دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل حيز التنفيذ يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2024، في الساعة الرابعة فجرًا بتوقيت القدس، بعد مفاوضات مطولة ومعقدة ضمت لبنان، وحزب الله، وإسرائيل، والولايات المتحدة، وفرنسا. ويأتي هذا الاتفاق بعد قرابة أربعة عشر شهرًا من التصعيد المتبادل بين إسرائيل وحزب الله، ولكنه شهد عددًا من الخروقات من الجانب الإسرائيلي في أيامه الأولى مثيرًا للكثير من التساؤلات بخصوص أسباب التوصل إلى اتفاق والانعكاسات المتوقع حدوثها على إثره وسط تفاؤل حذر. ومن هذا المنطلق، يتناول هذا المقال بالتحليل أولًا أبرز الأسباب التي دفعت الأطراف للموافقة على وقف إطلاق النار، وثانيًا الانعكاسات المتوقعة لذلك الاتفاق.
أولًا: الأسباب التي دفعت الأطراف للموافقة على وقف إطلاق النار
أولًا، كان الهدف من العمليات في لبنان إبعاد خطر حزب الله وضمان عودة النازحين من المناطق الشمالية في إسرائيل إلى منازلهم، ولكن خطط نتنياهو لم تسر كما أراد؛ فرغم اغتيال العديد من قيادات الصف الأول لحزب الله، والقيام بعمليات مزلزلة كتفجيرات البيجر والوكي توكي، استطاع الحزب – بعد إعادة تنظيم صفوفه – توسيع مدى عملياته بعد أن كانت محصورة في مستوطنات الشمال لتصل إلى حيفا، وتل أبيب، وما بعد وسط إسرائيل مثل أسدود، وشهدت أيضًا هذه العمليات تحولًا نوعيًا فالحزب أصبح يستخدم صواريخ دقيقة وأكثر تطورًا لاستهداف قواعد جوية، وبحرية، ومقرات تدريب للقوات البرية، فضلًا عن إيقاع خسائر كبيرة في صفوف جيش الاحتلال في إطار التصدي لتوغلاته في القرى اللبنانية الحدودية. هذا بالرغم من الدعم الغربي اللامحدود لإسرائيل وآخر تجلياته كانت منظومة ثاد الأمريكية.[i]
ودفع ذلك كله نتنياهو، بعد استنفاد بنك أهدافه الخاص بقدرات حزب الله، إلى التركيز بصورة أكبر على استهداف البيئة الحاضنة لحزب الله ومؤخرًا العاصمة بيروت، في محاولة منه للضغط على حزب الله للقبول بشروط الاتفاق الذي يحقق لإسرائيل ما لم تستطع تحقيقه في الميدان من خلال إضعاف صورة الحزب بين مؤيديه وتأليب معارضيه. كما سيساعد ذلك الاتفاق في خفض الخسائر الاقتصادية والعسكرية التي تتعرض لها إسرائيل، بالإضافة إلى تخفيف الضغوط السياسية الناجمة عن الاحتياج لتجنيد الحريديم إذا ما طالت الحرب أكثر من ذلك.[ii]
ووفقًا لوسائل إعلام إسرائيلية، أطلق حزب الله أكثر من 20 ألف صاروخ ومسيرة على إسرائيل منذ الثامن من أكتوبر 2024، كما أفادت صحيفة “يديعوت أحرونوت” أن بيانات ضريبة الأملاك تشير إلى أن أكثر من 9 آلاف مبنى و7 آلاف مركبة دمرت بالكامل في شمال إسرائيل بفعل نيران الحزب. ودفعت أيضًا الحكومة حتى الآن 140 مليون شيكل (38.4 مليون دولار) تعويضات للأضرار، وسط توقعات بزيادة الرقم بسبب الإخلاءات المستمرة والإصابات غير المبلغ عنها، علاوة على الخسائر العسكرية التي فرضت الرقابة العسكرية حظرًا على نشر تفاصيلها. كما أظهر استطلاع رأي أجرته القناة 13 الإسرائيلية أن 61% من الإسرائيليين يعتقدون أن بلادهم لم تنتصر على حزب الله.[iii]
ثانيًا، وجود ضمانات ووعود أمريكية لإسرائيل وأبرزها شرط يتيح لإسرائيل حرية التحرك إذا ما ارتأت أن هناك تهديدًا أو خرقًا للاتفاق من جانب حزب الله يجعل من السهل على نتنياهو استئناف العمليات العسكرية، وهو شيء مرجح وبشكل خاص في حالة تعرضه لضغوط داخلية أو حدوث متغيرات على أي جبهة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، فالولايات المتحدة كذلك أصبحت ضمن لجنة مراقبة تنفيذ الاتفاق وهو ما سيعطي إسرائيل ثقة أكبر في القدرة على تنفيذه. الوعود الأمريكية لإسرائيل بالموافقة على بعض صفقات التسليح التي كانت قد علقتها واشنطن مقابل وقف إطلاق النار هي أيضًا أحد العوامل التي شجعت نتنياهو على الموافقة.[iv]
ثالثًا، سهل كذلك قرب مجيء ترامب للبيت الأبيض من قبول نتنياهو الانخراط في المفاوضات في هذا التوقيت، فالمدة الزمنية لوقف للاتفاق هي 60 يومًا، وهو ما يعني أن العمليات من الممكن أن تستأنف ويتم التوصل لاتفاق نهائي عندما يكون ترامب في السلطة. ومن المتوقع أن يساعد وجود ترامب إسرائيل في فرض شروطها إذا ما رغبت في التوصل لاتفاق دائم أو دعمها بشكل لا محدود إذا ما رغبت في الاستمرار بالعمليات العسكرية. رابعًا، سيساعد هذا الاتفاق نتنياهو في رسم صورة المنتصر، كما سيساعده في فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة والذي سيجعله يتفرغ لمواجهة حماس. خامسًا، شكل كذلك إصدار المحكمة الجنائية الدولية لمذكرة اعتقال بحق نتنياهو، وإعلان دول غربية التزامها بتنفيذ القرار، ضغوطًا إضافية تدفعه نحو تحسين صورته عالميًا، بالإضافة إلى عدد من القضايا المنظورة أمام القضاء الإسرائيلي.
وبالنظر لجانب حزب الله، أولًا، موافقته على وقف إطلاق النار لا تعني تخليه عن جبهة إسناد غزة الذي فتحها وحيدًا، فما هي إلا جولة من جولات الصراع، ولكن المعطيات الداخلية والخسائر المدنية وفي نفس الوقت موقفه القوي في الميدان يجعله في وضع يمكنه من وقف إطلاق النار في هذا الوقت مع إسرائيل إذا ما التزمت “بالوقف الكامل للعدوان والحفاظ على سيادة لبنان”، كما صرح الشيخ نعيم قاسم الأمين العام للحزب.[v] ثانيًا، من المرجح أن الحزب أراد التوصل لاتفاق قبل مجيء ترامب إلى السلطة، فالتقديرات تشير إلى رغبته في إنهاء الحروب القائمة، سواء في الشرق الأوسط أو أوكرانيا، حتى وإن اقتضى ذلك فرض شروط مجحفة على أي طرف. ثالثًا، الحزب يحتاج لإعادة بناء قدراته سواء البشرية أو المادية وهو ما سيكون صعبًا لو استمرت الحرب لمدة أطول. كما يحتاج الحزب كذلك إلى التخفيف من حدة المعاناة التي عاشتها حاضنته ووقف تدمير مناطقتهم التي هي بمثابة بيئة الحزب.
رابعًا، من المرجح كذلك أن ذلك الاتفاق جاء بعد ضوء أخضر إيراني للحزب، والذي يمكن تفسيره بأن إيران تسعى للتهدئة خصوصًا بعد الهجوم الإسرائيلي الأخير عليها وقبل دخول ترامب للبيت الأبيض، فضلًا عن الضغوط التي تعرض لها الحزب من الداخل اللبناني. خامسًا، الحزب يرى أن الحفاظ على قدراته هي أولوية ولا يجب أن يستمر في معركة يمكنها استنزاف قدراته أو دفع لبنان إلى حرب أهلية. وبالرغم من أن الاتفاق ينص على سحب أسلحة الحزب إلى ما وراء نهر الليطاني؛ فمن المتوقع أن يوفر الاتفاق له فرصة لإعادة بناء قدراته والحفاظ على حاضنته كما حدث بعد وقف الحرب في 2006، لأن حزب الله “مقاومة سرية” كما وصفه النائب عن كتلة الحزب حسن فضل الله.[vi] فبعد فشل الجيش الإسرائيلي في رصد مواقع الحزب أثناء الحرب سيكون بالتأكيد من الأصعب رصدها في ظل وقف إطلاق النار.[vii] وخفض التصعيد كذلك سيساعد لبنان في استغلال الغاز المكتشف في البحر المتوسط بعد ترسيم الحدود مع إسرائيل، وهو ما سيعود أيضًا على حزب الله بفوائد عديدة.
ثانيًا: الانعكاسات المتوقعة لاتفاق وقف إطلاق النار
أولًا، يعتبر هذا الاتفاق – إذا نُفذ بالفعل – بمثابة خطوة أولى لتفكيك وحدة الساحات، الشعار الذي رفعه محور المقاومة؛ فحزب الله لم يشترط لقبول وقف إطلاق النار أن يقف العدوان على غزة كما كان موقفه في بداية الحرب قبل اغتيال حسن نصر الله. وفصل هذه الجبهات عن بعضها البعض يسهل مهمة مواجهتها على الاحتلال الإسرائيلي الذي شكلت وحدة الساحات ضغطًا على قدراته الاقتصادية والعسكرية وتحديًا كبيرًا.[viii]
ثانيًا، من المتوقع أن الفترة المقبلة ستشهد تركيزًا من إسرائيل لمواجهة باقي أطراف محور المقاومة وأولهم حماس. فبالرغم من أن قطاع غزة أصبح شبه مدمرًا، ولكن من المتوقع أن تزداد وتيرة العمليات في الفترة المقبلة وبشكل خاص بعد فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه في القطاع. وفي نفس الوقت، من الممكن أن تتجه إسرائيل لتكثيف ضرباتها في سوريا أو دعم جماعات المعارضة من أجل قطع خطوط إمداد حزب الله. من المرجح كذلك أن تلتفت إسرائيل للتهديد الاقتصادي والعسكري الذي يشكله الحوثيون من خلال تكثيف الضربات الجوية على مواقعهم في اليمن واغتيال قادتهم.[ix] وبالتأكيد إيران ستكون من ضمن الأولويات، ولكن من المتوقع أن ينتظر نتنياهو وصول ترامب للبيت الأبيض قبل المضي في أي مسار للتعامل معها.
ثالثًا، توسيع لجنة مراقبة الاتفاق لتشمل الولايات المتحدة وفرنسا، ورفض إسرائيل لوجود دولة عربية، بعد أن كانت اللجنة السابقة تشمل اليونيفيل ولبنان وإسرائيل فقط، هو تجسيد لواقع تريد إسرائيل فرضه في منطقة الشرق الأوسط تكون فيه الولايات المتحدة هي الضامن والراعي للاتفاقيات التي تكون إسرائيل طرفًا فيها، وليس الأمم المتحدة أو أية مؤسسات دولية أو إقليمية أخرى وخاصة بعد توتر علاقتها مع أغلب المنظمات الدولية.[x]
ختامًا، بغض النظر عن تضارب التصريحات من كلا الجانبين بشأن الطرف المنتصر في هذه الحرب، ورفض المعارضة الإسرائيلية للاتفاق، فمن المرجح أن يكون هذا الاتفاق اتفاقًا هشًا بسبب التحديات التي تواجه عمليات المراقبة والتنفيذ، بالإضافة إلى الأطماع الإسرائيلية التي كشفت عنها تصريحات وزراء مثل سموتريتش، وكذلك الخروقات التي شهدها الاتفاق في أول أيامه، والتي تظهر أن ذلك الاتفاق هو بشكل أو بآخر أقرب لكونه خفضًا لمستوى التصعيد وإعادة قواعد الاشتباك لمراحلها الأولى. وفي النهاية، على لبنان المضي قدمًا في العملية السياسية من أجل التوافق حول اختيار رئيس للجمهورية وحكومة جديدة.
[i] Masters, Jonathan. “U.S. Aid to Israel in Four Charts.” Council on Foreign Relations, November 13, 2024. https://www.cfr.org/article/us-aid-israel-four-charts.
[ii] Knell, Yolande. “Israel conscription rule stokes ultra-Orthodox fury,” July 2, 2024. https://www.bbc.com/news/articles/c6p24expzd5o.
[iii] “تقارير إعلامية تكشف خسائر إسرائيل على الجبهة اللبنانية.” الجزيرة نت, November 27, 2024. https://www.ajnet.me/news/2024/11/27/%D8%A5%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D9%85%D9%82%D8%AA%D9%84-124-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%AF%D9%88%D9%8A.
[iv] “Biden OKs $680m Israel arms sale despite new Gaza ceasefire push: Reports,” Aljazeera, 27 Nov 2024. https://www.aljazeera.com/news/2024/11/27/biden-oks-680m-israel-arms-sale-despite-new-gaza-ceasefire-push-reports
[v] “ تسريبات مسودة اتفاق لبنان.. هذه أبرز التفاصيل.” سكاي نيوز عربية, November 21, 2024. https://www.skynewsarabia.com/middle-east/1756530-%D8%AA%D8%B3%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%B3%D9%88%D8%AF%D
[vi] Lbci. “النائب حسن فضل الله لـ”أ.ف.ب”: نحن مقاومة سرية ولا سلاح ظاهرا أو قواعد لنا في جنوب لبنان ولا أحد يستطيع إخراج أبناء الحزب من قراهم جنوب الليطاني.” LBCIV7, November 27, 2024. https://www.lbcgroup.tv/news/latest-news/819876/%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%A6%D8%A8-%D8%AD%D8%B3%D9%86-%D9%81%D8%B6%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-.
[vii] “قراءة عسكرية.. ما آلية انتشار الجيش اللبناني مع دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ؟” قناة الجزيرة November 27, 2024. https://www.youtube.com/watch?v=8gSse7BRWNU.
[viii] “هل يصمد اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله؟ قناة الجزيرة ، November 27, 2024 https://www.youtube.com/watch?v=P_WaAHc5x2A.
[ix] “Yemen’s Houthis to continue attacks on Israel: Rebel leader,” Ahram Online, 28 Nov 2024. https://english.ahram.org.eg/News/536096.aspx
[x] قاسم, يحيى. “لبنان يريد ‘دولة عربية’.. لماذا تشكّل ‘آلية المراقبة’ عقبة أمام الهدنة؟.” الحرة, November 21, 2024. https://www.alhurra.com/lebanon/2024/11/21/%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D8%AF-%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D.
باحث علاقات دولية بمركز ترو للدراسات