Cairo

الانتخابات المبكرة في ألمانيا وصعود اليمين المتطرف

قائمة المحتويات

باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب

شهدت ألمانيا في السنوات الأخيرة تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة، ساهمت في تصاعد الدعوات لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، في ظل تغيرات ملحوظة في المشهد الحزبي وصعود التيارات اليمينية المتطرفة. ويأتي ذلك في سياق دولي وإقليمي متوتر، حيث تواجه الحكومة الألمانية تحديات متزايدة تتراوح بين الأزمات الاقتصادية وأزمات الطاقة، والتوترات داخل الائتلاف الحاكم، وتزايد الضغوط الشعبية بسبب قضايا الهجرة والأمن.

تعد الانتخابات المبكرة في النظم الديمقراطية مخرجُا عند تأزم الائتلاف الحكومي أو عند حدوث أزمة سياسية وينجم عنها إعادة تشكيل المشهد السياسي وإعادة توزيع موازين القوى، ولكنها في الوقت ذاته تنطوي على مخاطر عدم الاستقرار وتعميق الانقسامات السياسية. وفي ألمانيا، التي تُعتبر ركيزة الاتحاد الأوروبي وأحد أهم الاقتصادات العالمية ومن ثم فإن أي تغيير سياسي جوهري ستكون له انعكاسات داخلية وأوروبية كما أن صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة، وعلى رأسها حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) يثير مخاوف من تحول المشهد السياسي نحو مزيد من الشعبوية والتشدد القومي، ما قد يؤدي إلى إعادة صياغة السياسات الداخلية والخارجية للدولة الألمانية.

لذلك، تسعى هذه الدراسة إلى تحليل أسباب الدعوة إلى الانتخابات المبكرة، واستشراف التداعيات المحتملة لهذه الخطوة، وتسليط الضوء على الطفرة التي يشهدها التيار اليميني المتطرف، ومدى تأثيره على مستقبل الديمقراطية في ألمانيا.

أولًا: أسباب الدعوة إلى الانتخابات المبكرة:

  1. الأزمات الاقتصادية والاجتماعية: التحدي الأكبر أمام الحكومة:

تعاني ألمانيا، مثل العديد من الدول الأوروبية، من أزمة اقتصادية معقدة تفاقمت بفعل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات المتبادلة بين الغرب وروسيا. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة، حيث شهدت أسعار الطاقة قفزات حادة، مما أثر بشكل مباشر على القدرة الشرائية للأسر والشركات.

كما أن التضخم المستمر، وتراجع معدلات النمو الاقتصادي، وارتفاع تكاليف الإنتاج، زاد من الضغوط على الحكومة، التي وجدت نفسها مضطرة إلى اتخاذ تدابير تقشفية، لم تكن محل ترحيب من قبل المواطنين والقطاعات الاقتصادية المختلفة. وقد أدى ذلك إلى انخفاض مستوى الثقة في أداء الحكومة الائتلافية، وتصاعد الغضب الشعبي، وهو ما استغلته الأحزاب المعارضة، لاسيما التيار اليميني، لتقديم خطاب شعبوي يركز على إخفاقات الحكومة في إدارة الأزمات.

  • التوترات داخل الائتلاف الحاكم: تباينات تعمق الانقسامات:

تولى المستشار أولاف شولتس قيادة ألمانيا عبر تحالف سياسي يضم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD)، وحزب الخضر (Die Grünen)، والحزب الديمقراطي الحر (FDP). ورغم أن هذا الائتلاف كان يسعى إلى تقديم نموذج للحكم التوافقي، إلا أنه سرعان ما دخل في خلافات جوهرية حول قضايا حساسة مثل السياسات الاقتصادية، وأمن الطاقة، والموقف من روسيا، وقضايا الهجرة.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة تصاعد التوتر بين حزب الخضر، الذي يتبنى سياسات بيئية متشددة، وبين الحزب الديمقراطي الحر، الذي يدافع عن سياسات السوق الحرة. وأدى ذلك إلى حالة من عدم الانسجام داخل الحكومة، أثرت على قدرتها على اتخاذ قرارات حاسمة، مما دفع بعض الأحزاب المعارضة إلى المطالبة بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة تعيد تشكيل الخريطة السياسية.

  • التحديات الأمنية وقضية الهجرة: عودة الملف إلى الواجهة:

تُعد قضية الهجرة من أكثر القضايا إثارة للجدل في ألمانيا، خاصة في ظل موجات اللجوء التي تزايدت بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. وعلى الرغم من أن الحكومة سعت إلى تبني سياسات أكثر تنظيمًا في التعامل مع المهاجرين، فإن تصاعد الجدل حول اندماج اللاجئين، وزيادة بعض الجرائم التي نُسبت إلى مهاجرين، أدى إلى تنامي المخاوف لدى شرائح واسعة من المجتمع، ما وفر فرصة للأحزاب اليمينية المتطرفة لاستغلال هذه المخاوف وتحقيق مكاسب سياسية.

وقد لعبت التيارات الشعبوية دورًا رئيسيًا في تأجيج المخاوف، عبر خطاب يدعو إلى تشديد القيود على الهجرة وإعادة النظر في سياسات اللجوء. وفي ظل ضعف الأحزاب التقليدية في تقديم حلول مقنعة، زادت الضغوط لإجراء انتخابات جديدة تعكس التحولات في المزاج العام.

  • تآكل ثقة الناخبين في الأحزاب التقليدية:

شهدت السنوات الأخيرة انخفاضًا ملحوظًا في نسبة التأييد للأحزاب التقليدية، خاصة الحزب الديمقراطي الاجتماعي والاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، نتيجة لاتهامات بالفساد، وسوء الإدارة، وعدم القدرة على التعامل بفاعلية مع الأزمات المتلاحقة.

وقد أدى هذا التراجع إلى صعود أحزاب بديلة، بعضها يتبنى رؤى أكثر شعبوية، مثل حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD)، الذي استطاع جذب شريحة واسعة من الناخبين الساخطين. وأمام هذا التراجع في الثقة، أصبح من الصعب على الأحزاب الحاكمة الحفاظ على استقرارها، مما عزز من فرص الدعوة إلى انتخابات مبكرة تعيد توزيع المشهد السياسي.

  • إقالة وزير المالية وتصاعد الخلافات داخل الحكومة:

جاءت الدعوة إلى الانتخابات المبكرة في ألمانيا في أعقاب الأزمة السياسية التي تفجرت بعد إقالة وزير المالية كريستيان ليندنر، زعيم الحزب الديمقراطي الحر (FDP)، والتي شكلت نقطة تحول في تصاعد الخلافات داخل الائتلاف الحاكم. جاءت الإقالة نتيجة لخلافات حادة حول السياسة المالية، حيث تبنى ليندنر نهجًا متشددًا في فرض قيود على الإنفاق الحكومي، متمسكًا بضرورة الالتزام بـ”قاعدة الدَّين” (Schuldenbremse) التي تفرض قيودًا صارمة على الاقتراض الحكومي، وهو ما اصطدم مع توجهات الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD) وحزب الخضر، اللذين طالبا بزيادة الإنفاق لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية.

تفجرت الأزمة بشكل خاص بعد رفض ليندنر الموافقة على حزمة مساعدات إضافية لدعم الطاقة والشركات الصغيرة، وهو ما أدى إلى تعميق التوترات داخل الحكومة، حيث رأى شركاء الائتلاف أن سياساته المالية تعرقل جهود التعافي الاقتصادي وتزيد من الأعباء على المواطنين. وجاء قرار المستشار أولاف شولتس بإقالته ليزيد من حدة الانقسامات، حيث اعتبره الحزب الديمقراطي الحر استهدافًا سياسيًا، ما دفعه إلى التلويح بالانسحاب من الحكومة، مما أدى إلى انهيار الائتلاف الحاكم وفتح الباب أمام المطالبة بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة.

هذه الأزمة لم تكن مجرد خلاف سياسي داخلي، بل عكست تصاعد التوتر بين الأحزاب الحاكمة بشأن كيفية التعامل مع الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وعززت الشعور بعدم الاستقرار السياسي، وهو ما استغلته المعارضة، خصوصًا حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) وحزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، للدفع باتجاه إجراء انتخابات جديدة تعيد تشكيل المشهد السياسي في البلاد.

ثانيًا: تداعيات الانتخابات المبكرة:

تُشكّل الانتخابات المبكرة نقطة تحول رئيسية في أي نظام ديمقراطي، حيث تؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي وتوازنات السلطة. وفي الحالة الألمانية، تكتسب هذه الانتخابات أهمية خاصة نظرًا لدور البلاد المحوري في الاتحاد الأوروبي وتأثيرها الاقتصادي والسياسي على المستويين الإقليمي والدولي. إن إجراء انتخابات مبكرة قد يحمل في طياته فرصًا لتصحيح المسار السياسي، لكنه في الوقت ذاته يحمل مخاطر تعميق الانقسامات الداخلية وزيادة حالة عدم الاستقرار السياسي.

  1. إعادة تشكيل المشهد الحزبي: تحول في موازين القوى السياسية.

تُشير التقديرات إلى أن أي انتخابات مبكرة ستؤدي إلى تغيرات جوهرية في توزيع القوى السياسية داخل البرلمان الألماني (البوندستاغ). فمع تراجع شعبية الأحزاب التقليدية، وخاصة الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD) وحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، تبرز الأحزاب الشعبوية والمتطرفة كقوى صاعدة يمكن أن تعيد رسم الخريطة السياسية بشكل جذري.

إن حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) وحزب “الاتحاد اليساري” (Die Linke) يمثلان نموذجين للقوى السياسية التي تستفيد من حالة السخط الشعبي، حيث يستغل الأول الأزمات الاقتصادية والهجرة لتعزيز شعبيته، فيما يسعى الثاني إلى تقديم بدائل يسارية راديكالية في مواجهة السياسات الليبرالية السائدة. ومع ذلك، فإن صعود هذه الأحزاب قد لا يؤدي إلى تعزيز الاستقرار، بل قد يعقد عملية تشكيل الحكومات الائتلافية، مما يُدخل البلاد في حالة من الجمود السياسي.

  • تصاعد حالة عدم الاستقرار السياسي: سيناريوهات مفتوحة.

في الأنظمة البرلمانية المستقرة مثل ألمانيا، يُفترض أن تؤدي الانتخابات المبكرة إلى إعادة هيكلة السلطة بطريقة تؤدي إلى استقرار نسبي. ولكن في ظل الظروف الحالية، قد تفضي هذه الانتخابات إلى مزيد من الانقسامات، نظرًا لتشتت الأصوات بين أحزاب متعددة، ما يجعل تشكيل ائتلاف حكومي قوي أمرًا أكثر تعقيدًا.

سيناريو عدم حصول أي حزب أو تحالف على أغلبية واضحة داخل البرلمان قد يؤدي إلى استمرار حالة عدم اليقين السياسي، مما قد يُعطل عملية صنع القرار ويضعف قدرة الحكومة المقبلة على تنفيذ سياسات فعالة. كما أن احتمال إعادة الانتخابات في حال فشل تشكيل حكومة مستقرة قد يساهم في تعميق الأزمة السياسية، وهو ما من شأنه أن يضعف ثقة المواطنين في النظام الديمقراطي.

  • التأثير على الاتحاد الأوروبي: مستقبل الدور الألماني في القارة.

باعتبار ألمانيا الدولة الأكبر اقتصاديًا وسياسيًا في الاتحاد الأوروبي، فإن أي تغيير في قيادتها السياسية ستكون له تداعيات مباشرة على الاتحاد الأوروبي. قد تؤدي الانتخابات المبكرة إلى حكومة أقل استقرارًا، مما قد يؤثر على قدرة برلين على لعب دور قيادي في الملفات الأوروبية المهمة مثل سياسات الطاقة، والتوسع الأوروبي، والأمن الجماعي، والعلاقات مع روسيا والصين.

وفي حال صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة، فقد نشهد تحولًا في موقف ألمانيا تجاه سياسات الهجرة، مما قد يُحدث توترًا داخل الاتحاد الأوروبي، خاصة مع دول مثل فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، التي تعتمد على التوافق الألماني في العديد من الملفات الاستراتيجية. علاوة على ذلك، فإن التوجه نحو سياسات أكثر قومية قد يؤدي إلى إعادة النظر في التزامات ألمانيا المالية داخل الاتحاد الأوروبي، مما قد يُضعف موقف بروكسل في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والسياسية على المستوى القاري.

  • التداعيات الاقتصادية: أثر عدم اليقين على الاستثمارات والنمو.

يؤدي عدم الاستقرار السياسي عادة إلى حالة من الترقب في الأسواق المالية والاستثمارية، حيث يتريث المستثمرون قبل اتخاذ قرارات طويلة الأجل. في الحالة الألمانية، قد تؤدي الانتخابات المبكرة إلى تراجع ثقة المستثمرين بسبب الغموض المحيط بالسياسات الاقتصادية للحكومة المقبلة، مما قد يؤثر على تدفق الاستثمارات الأجنبية، ويؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي.

ومن جهة أخرى، فإن التغييرات السياسية المحتملة قد تؤدي إلى إعادة النظر في بعض السياسات الاقتصادية والمالية، مثل سياسات الضرائب والدعم الحكومي، مما قد يزيد من حالة عدم الاستقرار الاقتصادي. كما أن التحديات المرتبطة بأزمة الطاقة، وارتفاع تكاليف الإنتاج، وتباطؤ النمو في القطاعات الصناعية، قد تتفاقم في ظل غياب رؤية حكومية واضحة بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي.

ثالثًا: صعود أحزاب اليمين المتطرف:

تمثل الطفرة التي تشهدها الأحزاب اليمينية المتطرفة في ألمانيا ظاهرة مثيرة للقلق، حيث تعكس تحولات جذرية في المزاج السياسي للمواطنين، وتطرح تحديات خطيرة أمام مستقبل الديمقراطية الليبرالية في البلاد. إن صعود حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) وغيره من التيارات اليمينية المتشددة يُنذر بتحول المشهد السياسي نحو مزيد من القومية والشعبوية، وهو ما قد يؤثر على استقرار النظام الديمقراطي، ويؤدي إلى إعادة النظر في العديد من السياسات الداخلية والخارجية للدولة الألمانية.

  1. صعود حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD): من الهامش إلى المركز.

يشهد حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) نموًا ملحوظًا في التأييد الشعبي، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى أنه بات يحظى بدعم شريحة واسعة من الناخبين، خاصة في شرق ألمانيا والمناطق الريفية. ويعزى هذا الصعود إلى عدة عوامل، أبرزها استغلال الحزب لحالة الغضب الشعبي تجاه سياسات الحكومة، خاصة فيما يتعلق بالهجرة، والضرائب، وأزمة الطاقة.

ما يميز “البديل من أجل ألمانيا” عن الأحزاب اليمينية التقليدية هو قدرته على تبني خطاب شعبوي يجمع بين القومية والاقتصادية المحافظة، حيث يقدم نفسه كحزب مناهض للمؤسسات التقليدية، ويطرح نفسه كبديل عن “النخبة السياسية الفاشلة”، وفقًا لتعبيره.

  • الترويج لأجندات قومية ومعادية للهجرة:

تركز الأحزاب اليمينية المتطرفة على قضايا الهوية الوطنية، وتصوير المهاجرين كتهديد للهوية الثقافية الألمانية. وقد استغل “البديل من أجل ألمانيا” وبعض التيارات اليمينية الأخرى تنامي المخاوف الشعبية إزاء اللاجئين والعمالة الأجنبية، حيث يروج لفكرة أن سياسات الحكومة الليبرالية فشلت في حماية مصالح المواطنين الألمان.

هذا الخطاب الشعبوي أدى إلى تزايد حالات العنف اللفظي والجسدي ضد المهاجرين، كما أن بعض القيادات السياسية بدأت تتبنى نبرة أكثر تشددًا لمجاراة هذا التيار، مما قد يُشكل خطرًا على قيم التعددية والتسامح في ألمانيا.

  • تأثير وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية: الديناميات الجديدة للخطاب السياسي.

ساهمت وسائل الإعلام البديلة والشبكات الاجتماعية في تعزيز نفوذ الأحزاب اليمينية المتطرفة، حيث أصبحت هذه المنصات أداة رئيسية لنشر الأخبار الزائفة ونظريات المؤامرة التي تعزز الانقسام داخل المجتمع. وقد استطاع “البديل من أجل ألمانيا” استخدام هذه الوسائل بشكل فعال للوصول إلى شرائح من الناخبين الذين فقدوا الثقة في الإعلام التقليدي، مما ساهم في ترسيخ خطابه الشعبوي.

  • تهديد الديمقراطية الليبرالية: خطر التحول إلى “ديمقراطية غير ليبرالية”.

تمثل الطفرة اليمينية في ألمانيا تحديًا حقيقيًا لمفهوم الديمقراطية الليبرالية، حيث تسعى بعض التيارات اليمينية إلى تقويض المؤسسات الديمقراطية من الداخل، من خلال تقليص الحريات الإعلامية، والتضييق على المجتمع المدني، وإعادة النظر في بعض المبادئ الدستورية.

إن استمرار صعود اليمين المتطرف دون وجود استراتيجيات واضحة لاحتواءه قد يؤدي إلى تحول تدريجي نحو نموذج “الديمقراطية غير الليبرالية”، كما حدث في بعض الدول الأوروبية الأخرى. لذلك، فإن التعامل مع هذه الظاهرة يتطلب إعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطنين، وتعزيز السياسات التي تحقق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، لمواجهة الخطاب الشعبوي القائم على استغلال الأزمات.

ختامًا، تعكس الانتخابات المبكرة في ألمانيا تعقيدات المشهد السياسي الداخلي، حيث تشتد الضغوط نتيجة للأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، إلى جانب التوترات داخل الائتلاف الحاكم وصعود اليمين المتطرف. ومع ذلك، فإن العوامل الخارجية تلعب دورًا متزايد الأهمية في تشكيل مستقبل البلاد، لا سيما في ظل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض واتخاذه قرارات أثرت بشكل مباشر على أوروبا وألمانيا على وجه الخصوص.

منذ توليه الرئاسة مجددًا، اتجه ترامب إلى إعادة صياغة السياسة الخارجية الأمريكية، متبعًا نهجًا أكثر انفرادية، مما أدى إلى تراجع الدعم الأمريكي التقليدي لحلفاء واشنطن الأوروبيين. أحد أبرز قراراته كان تقليص الالتزامات الأمريكية تجاه حلف الناتو، مما وضع ألمانيا أمام تحديات أمنية غير مسبوقة، خاصة في ظل التهديدات الروسية المتزايدة لأوروبا الشرقية. وأثار هذا القرار حالة من الجدل داخل الأوساط السياسية الألمانية، حيث دعا حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) وحلفاؤه إلى تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، بينما طالبت الأحزاب التقليدية بزيادة الإنفاق الدفاعي لمواجهة التغيرات الجيوسياسية الجديدة.

علاوة على ذلك، فإن سياسات ترامب التجارية فرضت ضغوطًا إضافية على الاقتصاد الألماني، حيث أعاد فرض تعريفات جمركية على بعض المنتجات الأوروبية، مما أثر على قطاع الصناعة الألماني، خصوصًا صناعة السيارات. وأدى ذلك إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها ألمانيا بالفعل، ما عزز من مشاعر الإحباط الشعبي تجاه الحكومة الائتلافية وأعطى زخمًا إضافيًا للأحزاب اليمينية التي تدعو إلى إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والاتفاقيات التجارية الدولية.

كما أن مواقف ترامب تجاه أوكرانيا وروسيا خلقت واقعًا جديدًا أمام ألمانيا، حيث خفضت الولايات المتحدة دعمها العسكري لكييف، ما دفع برلين إلى تحمل مسؤوليات أمنية ومالية أكبر في دعم أوكرانيا، الأمر الذي أثار انقسامًا داخليًا بين الأحزاب الحاكمة وأعطى فرصة للأحزاب المعارضة لانتقاد هذه السياسات باعتبارها عبئًا إضافيًا على الاقتصاد الألماني.

على الجانب الآخر، هناك احتمال قوي بأن يستفيد حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، المعارض الرئيسي، من تراجع الأحزاب الحاكمة، ليحقق مكاسب انتخابية كبيرة. وإذا تمكن من الحصول على عدد كبير من الأصوات، فسيكون أمامه خيارات استراتيجية متعددة، إما تشكيل ائتلاف مع أحزاب تقليدية مثل الحزب الديمقراطي الحر (FDP)، أو حتى البحث عن توافقات مع أحزاب مؤثرة أخرى، كحزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD)، رغم التباينات الأيديولوجية، وذلك في حال رأت قيادته أن هذا الخيار ضروري لتحقيق استقرار سياسي مؤقت.

في المقابل، قد يفضل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي تشكيل ائتلاف أكثر اعتدالًا مع أحزاب الوسط، مثل الحزب الديمقراطي الحر والخضر، لتجنب أي تحالفات قد تثير قلقًا داخليًا وأوروبيًا. ولكن في كل الأحوال، فإن الانتخابات المبكرة تمثل نقطة تحول رئيسية، ليس فقط لألمانيا، بل للاتحاد الأوروبي ككل، حيث ستحدد نتائجها الاتجاه المستقبلي لسياسات البلاد تجاه أوروبا، الأمن، والهجرة، في ظل متغيرات دولية وإقليمية متسارعة.

في ظل هذه التغيرات، أصبحت الانتخابات المبكرة ليست مجرد مسألة إعادة توزيع القوى السياسية داخل ألمانيا، بل تعكس أيضًا إعادة تشكيل العلاقات الدولية وتأثيراتها على الداخل الأوروبي. ويبقى التحدي الأكبر أمام القوى الديمقراطية في البلاد هو كيفية استعادة ثقة الناخبين من خلال سياسات أكثر استجابة للأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وفي الوقت نفسه، التعامل بفعالية مع التداعيات الجيوسياسية لقرارات ترامب، للحفاظ على استقرار ألمانيا ودورها المحوري في الاتحاد الأوروبي.

قائمة المراجع:

  1. ألمانيا أمام تحدي اليمين المتطرف وتداعيات صعوده السياسي، صحيفة الشرق الأوسط.

https://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D9%88%D8%B9/5058415-%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7-%D8%A3%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B7%D8%B1%D9%81-%D9%88%D8%AA%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%B5%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A

  • تظاهرات حاشدة في ألمانيا ضد صعود اليمين المتطرف، يورونيوز.

https://arabic.euronews.com/2025/02/08/germany-anti-far-right-demo-ahead-of-snap-parliament-election-cdu-spd

  • معركة سياسية معقدة في الانتخابات الألمانية المبكرة، النشرة نيوز.

https://elnashra.com/news/show/1709978/%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%B7-%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%B9%D9%82%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D9%83

  • ألمانيا على المحك – انتخابات مبكرة قد تعيد خلط كل الأوراق، DW قضايا راهنة.

https://www.dw.com/ar/%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%83-%D9%80-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%A8%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D9%82%D8%AF-%D8%AA%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D8%AE%D9%84%D8%B7-%D9%83%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B1%D8%A7%D9%82/a-70785197

  • من مواجهة “خطة ميركل” إلى البرلمان .. رحلة صعود اليمين المتطرف في ألمانيا، الشرق.

https://asharq.com/politics/99480/%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%B5%D8%B9%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%B7%D8%B1%D9%81-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7

  • حجب الثقة عن حكومة شولتز في ألمانيا: الأسباب والتداعيات، المركز الأوروبي لقياس الرأي والدراسات الاستراتيجية.
  • شعبية شولتز في تراجع بعد عام صعب لألمانيا، الشرق.

https://asharq.com/politics/43200/%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%B4%D9%88%D9%84%D8%AA%D8%B2-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AC%D8%B9-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D8%B5%D8%B9%D8%A8

  • حزب البديل من أجل ألمانيا يعزز مكاسبه قبل الانتخابات، الإمارات اليوم.

https://www.emaratalyoum.com/politics/weekly-supplements/world-press/2025-01-26-1.1915697

  • German economy shrinks again amid political crisis, France24.

https://www.france24.com/en/live-news/20250115-german-economy-shrinks-again-amid-political-crisis

  1. German Chancellor Olaf Scholz loses confidence vote, BBC news.

https://www.bbc.com/news/articles/ckg36pp6dpyo

  1. Why the German government collapsed and what to expect now, The Conversation.

https://theconversation.com/why-the-german-government-collapsed-and-what-to-expect-now-243164

  1. Germans head to the polls.

باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب

الاستقالات الوزارية في هولندا وتداعياتها على الموقف الأوروبي من إسرائيل
الميتافيزيقا السياسية للسلطة في فلسطين
رؤية جون ميرشايمر لحربي إسرائيل وروسيا ومستقبل النظام الدولي
التكنولوجيا الحيوية كأداة للقوة التنافس السياسي والاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين في سباق الهيمنة العالمية
مخرجات قمة ألاسكا بين ترامب وبوتن
Scroll to Top