صفقة تبادل الأسرى ووقف مؤقت لإطلاق النار مع حماس، معتبرًا ذلك “خضوعًا للإرهاب”. لكنه عاد في 18 مارس 2025 بعد تجدد العمليات العسكرية في غزة، بعدما رأى أن البقاء في الحكومة يمنحه قدرة أكبر على التأثير في قرارات الحرب وإدارة المستوطنات.[15]

   وفي يوليو 2025، انسحب حزب “نوعام” بزعامة “آفي ماعوز” – وهو النائب الذي قدم مشروع قانون ضمّ الضفة الغربية حاليًا في الكنيست – من الائتلاف احتجاجًا على ما وصفه بتراجع الحكومة عن “الهوية اليهودية للدولة” إثر خلافات داخلية حول المناهج التعليمية والسياسات الاجتماعية.[16] كان هذا الانسحاب رمزيًا أكثر من كونه مؤثرًا عدديًا، لكنه كشف عمق الانقسامات داخل الجبهة الدينية التي شكلت قاعدة نتنياهو السياسية.

   وبحلول منتصف يوليو 2025، تفجرت أزمة جديدة تمثلت في قرار المحكمة العليا الإسرائيلية إلغاء الإعفاءات الدائمة لطلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية، ما دفع حزبي “شاس” و”يهدوت هتوراه” إلى الانسحاب من الحكومة احتجاجًا على ما اعتبراه تراجعًا للواجبات الدينية لحساب التجنيد والخدمة العسكرية.[17] أدى هذا الانسحاب إلى تقلص عدد مقاعد الائتلاف الحكومي في الكنيست الإسرائيلي إلى 61 مقعدًا، وهو ما جعل الحكومة الحالية في أكثر أوضاعها هشاشة؛ لأن عدد مقاعدها أصبحت متروكة في الكنيست على الحد الأدنى اللازم لبقائها.[18]

   فالحرب كشفت عن عمق الانقسامات الأيديولوجية داخل الحكومة الإسرائيلية. فالأحزاب الوسطية كالتي قادها “جانتس” و”ساعر” انسحبت لأنها رأت أن نتنياهو يرفض وضع رؤية لما بعد الحرب، فيما انسحبت الأحزاب الدينية “كشاس” و”يهدوت هتوراه” بسبب مشكلة الحيرديم في الداخل الإسرائيلي، لكن يجب التنويه أن حزب “شاس” قد جمد عضويته ولم ينسحب بشكل كامل، مما جعل الحكومة لا تسقط. أما الأحزاب اليمينية المتطرفة “كالقوة اليهودية” و”نوعام” استغلت الحرب للضغط نحو مزيد من التشدد في غزة والضفة. لقد خرجت حكومة نتنياهو بحلول نهاية 2025 أضعف مما كانت عليه، بعدما فقدت أغلبية الائتلاف وواجهت احتجاجات داخلية وضغوطًا دولية متصاعدة. ومع ذلك، ظل نتنياهو ممسكًا بزمام السلطة بفضل انقسام المعارضة وتشتت البدائل السياسية. وهكذا تحولت الحرب في غزة من عامل لتوحيد الصف الإسرائيلي إلى مرآة أظهرت هشاشة النظام الحزبي الإسرائيلي وتناقضاته.

   بهذا المعنى، فإن تصويت الكنيست في أكتوبر 2025 لم يكن حدثًا معزولًا، بل ذروة مسار سياسي وأيديولوجي بدأ منذ عودة نتنياهو إلى الحكم، تخلله انتقال اليمين من الضمّ كأيديولوجيا إلى الضمّ كأداة سياسية تعكس التنافس الائتلافي وعدم الاستقرار الحكومي الذي بينته حرب غزة قبل أن تكشفه لحظة تصويت الضمّ الحالية. لقد تضافرت العوامل الأيديولوجية المتعلقة بالإيمان الديني بالسيادة على كل أرض إسرائيل مع العوامل السياسية المتمثلة في ضعف الحكومة وابتزاز الشركاء الائتلافيين لتنتج لحظة تشريعية عبّرت عن انزياح المؤسسة السياسية الإسرائيلية نحو اليمين الديني والقومي، ممهّدةً بذلك الطريق أمام محاولات إسباغ الشرعية القانونية على واقع استيطاني قائم فعلاً.

ب – التفاعلات الداخلية الإسرائيلية للتصويت على مشروع قانون الضمّ في أكتوبر 2025:

   صوّت الكنيست في جلسته المنعقدة في 22 أكتوبر 2025 بالأغلبية البسيطة على مشروع قانون لتطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنات المُقامة في الضفة الغربية. وقد حاز المشروع تأييد 25 نائبًا مقابل 24 معارضًا، ما سمح له بالمرور في القراءة التمهيدية، وهي المرحلة الأولى في المسار التشريعي داخل الكنيست. وفي الجلسة نفسها، جرى التصويت على مشروع قانون آخر أكثر تحديدًا يهدف إلى فرض السيادة على مستوطنة “معاليه أدوميم” الواقعة نواحي القدس، وحصل هذا المشروع على دعم أوسع نسبيًا، حيث حصد 32 صوتًا مؤيدًا مقابل 9 معارضين.[19]

   ورغم أن هذه النتائج لا ترتب أثرًا قانونيًا مباشرًا، إلا أنها تكشف عن تبدل في موازين القوى داخل الكنيست، وعن صعود الخطاب اليميني الديني الذي يسعى إلى تكريس ما يدعي أنه الحق التاريخي اليهودي في الضفة الغربية وتحويل واقع الاحتلال العسكري إلى ضمّ رسمي ذي صفة سيادية قانونية.

   تُظهر معطيات الجلسة أن المبادرتين لم تصدرا عن الحكومة الإسرائيلية نفسها، بل عن نواب من اليمين القومي والديني. فقد تقدّم “آفي ماعوز”، زعيم حزب “نوعام”، بمشروع القانون الأشمل الذي يتناول ضمّ مناطق “يهودا والسامرة” ككل، بينما طرح “أفيغدور ليبرمان”، زعيم الحزب المعارض “إسرائيل بيتنا” مشروع قانون منفصل يتعلق بمستوطنة “معاليه أدوميم”.[20] ويمثل هذان المشروعان نموذجًا واضحًا لحالة التنافس داخل معسكر اليمين الإسرائيلي على احتكار خطاب السيادة على أرض إسرائيل الكبرى، إذ يسعى كل حزب إلى تقديم نفسه بوصفه الراعي الأشد إخلاصًا للفكر القومي والتوراتي الديني عبر دعم خطوة الضمّ، في ظل غياب توافق حكومي جامع حول توقيت التنفيذ. ومن ثمة، فإن تعدد مصادر المبادرات يعكس سباقًا رمزيًا بين القوى اليمينية الدينية والقومية أكثر مما يعكس انسجامًا سياسيًا داخل الائتلاف الحاكم.

    أما فيما يخص موقف الحكومة الإسرائيلية من التصويت، فقد اتسمّ بقدر ملحوظ من التحفّظ والازدواجية السياسية التي عكست مأزق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في إدارة توازنات داخلية ودولية معقّدة. فعلى الرغم من أن التحالف الحاكم يضمّ أحزابًا يمينية متشددة تتبنى – أيديولوجيًا – فكرة فرض السيادة الإسرائيلية على “يهودا والسامرة”، إلا أن مكتب رئيس الحكومة نتنياهو سعى إلى تجميد المسار التشريعي للمشروع بعد القراءة التمهيدية، داعيًا أعضاء حزب الليكود وأحزاب الائتلاف الحاكم بعدم التصويت للقرار؛[21] لأنه يدرك أن المضيّ في خطوات الضمّ قد يثير أزمة دبلوماسية حادّة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ويعرّض إسرائيل لمشكلة دولية تعمّق من عزلتها السياسية في مرحلة حساسة وانتقالية من حربها الأخيرة على قطاع غزة التي كان من المفترض أنها توقفت مع خطة الرئيس ترامب للسلام بالرغم من الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة.

   لكن يجب التنويه أن موقف الحكومة الإسرائيلية لا يُعبّر عن رفض مبدئي لفكرة الضمّ، بل عن إدارة محسوبة للتوقيت السياسي، بحيث تُبقي الحكومة على الخطاب القومي الموجّه لقاعدتها اليمينية وتستخدمه كأداة رمزية للتعبئة الشعبية، دون رغبتها في تحمل تكلفته الدبلوماسية والسياسية في اللحظة الحاضرة.

   وفي المقابل، كشف التصويت عن تصدّع داخل التحالف الحكومي وعن تآكل قدرة رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو على ضبط مكونات ائتلافه، إذ مضت بعض الكتل اليمينية المتطرفة مثل حزب “القوة اليهودية” و”الصهيونية الدينية” في دعم مشروع قانون الضمّ رغم اعتراض رئيس الحكومة ودعوته لعدم التصويت بالتأييد عليه، ناهيك عن أن هناك عضوًا من حزب الليكود، الذي يشكل الأغلبية داخل الائتلاف الحاكم، قد صوت لصالح تأييد مشروع الضمّ، وتتخذ التيارات التي تأييد مشروع قانون الضمّ هذا المسار  كمحاولة منها للضغط على رئيس الحكومة وإثبات التزامها الأيديولوجي تجاه مشروع “أرض إسرائيل الكبرى” اليميني.[22]

   هذا الانقسام أضعف تماسك الحكومة وأبرز التناقض بين البُعد الأيديولوجي الداعي لتأكيد الضمّ وبين الواقعية السياسية التي تفرضها اعتبارات التحالفات الخارجية والعلاقات مع واشنطن والأنظمة العربية. من هنا يمكن القول إن موقف الحكومة لم يكن رفضًا للمضمون بقدر ما كان رفضًا للتوقيت، أي سعيًا لتأجيل التفعيل القانوني للمشروع مع الإبقاء على رمزيته السياسية كأداة تعبئة داخلية، ما يجعل التصويت حدثًا كاشفًا لأزمة التوازن بين الأيديولوجيا اليمينية التوسعية واعتبارات العقلانية الدبلوماسية والبراجماتية في السياسة الخارجية الإسرائيلية الراهنة.

   وقراءة المشهد الداخلي الإسرائيلي في الآونة الأخيرة قبل لحظة تصويت الكنيست الأخير، تُظهر الرغبة الجامحة للأحزاب اليمينية المتشددة داخل الائتلاف الحاكم في استثمار اللحظة السياسية بعد حرب غزة 2023 – 2024، معتبرة أن الظروف الدولية والإقليمية باتت مواتية لترجمة تصورات الضمّ.  

   وقد جاءت تصريحات الوزيرين “بتسلئيل سموتريتش” وزير المالية و”إيتمار بن غفير” وزير الأمن القومي – اللذان أيدا قرار الضمّ وصوّت بعض الأعضاء من حزبيهما لصالح مشروع قانون الضمّ – لتؤكد هذا التوجه، حيث وجّه الأول كلامه لرئيس الحكومة الذي يخشى موقف واشنطن قائلًا: “سيدي رئيس الوزراء، الكنيست قال كلمته، حان الوقت لفرض السيادة الكاملة على جميع أراضي يهودا والسامرة، وللدفع نحو اتفاقيات سلام مقابل سلام مع جيراننا من موقع قوة”، بينما رأى الثاني أنه قد “حان وقت السيادة”.[23] وهذا الخطاب يكشف عن التناقض بين رئيس الحكومة وحلفائه الائتلافيين الذي يدعمون بقوة قرار الضمّ.

   واللافت للانتباه أن تصويت الكنيست تزامن مع زيارة نائب الرئيس الأمريكي “جي دي فانس” لإسرائيل، ما زاد من حساسية التوقيت. وعلى ضوء تلك التفاعلات الداخلية في إسرائيل، وجّه البيت الأبيض عبر القنوات الدبلوماسية تحذيرات واضحة للحكومة الإسرائيلية من الإقدام على أي خطوات رسمية نحو الضمّ. ورغم أنّ إدارة دونالد ترامب الحالية تُعدّ أكثر قربًا من إسرائيل من الإدارات الديمقراطية السابقة، فإنّها عبّرت عن تحفّظ تكتيكي تجاه الضمّ العلني، خشية أن يؤدي هذا الضمّ إلى تفجير الأوضاع في الضفة وغزة وإلى الزج بعلاقات واشنطن مع العواصم العربية التي أقامت اتفاقات تطبيع مع إسرائيل خلال السنوات الأخيرة إلى مرحلة من التوتر وعدم الثقة، خاصة بعد تعهد الرئيس ترامب للأنظمة العربية بأن خطوة الضمّ لن تحدث.[24]

  يُستنتج من هذا الحدث عن مجموعة من الدلالات السياسية في الداخل الإسرائيلي:

  • وجود خلل أساسي في آليات الانضباط الحزبي:

تكشف نتائج التصويت داخل الكنيست على مشروع قانون الضمّ عن خلل أساسي في آليات الانضباط الحزبي داخل الليكود وعن تصاعد نفوذ الكتل اليمينية الصغيرة مثل “نوعام” و”القوة اليهودية”. فرغم محدودية عدد مقاعدها، باتت هذه الأحزاب تمتلك القدرة على تحديد جدول أعمال الكنيست وإجبار الحكومة على التعامل مع أجندتها.[25] هذه الظاهرة تعبّر عن أزمة في بنية النظام الائتلافي الإسرائيلي الذي يقوم على المقايضات اللحظية والمصالح الفئوية، مما جعل السياسات الجوهرية للدولة – مثل مسألة الضمّ – رهينة ابتزاز الأحزاب الصغيرة التي يمكنها تهديد بقاء الحكومة.

  • تآكل قدرة نتنياهو على إدارة التناقضات داخل حكومته:

 يُظهر التصويت تآكل قدرة نتنياهو على إدارة التناقضات داخل حكومته، إذ أصبح أسير معادلة معقدة، فأي تراجع أمام الضغوط الأمريكية قد يُفجّر ائتلافه من الداخل وهو ما يضعه في مأزق سياسي وربما قضائي، وأي استجابة لحلفائه قد تدفع إسرائيل نحو عزلة دولية متزايدة. لذا يمكن تفسير موقفه باعتباره استراتيجية امتصاص للضغوط أكثر منه قناعة بعدم بالضمّ، وذلك في محاولة منه للحفاظ على توازن دقيق بين شرعيته الداخلية وشراكته الخارجية.[26]

  • الدلالة الرمزية لمحاولة شرعنة الضمّ:

 من الناحية القانونية، لم يغيّر التصويت في القراءة التمهيدية الوضع القائم، إذ لن يتحول مشروع القانون إلى قانون ملزم على الأراضي المحتلة ما لم يُقرّ في ثلاث قراءات أو جولات تصويتية أخرى وفقًا للنظام القانوني للدولة الإسرائيلية.[27] لكن الدلالة الرمزية والسياسية كانت أعمق بكثير؛ فمجرد إدخال فكرة الضمّ إلى قاعة التشريع – حتى مع العلم بصعوبة عدم مرورها في القراءات اللاحقة – يُعدّ اعترافًا برلمانيًا ضمنيًا بشرعية الطرح اليميني. فهذه الإجراءات التشريعية تُمثل نقلة نوعية في مسار التطبيع السياسي مع فكرة الضمّ، وتمنح المستوطنين مبرّرًا إضافيًا لتوسيع نشاطهم الاستيطاني على الأرض، الأمر الذي يُصعّب التراجع مستقبلًا ويُقوض الحق الفلسطيني في إقامة الدولة وينسف مبدأ حل الدولتين صاحب الشرعية الدولية. فاليمين الإسرائيلي القومي والديني يسعى إلى إعادة إنتاج مبدأ “أرض إسرائيل الكاملة” ضمن منطق قانوني، يهدف إلى إلغاء الفاصل بين الاحتلال والسيادة وتحويل السيطرة العسكرية المدعومة بالقوة إلى سيادة قانونية مكتملة الأركان، وإلى ترسيخ واقع استعماري جديد تحت غطاء التشريع.

ثالثا: التباعات الدولية والإقليمية لتصويت الكنيست على مشروع قانون ضمّ الضفة الغربية “يهودا والسامرة”:

     مما لا شك فيه أن تصويت الكنيست على مشروع قانون الضمّ يعد لحظة هامة على المستوى الرمزي، وليس فقط على مستوى ثنائية إسرائيل – فلسطين، بل تمتد لتشمل المحيطين الإقليمي والدولي، بما يجعل اكتمال هذه اللحظة يُسهم بشكل أساسي في إعادة رسم التفاعلات الإقليمية والدولية. هذا المحور ينطلق من هذا الأساس كمحاولة لوضع لحظة التصويت الداخلي في محيطها الإقليمي وسياقها الدولي، وذلك من أجل الكشف عن قدرتها على إعادة رسم التفاعلات المتشابكة في تلك المسارات.

   أ – التباعات الإقليمية لتصويت الكنيست وتأثيره على مسار التطبيع:

   حتى هذه اللحظة، يُعد ضمّ الضفة الغربية لا يزال مشروع قانون، في حاجة إلى خطوات قانونية أخرى مكملة كي يتحول لقانون ملزم. لكن إذا ما حدث، وهو ما لا يُمكن استبعاده في ظل تصاعد تأثير اليمين الصهيوني القومي والديني، عند هذه اللحظة؛ يُرجح أن تدخل التفاعلات بين إسرائيل ومحيطها الإقليمي العربي والإسلامي في منطقة شديدة التعقيد.

  • تعطُل مسار التطبيع الإسرائيلي مع المملكة العربية السعودية:

   أولى القضايا التي ستتأثر بلا شك هي التطبيع الإسرائيلي – السعودي الذي قطع شوطًا كبيرًا، لكن عملية طوفان الأقصى قد عطلته، إلا أن مشروع القانون الآني بالتصويت على ضمّ الضفة الغربية إذا ما أصبح قانونًا؛ سيجعل مسار التطبيع بين الدولتين يدخل في مرحلة متأزمة. فقد أدانت المملكة العربية السعودية في بيان رسمي المصادقة التمهيدية للكنيست الإسرائيلي على المشروعين القانونيين اللذين يفضيان إلى ضمّ الضفة ومستوطنة “معاليه أدوميم”. وجاءت تحذيرات سعودية سابقة حول هذا القرار أنه إذا ما تم، سيفضي إلى “تداعيات كبرى في جميع المجالات”.[28] ويُفهم من هذه الرسالة أن على رأس تلك التداعيات هو إيقاف مسار التطبيع بين الدولتين الذي يعاني بالفعل من عدة معوقات أخرى، ويمكن أيضا أن يكون من ضمن تلك التداعيات أيضًا إغلاق المجال الجوي السعودي أمام الرحلات الجوية الإسرائيلية التي فتحته المملكة السعودية عام 2022.

   يرتبط التطبيع السعودي مع إسرائيل بمجموعة من الشروط التي تعتبرها المملكة مبادئ أساسية لإقامة علاقات بين الدولتين، أهمها إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وتنطلق المملكة السعودية من إرث الدبلوماسية العربية في تسوية القضية الفلسطينية وإقامة علاقات مع إسرائيل، خاصة العمل في ضوء إطار مبادرة السلام العربية التي طرحت من قبل الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي كان وليًا لعهد المملكة العربية السعودية عام 2002 عندما طرح المبادرة في شهر مارس من نفس العام.[29] تؤكد تلك المبادرة – التي تم الموافقة عليها بالإجماع في القمة العربية عام 2002 – على دخول الدول العربية في علاقات مع إسرائيل مقابل انسحاب الأخيرة من المناطق التي احتلتها بعد عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة تكون عاصمتها القدس الشرقية.

   ويعتبر التصويت على ضمّ “يهودا والسامرة” أو الضفة الغربية في الكنيست الإسرائيلي، تناقضًا أساسيًا مع أُسس وشروط التطبيع السعودي المحتمل مع إسرائيل؛ لأن ضمّ الضفة ينسف مبدأ حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية التي ستكون أجزاء كبيرة منها على أراضي الضفة الغربية. وهذا ما سينهي المسار الذي خاضته الدولتان برعاية الولايات المتحدة لإقامة علاقات طبيعية، خاصة بعد حرب الإبادة الوحشية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة. ومن المرجح أنه إذا ما حدث الضمّ؛ ستتراجع المملكة العربية السعودية عن التطبيع حفاظًا على مكانتها الرمزية؛ لأنها ستكون فعليًا فاقدة لما يحفظ ماء وجهها للتطبيع بعد حرب غزة خاصة في ظل العزلة الدولية التي حدثت لإسرائيل بفعل جرائمها في قطاع غزة والدول الأخرى التي اعتدت عليها في الإقليم.

  • انعكاسات سلبية على مسار الاتفاقيات الإبراهيمية:

   كذلك، فإنّ دلالات التصويت تتجاوز الإطار السعودي لتطول بنية الاتفاقات الإبراهيمية نفسها، إذ أظهر الحدث هشاشة هذا المسار واستناده إلى مصالح ظرفية أكثر من كونه مشروعًا استراتيجيًا قائمًا على رؤية سلام حقيقي، لن يتم إلا بضمان تسوية القضية الفلسطينية بشكل عادل. فالمضي نحو الضمّ الذي يمثّل استمرارية لممارسات الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي يتناقض مع الادعاء بأن الاتفاقات الإبراهيمية يمكن أن تفتح أفقًا جديدًا للتعايش الإقليمي، إذ أظهر أن إسرائيل ستستمر في إنتاج منطق السيطرة والإقصاء ذاته على الحقوق الفلسطينية حتى وهي تتحدث عن سلام اقتصادي” وتعاون إقليمي أمني، وأن الولايات المتحدة الأمريكية ستعمل على تقريب شركائها من الدول العربية مع إسرائيل دون أن تستغل نفوذها على تل أبيب لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية لضمان الأمن في المنطقة.[30]

   وعلى خلفية تصويت الكنيست بمشروع قانون الضمّ، أدانت الخارجية الإماراتية التصويت للضمّ واعتبرته “تصعيدًا خطيرًا” وتجاوزًا للخطوط الحمراء،[31] وهي التي تعتبر أحد الأضلع الأساسية في الاتفاقات الإبراهيمية التي جرت عام 2020، مما يُنذر باحتمالية حدوث تراجع في العلاقات بين البلدين قد يأخذ شكل تخفيض للتمثيل الدبلوماسي، أو يصل إلى ما هو أبعد من ذلك، خاصة وأن دولة الإمارات قد اشترطت عدم ضفة الضفة عندما طبعت العلاقات مع إسرائيل عام 2020 في ضوء الاتفاقات الإبراهيمية التي تمت برعاية الولايات المتحدة الأمريكية.[32] لذلك، إذا ما ذهب مشروع قانون تصويت الضمّ إلى حيز القانون، سيضرب جوهر الاتفاقيات الإبراهيمية؛ لأنه سيجعلها تُظهر توظيف التطبيع من قبل إسرائيل كغطاء لتعزيز سياسات السيطرة الصهيونية على الأرض، لا كوسيلة لتحقيق تسوية عادلة للقضية الفلسطينية وتحقيق سلام وأمن إقليمي بين دول المنطقة.

ب – التبعات الدولية لتصويت الكنيست: مواقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي:

  • الموقف الأمريكي من ضمّ الضفة الغربية:

   انطلقت الرؤية الأمريكية للشرق الأوسط في فترة الرئيس ترامب الأولى من مقاربة أمنية – اقتصادية تهدف إلى إعادة هندسة الشرق الأوسط في ضوء تطبيع الدول العربية مع إسرائيل؛ لتخفيف مصادر التناقض بين حلفاء واشنطن في المنطقة، لا سيما دول الخليج وإسرائيل، وذلك لمواجهة إيران وتقليص نفوذها وضمان إرساء السلام في المنطقة. وقد جرت الاتفاقيات الإبراهيمية لتدعم هذا المسار.[33] إلا أن فترة الرئيس ترامب الثانية جاءت في ظل حرب إسرائيل على قطاع غزة التي قوضت مسار السلام وشككت في مسار الاتفاقات الإبراهيمية، وعطلت التطبيع السعودي المدعوم بجهود أمريكية،[34] وأشعلت المنطقة في مواجهات عدة، ناهيك عن عملها على إعادة تشكيلها.

   وبعدما استطاعت الإدارة الأمريكية الحالية فرض خطة الرئيس ترامب للسلام في أواخر سبتمبر من عام 2025، وهي التي تنص على وقف إطلاق نار، وتذكر إمكانية إيجاد “مسار إلى إقامة دولة فلسطينية”، إلا أن تصويت الكنيست على مشروع قانون ضمّ “يهودا والسامرة” يؤخر مسار الرغبة الأمريكية التي تصور جهودها على أنها مكتسبات أمنية يجب الحفاظ عليها، وكذلك سيضعها الضمّ في تناقض مع الأنظمة العربية التي أكدت لها واشنطن أن إسرائيل لن تضمّ الضفة الغربية.

   فهذا التصويت إذا ما تحول إلى قانون؛ سيقوض مسار التطبيع مع إسرائيل الذي تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، بالأخص التطبيع السعودي، ويؤجج الحرب من جديد. بالإضافة إلى إحراج الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها من الأنظمة العربية التي قطع الرئيس ترامب وعدًا لبعضها بأن مسألة ضمّ الضفة لن تحدث، وهو إذا ما حدث؛ سيُظهر الولايات المتحدة في مشهد الغير قادرة على التحكم في سلوك تل أبيب المُنفلت، خاصة بعد قصف إسرائيل لقطر الذي أظهر أن الدولة الإسرائيلية، وحكومتها اليمينية المتطرفة بالأخص، أصبحت لا تضع خطوطًا حمراء لعدوانها، وأن مظلة الحماية الأمريكية لم تعد كافية لضمان أمن الدول الخليجية.

   وقد عارضت الولايات المتحدة الأمريكية تصويت الكنيست، وصرّح الرئيس ترامب بأن إسرائيل ستفقد كافة الدعم الأمريكي إذا ما اتجهت نحو ضمّ الضفة الغربية.[35] وهو ما يؤشر على إمكانية حدوث تحول في طبيعة العلاقة بين البلدين التي تتسم بالتحالف والاعتماد الاستراتيجي المتبادل، وبالرغم من أن دعم واشنطن لإسرائيل يعتبر دعمًا غير محدود، إلا أن تصريح الرئيس ترامب يكشف عن أن هذا الدعم مرتبط بعدم الإضرار بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، أو انفلات إسرائيل بالكامل من تحت الرعاية الأمريكية. وهذا تحديدًا هو ما تضغط به قوى اليمين المؤيدة لقرار الضمّ على رئيس الحكومة الإسرائيلية؛ لأنها تعتبر إسرائيل دولة ذات سيادة وليست كيان تابع للبيت الأبيض، ينتظر ضوئه الأخضر في القرارات الحاسمة.

   كما تخشى الولايات المتحدة من أن يُشعِل قرار الضمّ المنطقة ويفتح جبهات مواجهة جديدة، بعدما حاولت واشنطن أن تصل إلى محاولة لتهدئة المنطقة بعد خطة ترامب للسلام التي تتضمن إعادة إعمار لغزة، وقمة شرم الشيخ للسلام التي وُقع بها وثيقة “اتفاق غزة” التي تهدف إلى إنهاء الصراع الدائر في القطاع منذ عامين. ويهم الولايات المتحدة أن تُبرز نفسها باعتبارها فاعلًا رئيسيًا في إيقاف الحرب والمعاناة وإعادة الإعمار، خاصة  بعدما طالتها الاتهامات بالشراكة في حرب الإبادة في قطاع غزة. ناهيك عن رغبة الرئيس ترامب الشخصية في إنهاء الحرب في ضوء خطابه الذي يصور نفسه من خلاله على أنه رجل الأمن الأول في العالم؛ فهو تحدث في أكثر من مناسبة عن أنه منع نشوب ثمانية حروب، وأنه يسعى دومًا لإرساء السلام الدولي.[36]

   فتمرير الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل ضمّ الضفة الغربية ليس في الصالح الأمريكي؛ لأنها ستكون خطوة مُرسخة لاتجاه تزايد عدم الثقة بين الأنظمة العربية الحليفة والبيت الأبيض، وذلك في ظل التصاعد الروسي والصيني اللذين لديهما مواقف أكثر دعمًا للقضية الفلسطينية من واشنطن، وذلك ما يفتح مجال للمزيد من التقارب بين هذه القوى والأنظمة العربية على حساب نفوذ واشنطن في المنطقة. هذا على مستوى بنية النظام الدولي، أما إذا تحدثنا عن الحسابات في الداخل الامريكي، سنجد أنه وفقًا لاستطلاع قد أجرى مؤخرًا في الولايات المتحدة حول الموقف من إقامة دولة فلسطينية، يؤيد معظم الشعب الأمريكي بنسبة 59% إقامة دولة فلسطينية، حتى وصلت النسبة بين الديمقراطيين إلى 80% وبين الجمهوريين إلى 41%،[37] وهذا ما يجعل الإدارة الأمريكية ترفض ضمّ إسرائيل للضفة الغربية ليس لأسباب متعلقة بمصالحها الدولية فقط، بل لأسباب متعلقة بعدم إثارة المعارضة في الداخل الأمريكي الذي يعاني من تناقضاته الحالية أيضًا.

  • موقف الاتحاد الأوروبي من ضمّ الضفة الغربية:

   أما إذا انتقلنا لموقف الاتحاد الأوروبي، سنجد أنه عارض تصويت الكنيست على مشروع قانون الضمّ، واعتبره غير شرعي ومخالف لحل الدولتين.[38] والموقف الأوروبي تتشابك رؤيته للوضع مع الرؤية الأمريكية إلا أنه يتمايز عنها في الوقت ذاته. فالاتحاد الأوروبي يريد استقرار وسلام في المنطقة يضمن له ضمان استمرار امداداته النفطية والاستمرار في الشركات الاقتصادية والأمنية الهامة مع الدول العربية في المنطقة،[39] وعدم ترك مجال نفوذ لتوسع روسي بها أيضًا، وهو في ذلك لا يختلف كثيرًا عن الموقف الأمريكي. لكنه على وجه مقابل مدفوع بعوامل أكثر خصوصية أخرى لمعارضة قرار الضمّ.

   فدول الاتحاد الأوروبي تتعرض لضغط كبير في عواصمها وشوارعها للضغط على إسرائيل لإيقاف جرائمها التي بدت واضحة لجميع شعوب المجتمع الدولي بعد حرب إبادتها على قطاع غزة وانتهاكاتها المستمرة في الضفة، وهي الجرائم التي تفاعلات معها قطاعات واسعة من الشعوب الأوربية بشكل غير مسبوق في شكل مظاهرات واحتجاجات جابت أغلب شوارع بلدان الاتحاد الأوروبي،[40] حتى وُصف هذا الموقف على أنه تحول نوعي في تنامي وعي الشعوب الأوروبية بعدالة القضية الفلسطينية، وكان من المهم للاتحاد أن يدعم أي مسار للحل السياسي وإنهاء الحرب لتهدئة الرأي العام الداخلي.

   وإذا ما تم الضمّ، من المرجح أن تجد بلدان الاتحاد الأوروبي نفسها أمام ضغوط الشارع الأوروبي مجددًا. ناهيك عن أن الاتحاد الأوروبي لديه تخوفات من ملف تدفق اللاجئين، وهو ما سيصبح أمرًا واقعًا إذا ما ضمت إسرائيل الضفة الغربية، مما سيجعل الآلاف من الفلسطينيين يتوجهون نحو القارة الأوروبية. فكذلك رفض الاتحاد الأوروبي لقرار الضمّ مرهون باعتبارات جيوسياسية تهدف لاستقرار الأوضاع في المنطقة لضمان الأمن الداخلي في دول الاتحاد الأوروبي نفسه. بالإضافة إلى أن استمرار نهج إسرائيل المتطرف سيزيد من حدة عدم التوافق بين دول الاتحاد في بلورة موقف واضح في ظل تبيان مواقف دول الاتحاد نفسه من إسرائيل، وهذا ما يمكن أن نفهمه إذا ما نظرنا إلى أسبانيا التي تلعب دورًا تقدميًا وفرنسا التي تميل إلى الدور الوسطي وألمانيا التي يأتي دورها أكثر تحفظًا.  

   وإذا ما تم الضمّ؛ ربما تتخذ دول الاتحاد الأوروبي موقف أكثر صرامة من الولايات المتحدة في ظل الضغط الشعبي المتزايد عليها، وتلك المواقف يمكن أن تتمثل في تعليق اتفاقية الشراكة التي تنظم العلاقات التجارية، والسياسية والثقافية بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، أو تعليق التعاون العلمي بينهما كوقف برنامج “هورايزون”، كذلك يمكن أن تكون قضية حظر بيع الأسلحة أو حظر دخول مسؤولين إسرائيليين من الاقتراحات المطروحة، وربما قد يصل الأمر إلى مقاطعة اقتصادية.[41]

   ختامًا، يمكن القول إن تصويت الكنيست الإسرائيلي في أكتوبر 2025 على مشروع قانون ضمّ الضفة الغربية لا يمكن النظر إليه كحادثة تشريعية معزولة، بل بوصفه تتويجًا لمسار تاريخي طويل في بنية الفكر والسياسة الإسرائيلية. فهو يعكس تداخلاً عميقًا بين الأيديولوجيا الصهيونية الدينية والقومية من جهة، ويكشف عن مناطق التناقض بين إسرائيل وحلفائها الدوليين بفعل تنامي نفوذ اليمين المتطرف من جهة أخرى. كما مثّل هذا التصويت لحظة كاشفة لتحوّل الدولة الإسرائيلية من منطق الاحتلال العسكري المدعوم بقوة الأمر الواقع إلى محاولة تكريس السيادة القانونية الدائمة، بما يسبق ذلك من تثبيت واقع استيطاني وإعادة تشكيل العلاقة بين العوامل الديموغرافية والقانونية على الأراضي الفلسطينية.

   كما كشف الحدث عن هشاشة البنية الائتلافية للحكومة الإسرائيلية، وعن تصاعد تأثير التيارات اليمينية الدينية التي باتت قادرة على توجيه القرار السياسي عبر أدوات تشريعية ورمزية، في مقابل تراجع قدرة القيادة السياسية على ضبط توازناتها الداخلية والخارجية. ومن ثمّ، فإنّ التصويت لم يكن مجرد اختبار لمستقبل الضفة الغربية، بل اختبارًا لقدرة إسرائيل ذاتها على التوفيق بين منطق الدولة ومصالحها ومنطق العقيدة. كما أنه من الوارد أن تحدث انتخابات مبكرة في إسرائيل بفعل أزمات الحيرديم وما تمثله من خطر على الائتلاف الحكومي. ناهيك عن أن الموعد النهائي القانوني لبقاء الحكومة هو أكتوبر 2026 الذي ستجرى فيه الانتخابات التشريعية في إسرائيل، مما يؤشر على صعوبة حدوث الضمّ في تلك المدة في ظل تلك الانقسامات السياسية والضغط الدولي والإقليمي.

   أما على الصعيدين الإقليمي والدولي، فقد أظهر التصويت حدود مشروع “السلام الإقليمي” الذي تأسس على الاتفاقات الإبراهيمية، وأعاد إبراز مركزية القضية الفلسطينية في تفاعلات المنطقة. فالتطورات الأخيرة أوضحت أن التطبيع لا يمكن أن يستمر بمعزل عن معالجة جوهر الصراع، وأن أي محاولة لتجاوز الحقوق الفلسطينية ستظلّ تولّد توترات جديدة في العلاقات العربية – الإسرائيلية، وتضع واشنطن والعواصم الأوروبية أمام معضلات استراتيجية وأخلاقية متزايدة.

   في ضوء ذلك، يمكن القول إن تصويت الكنيست عام 2025 يمثّل لحظة رمزية تُسهم في إعادة رسم معادلات السيادة في فلسطين وإبراز مأزق النظام الدولي ومشروعيته، كما أنه يكشف في الوقت نفسه عن استمرار المأزق البنيوي للمشروع الصهيوني الذي يسعى إلى فرض سيطرة دائمة تحت غطاء التشريع، غير مُدرك أن كل خطوة في هذا الاتجاه إنما تُعمّق عزلة إسرائيل وتُعيد القضية الفلسطينية إلى مركز النظام الإقليمي والدولي بوصفها قضية تحرّر وعدالة تاريخية لم تُحسم بعد.

  • السيناريوهات المستقبلية لقضية ضمّ الضفة الغربية:

   والآن يمكننا أن نحاول رسم مسارات مستقبلية للحظة التصويت الحالية للكنيست. هناك احتمالية في المضيّ نحو الضمّ الفعلي والتصعيد الإقليمي، وهو السيناريو الذي ترجّحه المؤشرات الأيديولوجية والسياسية داخل الائتلاف اليميني الحاكم، خاصة في ظل تصاعد نفوذ التيارات الدينية القومية التي ترى في الضمّ استحقاقًا دينيًا وسياديًا لا يمكن التراجع عنه. في هذا المسار، قد تستكمل الحكومة الإسرائيلية الإجراءات التشريعية اللازمة لإقرار القانون في قراءتيه الأولى والثانية والثالثة، بما يؤدي إلى فرض السيادة الإسرائيلية رسميًا على أجزاء واسعة من الضفة الغربية.

   غير أن هذا الخيار سيترتب عليه تصعيد حاد في المشهدين الإقليمي والدولي، إذ ستُواجه إسرائيل موجة إدانات دولية واسعة، وتتوتر علاقاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما سيؤدي إلى تجميد أو انهيار مسار التطبيع مع المملكة العربية السعودية وتهديد الاتفاقيات الإبراهيمية والعلاقات مع الأنظمة العربية سواء المعلنة أم غير المعلنة. أما داخليًا، فسيسهم في تعزيز موقع اليمين المتطرف على المدى القصير، لكنه سيعمّق عزلة إسرائيل ويزيد من احتمالات اندلاع مقاومة فلسطينية واسعة في الضفة والقدس وقطاع غزة، وربما انخراط أطراف إقليمية أخرى سواء فصائل مقاومة في جبهات متعدّدة أو دول.

   لكن هناك دلائل قوية على مسار آخر يتمثّل في تجميد المنحى التشريعي للضمّ دون التراجع عنه واقعيًا، وهو السيناريو الأكثر ترجيحًا في المدى القريب نظرًا لحساسية الظرف الإقليمي والدولي. ففي هذا الإطار، قد تلجأ حكومة نتنياهو إلى الحفاظ على خطاب الضمّ في المستوى الرمزي لتلبية تطلعات قاعدتها اليمينية، مع الإبقاء على الوضع القانوني القائم مؤقتًا تجنّبًا للصدام مع واشنطن أو تفجير الأوضاع الإقليمية. غير أنّ هذا التجميد التكتيكي لن يُوقف السياسات الفعلية على الأرض، إذ ستستمر عمليات التوسع الاستيطاني، وتُعاد هندسة الفضاء الجغرافي في الضفة عبر مشاريع البنية التحتية والطرق الالتفافية، في إطار ما يمكن تسميته الضمّ الزاحف الذي يرسّخ السيطرة الإسرائيلية دون إعلان رسمي. في المقابل، ستحافظ الدول العربية المطبّعة على علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وإن ضمن حدود أكثر تحفظًا، بينما ستتجه الولايات المتحدة إلى سياسة الموازنة بين احتواء الحكومة الإسرائيلية والحفاظ على استقرار الإقليم.

   أما المسار الأخير فيقوم على فرضية الانكفاء الإسرائيلي وإعادة ضبط السلوك السياسي، وهو احتمال  ضعيف نسبيًا لكنه يبقى قائمًا في المدى الطويل إذا تزايدت الضغوط الدولية والعزلة الإقليمية بشكل يجعل استمرار النهج اليميني مكلفًا داخليًا وخارجيًا. في هذا السيناريو، قد تتجه إسرائيل نحو مراجعة سياساتها تحت تأثير أزمة داخلية ناتجة عن تفكك الائتلاف الحاكم نتاج لأزمات الحيرديم أو تبدّل المزاج العام الإسرائيلي بعد تراكم الأعباء الأمنية والاقتصادية أو حتى تغيير المشهد السياسي الإسرائيلي بعد انتخابات أكتوبر 2026. كما قد تلعب القوى الغربية، لا سيما واشنطن والدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي، دورًا أكثر صرامة في اشتراط استمرار الدعم السياسي والاقتصادي بوقف خطوات الضمّ والعودة إلى مسار تفاوضي جديد. ويُحتمل أن تقود هذه التطورات إلى بلورة مبادرة سياسية دولية لإحياء مبدأ حلّ الدولتين أو صيغة معدّلة عنه تضمن تهدئة إقليمية وإعادة دمج إسرائيل في محيطها. غير أن هذا السيناريو، على الرغم من كونه الأكثر توافقًا مع المصالح الغربية والإقليمية، يظلّ مرهونًا بتحولات داخلية عميقة في إسرائيل، وبقدرة المجتمع الدولي على فرض إرادة جماعية تتجاوز منطق السيطرة الإسرائيلية.

   في ضوء هذه السيناريوهات، يتضح أن مستقبل مشروع ضمّ الضفة الغربية سيبقى مرتبطًا بتفاعل مركّب بين التفاعلات الإسرائيلية الداخلية، والتحولات في الموقفين الأمريكي والعربي، وطبيعة موازين القوى في النظام الدولي. فبينما يميل الواقع الراهن إلى ترجيح سيناريو التجميد التكتيكي، فإنّ استمرار العوامل الأيديولوجية والتوسعية قد يدفع نحو الضمّ الفعلي في لحظة سياسية مواتية، الأمر الذي يجعل المنطقة أمام مرحلة جديدة من عدم اليقين الاستراتيجي، يكون عنوانها الأبرز الصراع بين منطق القوة والمشروعية في الجغرافيا الفلسطينية.


[1]Israel’s parliament gives initial nod to occupied West Bank annexation”, Reuters, 22 October 2025, last access in: 27 October 2025: https://linksshortcut.com/lfNLI

[2] RABBI BRANT ROSEN, “When secular Israelis claim ‘God gave this land to us’”, PEOPLE’S WORLD, 29 May 2019, last access in: 27 October 2025: https://linksshortcut.com/ZSTiu

[3] Aviva Halamish, “The Reciprocity of Demography, Territory and Time in Shaping Zionist and Israeli Policy—1897-1951”, Strategic Assessment, Vol. 27, No. 2, pp. 147 – 149: https://linksshortcut.com/LMnVd

[4] Eleyan Sawafta, “The realities of Jabotinsky’s vision of a Jewish state leaves no place for Palestinians”, MIDDLE EAST MONITOR, 19 February 2029, last access in: 27 October 2025: https://linksshortcut.com/ZXQqr

[5] “«الليكود»… حزب يميني يتبنى فكرة «إسرائيل الكبرى»”، الشرق الأوسط، 4 أكتوبر 2024، آخر وصول في: 27 أكتوبر 2025: https://linksshortcut.com/KOyPe

[6] lain MacGillivray, “The Impact of Gush Emunim on the Social and Political Fabric of Israeli Society”, E-INTERNATIONAL RELATIONS, 21 July 2016, last access in: 27 October 2025: https://linksshortcut.com/slwRs

[7] THOMAS W. LIPPMAN, “How Israel’s Likud Party Played The Long Game Toward Annexation Of The West Bank”, RESPONSIBLE STATECRAFT, 18 May 2020, last access in: 27 October 2025: https://linksshortcut.com/UoKfL

[8]What are Area A, Area B, and Area C in the West Bank?, Anera, last access in: 27 October 2025: https://linksshortcut.com/FmKNZ

[9] “Israel seems closer to its most right-wing government yet as Netanyahu says he’s formed a new coalition”, CBS NEWS, 22 December 2022, last access in: 28 October 2025: https://linksshortcut.com/NmxQs

[10] “Israel turns extreme: Who are the new ministers?”, Albawaba, 31 December 2022, last access in: 28 October 2025: https://linksshortcut.com/koNYt

[11] “‘De facto annexation’: Israel approves flashpoint West Bank settlements”, MIDDLE EAST EYE, 28 June 2024, last access in: 28 October 2025: https://linksshortcut.com/kFDrI

[12] Riccardo Castagnoli, “Ceasefire in Gaza: The Fragile Agreement Between Israel and Hamas”, FINABEL

The European Land Force Commanders Organisation, 27 January 2025, last access in: 28 October 2025: https://linksshortcut.com/XbzeK

[13] حنان أبو سكين، “الحرب على غزة وإشكالية الاستقرار الحكومي وتوازن القوى في الداخل الإسرائيلي”، مجلة الديمقراطية، عدد ٩٩، يوليو ٢٠٢٥.

[14]  المصدر السابق.

[15]  المصدر السابق.

[16] Sam Sokol ,”Far-right MK Avi Maoz quits coalition, leaving Netanyahu without Knesset majority”, The Times of Israel, 17 July 2025, last access in: 2 November 2025: https://linksshortcut.com/Xnsdo

[17]Ultra-Orthodox party quits Israeli cabinet but throws Netanyahu a lifeline”, Reuters, 16 July 2025, last access in: 2 November 2025: https://linksshortcut.com/vMuuh

[18]حكومة نتنياهو في الحد الأدنى من المقاعد بعد انسحاب ثاني حزب ديني”، الجزيرة، 15 يوليو 2025، آخر وصول في: 2 نوفمبر 2025: https://linksshortcut.com/xmtOw

 

[19] “Israeli Knesset advances bills to annex West Bank, Jerusalem settlement”, ahram online, 22 October 2025, last access in: 29 October 2025: https://linksshortcut.com/POiFO

[20]الكنيست يوافق على مناقشة مشروعي قانون بشأن ضم الضفة الغربية”، DW، 22 أكتوبر 2025، آخر وصول في: 29 أكتوبر 2025: https://linksshortcut.com/mabDP

[21]نتنياهو يأمر بعدم تقديم مشاريع لفرض السيادة على الضفة الغربية”، الشرق الأوسط، 23 أكتوبر 2025، آخر وصول في: 29 أكتوبر 2025: https://linksshortcut.com/tgIHR

[22] ADAM ELYIAHU BERKOWITZ, “Knesset Defies Netanyahu and Trump, Advances Sovereignty Bills for Judea and Samaria”, ISRAEL356NEWS, 24 October 2025, last access in: 29 October 2025: https://linksshortcut.com/QBxbZ

[23] “بقراءة تمهيدية.. الكنيست يقر مشروع قانون ضم الضفة الغربية”، Sky News عربية، 22 أكتوبر 2025، آخر وصول في: 29 أكتوبر 2025: https://www.skynewsarabia.com/middle-east/1828888

[24] علي المخلافي، “ترامب يتعهد بعدم السماح لإسرائيل بضم الضفة الغربية”، DW، 26 سبتمبر 2025، آخر وصول في: 29 أكتوبر 2025: https://linksshortcut.com/QCPgP

[25] SAM SOKOL, “2 West Bank annexation bills get initial nod, with MKs rebelling against PM as Vance visits”, THE TIMES OF ISRAEL, 22 October 2025, last access in: 29 October 2025: https://linksshortcut.com/rkbWh

[26] Anderw Roth, “Bibi-sitting’: US heavy-hitters take turns to supervise Israeli prime minister”, The Guardian, 23 October 2025, last access in: 29 October 2025: https://linksshortcut.com/hEkZK

[27] “Settlement & Annexation Report: October 24, 2025”, Foundation For Middle East Peace, 24 October 2025, last access in: 29 October 2025: https://linksshortcut.com/UmzAs

[28]الرياض تحذر إسرائيل من “تداعيات كبرى” إذا أقدمت على ضم الضفة الغربية”، RT، 22 سبتمر 2025، آخر وصول في: 30 أكتوبر 2025: https://linksshortcut.com/BNyza

[29] Yoel Guzansky, “Saudi Arabia and Israel: Normalization at a Snail’s Pace”, INNS, 15 August 2022, last access in: 30 October 2025: https://linksshortcut.com/ifwSP

[30] Jeremy Pressman, “A Saudi Accord: Implications for Israel-Palestine Relations”, QUINCY INSTITUTE FOR RESPONSIBLE STSTECRAFT, 22 July 2024, last access in: 30 October 2025: https://linksshortcut.com/qQTvz

[31]الإمارات تُدين تصويت الكنيست التمهيدي بشأن ضم الضفة الغربية وإحدى المستوطنات”،CNN  بالعربية، 23 أكتوبر 2025، آخر وصول في: 30 أكتوبر 2025: https://linksshortcut.com/ycFut

[32] Steven A. Cook, “What’s Behind the New Israel-UAE Peace Deal?”, Council on Foreign Relations, 17 August 2020, last access in: 30 October 2025: https://www.cfr.org/in-brief/whats-behind-new-israel-uae-peace-deal

[33] James Jeffrey, “Trump Is Confirming, and Upending, US Middle East Policy”, The Washington Institute For Near East Policy, 9 September 2025, last access in: 30 October 2025: https://linksshortcut.com/WuWRt

[34] DIVYA MALHOTRA, “Abraham Accords and Saudi-Israel diplomatic normalization under Trump 2.0”, Modern Democracy, 16 February 2025, last access in: 30 October 2025: https://linksshortcut.com/rWThE

[35] “Trump says Israel will lose US support if it annexes West Bank”, Scroll. In, 24 October 2025, last access in: 30 October 2025: https://linksshortcut.com/BIRav

[36] “FACT FOCUS: With a truce in Israel, Trump now says he’s ended eight wars. His numbers are off”, AP, 13 October 2025, last access in: 30 October 2025: https://linksshortcut.com/mnvHW

[37] “استطلاع: 59% من الأمريكيين يؤيدون الاعتراف بالدولة الفلسطينية”، القاهرة الإخبارية، 22 أكتوبر 2025، آخر وصول في: 30 أكتوبر 2025: https://linksshortcut.com/fmaEA

[38]  “الاتحاد الأوروبي لـ “العربية”: ضم إسرائيل للأراضي المحتلة غير شرعي”، العربية، 25 أكتوبر 2025، آخر وصول في: 31 أكتوبر 2025: https://linksshortcut.com/tfMUF

[39] “West Bank: annexation is not a solution”, European Union External Action, 8 July 2020, last access in: 31 October 2025: https://linksshortcut.com/dqJfx

[40] Evelyn Ann – Marie Dom, “Protests across Europe and the world erupt after Israel intercepts Gaza aid flotilla”, 3 October 2025, last access in: 31 October 2025: https://linksshortcut.com/ZDuBb

[41] “«الكنيست» يقر مساراً يقود لضم مناطق بالضفة الغربية”، الشرق الأوسط، 22 أكتوبر 2025، آخر وصول في: 3 نوفمبر 2025: https://linksshortcut.com/wiqPM

باحث مساعد في النظم والنظرية السياسية بمركز ترو للدراسات والتدريب

الدور الصيني في التنمية الاقتصادية الأفريقية بين الإعفاءات الجمركية والتوسع الاستراتيجي في عصر المنافسة العالمية
التحول في الاستراتيجية التركية في ليبيا بعد عام 2020 أولوية النفوذ السياسي على العسكري
زيارة الشرع للبيت الأبيض المخرجات والتداعيات الداخلية والإقليمية للزيارة
الفراغ الجيوسياسي في الساحل الإفريقي: قراءة في تراجع الدور الفرنسي وصعود الفاعلين الجدد
الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان ونزع سلاح حزب الله الدوافع والسيناريوهات
Scroll to Top