يُعد حلف شمال الأطلسي “الناتو” نموذج فريد لآلية الدفاع الجماعي حول العالم. تأسس هذا الكيان بناءً على معاهدة شمال الأطلسي الموقعة في واشنطن عام 1949، كأداة لتوفير الأمن والحماية الدفاعية للدول الأعضاء في الحلف من خلال نظام دفاعي جماعي مشترك. وعلي ذلك، يُعد الإنفاق الدفاعي أحد أبرز مؤشرات جدية الدول الأعضاء في الحلف على ضمان الاستقرار وأمن القارة الأوروبية. وحيث أن الوضع الأمني الراهن يُشكل تهديداً مؤثراً بشكل مباشر ومتزايد علي أمن الدول الأعضاء، ويهدد موازين الاستقرار الداخلي الأوروبي في العمق، والذي يتمثل في الصراع “الروسي الأوكراني” المستمر منذ عدة سنوات، ويُعد أحد أبرز التحديات الأمنية التي تدفع بتلك الدول الكبرى الأعضاء في الحلف نحو إعادة تقييم مستمر للتهديدات والاحتياجات الدفاعية، وما يتبع ذلك من حاجة لزيادة مستويات الإنفاق في هذا القطاع. فمن الضرورة بمكان تفهم الدور الكبير للإنفاق الدفاعي للناتو ليس باعتباره معيار للقدرة العسكرية فقط، ولكن أيضاً كمؤشر هام على تكاتف الدول الأعضاء والالتزام تجاه الأمن المشترك لهم. لذلك، فإن هناك حاجة مُلحة لرفع الإنفاق واعادة رسم اتجاهاته في ظل التحديات الجديدة التي يواجهها الأوروبيين، علي خلفية مطلب الرئيس ترامب للاوروبين زيادة ميزانيات الدفاع للدول الأعضاء في التحالف بنسبة تصل إلى 5% من من ناتجها المحلي الإجمالي على النفقات العسكرية، كاستجابة من دول الحلف للمتطلبات الأمنية المتغيرة وكيفية تأثير ذلك على التوازنات الاستراتيجية العالمية.
هناك العديد من المعطيات التي تدفع بالدول الكبرى الأعضاء في الحلف مثل فرنسا وألمانيا، إلى رؤية أعمق للإنفاق الدفاعي للناتو، للخروج من مأزق التهديد الروسي، من خلال رفع مستويات المساهمات المالية والعسكرية للدول الأعضاء في الحلف. وفي هذا السياق يستعرض هذا المقال عدد من التحديات التي تؤثر على قرارات دول الاتحاد الأوروبي نحو الاستمرار في الإنفاق الدفاعي للناتو، ومن ثم مواقف الدول الأوروبية الكبرى من الإنفاق الدفاعي للناتو.
أولاً التحديات التي تواجه الدول الأوربية
1- رؤية الرئيس ترامب والتوترات في العلاقات الأمريكية الأوروبية
يُمثل التعارض في رؤية الرئيس ترامب للمخاطر والتهديدات أو المصالح مع أوروبا أحد أبرز هذه التحديات، وثمة مؤشرات على رغبة الرئيس ترامب في الانسحاب من الدعم الدفاعي للناتو وتراجع الالتزام الامريكي بدعم أوكرانيا، فقد حث الرئيس ترامب الأوروبيين علي زيادة ميزانيات الدفاع للدول الأعضاء في التحالف بنسبة تصل إلى 5% من من ناتجها المحلي الإجمالي على النفقات العسكرية، مشددا على أن هذا التفاوت يفرض عبئا غير عادل على الولايات المتحدة. وعليهم أن يلتزموا أكثر بواجباتهم الدفاعية وأن القارة “تدفع نحو الحرب”. كما صرٌح مراراً في مطلع شهر مارس الحالي أن الولايات المتحدة لن تدافع عن دول حلف شمال الأطلسي التي لا تنفق ميزانية عادلة على الدفاع. يُذكر ايضاً أن خلال فترة ولايته الأولى أمر الرئيس ترامب بسحب ما يقرب من 12 ألف جندي من ألمانيا، حيث كان للولايات المتحدة العديد من المرافق العسكرية الكبرى بما في ذلك قاعدة رامشتاين الجوية مقر القيادة الأمريكية في أوروبا، ولكن الرئيس جو بايدن أوقف هذه الخطوة وسط انتقادات واسعة النطاق من الكونغرس.
وكان الرئيس ترامب قد أصدر قرار بتعليق التعاون الاستخباراتي الأمريكي لأوكرانيا منذ اسابيع مما أثار حالة من القلق وخيبة الأمل لدى اوكرانيا واوروبا، في اشارة الي تحول في الموقف الأمريكي تجاه الحرب الروسية الاوكرانية، ولكن سرعان ما تراجع الرئيس ترامب عن هذا القرار كما أعلنت الولايات المتحدة بعد اجتماع جدة، وتفسر الدوافع الأمريكية لهذا القرار والتراجع عنه بورقة ضغط أمريكية علي الرئيس زيلينيسكي للموافقة علي عقد الصفقة الخاصة بالمعادن الأرضية النادرة مع الولايات المتحدة كتعويض للولايات المتحدة عن إمدادات أسلحة قدمتها لأوكرانيا خلال الحرب. هذه الصفقة مازالت قيد التفاوض، ولكن حال تنفيذها فانها ستمثل “شراكة استراتيجية” كما يصفها الجانب الأمريكي، ويمكن أن تضمن استمرار الدعم الأمريكي ضد الاجتياح الروسي، وتعيد الروح مرة أخري لاوكرانيا. يُذكر ان عدد من التصريحات قد صدرت من مصدر كبير في الجيش الأوكراني بأن قوات بلاده خسرت أكثر من 40% من الأراضي التي سيطرت عليها في منطقة كورسك الروسية في أغسطس 2024، وذلك مع شن القوات الروسية موجات من الهجمات المضادة لاستعادة السيطرة على المنطقة.
ويُعد لقاء الرئيس ترامب والرئيس الأوكراني زلينيسكي، من أبرز المؤشرات المخيبة لآمال الأوروبيين والرئيس الأوكراني، والذي اشتبك فيه الطرفان خلال اللقاء في مواجهه كلامية محتدمة من جانب الرئيس ترامب الذي لم يلتزم بالأعراف الدولية أو الدبلوماسية مما دفع بالرئيس الأوكراني الي مغادرة البيت الأبيض مباشرةً. غذُت تلك المؤشرات المتتالية حالة من التوتر الكامن من قبل لدي الأوروبيين في علاقاتهم مع الولايات المتحدة الامريكية منذ فترة الرئيس ترامب الأولي، وأظهرت تراجع كبير في الموقف الأمريكي نحو دعم أوروبا والتخلي عن الحليف الأقدم للولايات المتحدة. كما زادت العلاقات توترًا بعد النهج الأحادي الذي اتخذه ترامب في مفاوضات وقف الحرب مع روسيا؛ حيث استبعد ترامب أوكرانيا وأعضاء حلف الناتو من تلك المفاوضات.
2- الحاجة الي رفع القدرة القتالية للناتو في مواجهة التهديد الروسي
ظلت دول أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية وعلى مدار عقود، دون إنفاق دفاعي يُذكر، فقلصت الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو ميزانية الانفاق الدفاعي لتمويل أولويات أخرى أكثر إلحاحاً، مثل رعاية السكان المسنين، وما تبقى لهذه الدول لا يتعدى “جيش صوري محدود العدد” لا يتحمل أي مواجهة عسكرية دون دعم أميركي، وأكدت ذلك وكالات ذات مصداقية مثل “بلومبرغ” مما أضعف كثيراً من القدرة الدفاعية الذاتية لتلك الدول. فالولايات المتحدة الحليف الضامن لأمن أوروبا والذي تعهد بضمان أمن القارة الأوروبية خلال الحرب الباردة وما بعدها يبدو أنه ينسحب الآن من تلك الوعود، مُخلفاً ورائه مواجهة محتملة بين الجيش الروسي الذي يسعي لتوسيع نطاق نفوذه، ودول أوروبا التي أصبحت دول بلا جيوش وطنية قوية، تفتقد إلى فعالية الجيش وقدراته الدفاعية، بما في ذلك عدم صيانة المركبات القتالية المدرعة، وتدهور حالة الأسلحة، والافتقار إلى الذخيرة وخطوط الإمداد اللازمة للقتال في حرب مستمرة، وعدم قدرة الصواريخ على إصابة أهدافها بسبب عدم اختبارها في ساحات القتال.
ركزت الدول الأوروبية في كثير من الأحيان على شراء أنظمة باهظة الثمن وعالية التقنية لتعزيز مكانتها، بدلاً من الحفاظ على المعدات التي تملكها أو استبدالها بشكل صحيح، بما يفسر ان الإنفاق الاوروبي على الدفاع لا يقل أهمية عن حجمه، مما يصف تاريخ أوروبا في شراء المعدات العسكرية “غير الجيد”. وأظهرت الحرب في أوكرانيا أن القدرة على توفير كميات كبيرة من الأسلحة التقليدية والذخيرة والمواد الأساسية الأخرى لا تزال مهمة كما كانت منذ قرن، حتى في ظل الحروب الحديثة.
كشفت تقديرات استخباراتية لحلف الناتو، في مارس 2024، عن أن روسيا كانت تمضي قدماً نحو إنتاج ما يقرب من 3 ملايين قذيفة مدفعية خلال ذلك العام، وهو ما يقرب من ثلاثة أضعاف الإنتاج المشترك للولايات المتحدة وأوروبا. كما تم تداول معلوماتي في ذات الشهر لمفوض البرلمان الألماني لشؤون الدفاع، مفادها أن بعض القوات الألمانية كانت تستخدم أجهزة راديو غير مشفرة تعود لثمانينيات القرن الماضي ولا يمكنها التواصل مع الحلفاء.
فمنذ عدة أشهر أطلقت روسيا صاروخًا جديدًا متوسط المدى يُعرف باسم “أوريشنيك” (شجرة البندق) خلال هجوم على مدينة دنيبرو الأوكرانية، ويتميز هذا السلاح بقدرته على حمل 6 رؤوس حربية يحتوي كل منها على 6 ذخائر فرعية بإجمالي 36 رأسا، وهو ما يمكنه من إحداث أضرار واسعة النطاق، مما يشير إلى إستراتيجية روسية جديدة تستهدف تحسين قدراتها التقليدية وتقليل اعتمادها على الترسانة النووية. وازاء ذلك تعالت تحذيرات لدول الناتو مفادها أن روسيا ربما تستخدم، في حالة اندلاع حرب مع الحلف، هذا الصاروخ لمهاجمة القواعد الجوية الحيوية للحلف في الأيام الأولى للصراع إذ إنها تدرك جيدًا التفوق الجوي لحلف شمال الأطلسي، وهي تأمل منح قواتها فرصة للالتقاط الأنفاس من خلال تدمير قدرة حلف شمال الأطلسي على الاستجابة أو على الأقل تأخيرها. وكان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “الناتو” مارك روته، قد صرح الشهر الماضي، ضمناً بتنامي القوة الروسية، لافتاً إلى أن موسكو قادرة على إنتاج المزيد من الموارد خلال 3 أشهر أكثر مما تستطيع القاعدة الصناعية الدفاعية للحلف إنتاجه في عام واحد.
ويعمل الناتو على إنشاء نموذج جديد للقوة لمواجهة التهديدات الروسية المحتملة على الجبهة الشرقية، ويدعو بعض الجنرالات الأوروبيين، إلى إعادة فرض التجنيد الإجباري، رغم أن هذا لن يعوض الحاجة إلى الجنود المحترفين المدربين بشكل جيد في الحروب الحديثة. كما تفتقر أوروبا إلى الأنظمة الجوية الدفاعية المضادة للصواريخ من طراز “باتريوت” بأعداد تكفي لتوفير دفاع فعال ضد الصواريخ المعادية. وأثبت الصراع في أوكرانيا، أنه من الصعب تحقيق التفوق في حرب برية حديثة دون السيطرة الجوية. وبالنظر الي أنظمة الدفاع الجوي الراسخة في روسيا فمن الصعب على سلاح الجو الأوكراني التحليق وإلحاق ضرر حقيقي بقدرات الأسلحة الروسية التي دمرت مدناً أوكرانية وبنيتها التحتية الحيوية. ويُرجح أن يواجه الناتو نفس التحدي إذا قررت روسيا غزو أحد أعضائه.
3- استنزاف الحرب الروسية الأوكرانية للموارد الأوروبية
عانت أوروبا اقتصادياً من الحرب الأوكرانية، من خلال تمويلها لأوكرانيا على مدار عدة سنوات ارهقتها اقتصادياً، بالإضافة الي استضافة أوروبا للجالية الأوكرانية التي هاجرت إليها أثناء الحرب. فهاجر أكثر من 4.5 مليون أوكراني إلى الدول الأوروبية فبالإضافة إلى ذلك، سببت الحرب الروسية الأوكرانية ارتفاع كبير في أسعار الغاز عالميًا وذلك لسببين رئيسيين. أولهما، أن روسيا هي أكبر مُصَدر للغاز على مستوى العالم لأمتلكها أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي، بل وايضا أكبر الدول تصديرا للنفط. وثانيهما، اعتماد أوروبا بشكل كبير على الغاز الروسي، فكان كل من ألمانيا وإيطاليا المستوردين الأكبر للغاز الروسي، تليهم فرنسا وبولندا والمجر. فمثلا، اعتمدت ألمانيا على واردتها للغاز الروسي بنسبة 55% في عام 2022. وقد أعلن وقت ذلك الاتحاد الأوروبي أن هناك 12 دولة أوروبية تعتمد بشكل جزئي أو كلى على الغاز الروسي مما دفعهم للبحث عن مصادر أخرى للغاز.
ومن ناحية أخرى ازداد معدل الانفاق العسكري لدول أوروبا مع استمرار هذه الحرب، مما أثر بالنقص على مخزون السلاح لديها، هذا الانفاق أدرجته الدول في ميزانياتها العسكرية، كما أنها اضطرت لتغيير خططها التسليحية جراء هذه الحرب. فزادت الحرب الروسية الأوكرانية، لأكثر من عامين الضغط على الاتحاد الأوروبي لتكثيف جهوده العسكرية والدفاعية بشكلٍ غير مسبوق، في مواجهة التهديد الروسي المُتصاعد، مما دفع بقادة الاتحاد الأوروبي إلى تبني “اقتصاد الحرب”، حيث يتم تحويل الموارد والقدرات الاقتصادية نحو زيادة الإنتاج العسكري وتعزيز القوة الدفاعية. وبناءً على ذلك، زادت واردات الدول الأعضاء الأوروبية في حلف الناتو في الفترة من 2020 – 2024 بنسبة 155% مقارنةً بالفترة من 2015 – 2019.
كان لمجمل تلك التطورات الأثره على المواطن الأوروبي خلال السنوات الماضية من هذه الحرب. فارتفعت الأسعار بصورة تدريجية وإزدياد أسعار الطاقة بشكل كبير أرهقت المواطن الأوروبي. ورسمت سياسات دول الاتحاد الأوروبي مواقفها على هذا الاساس مع ضمان تأييد الولايات المتحدة ضمن حلف الناتو .ومع إرسال المعدات العسكرية لدعم دفاع أوكرانيا، واجهت الحكومات الأوروبية تحديات في تحديد الكمية التي يجب إرسالها، وذلك خوفاً من استنزاف ترساناتها المحدودة. كانت مؤسسات الدفاع الوطنية في أوروبا تقليدياً عند اتخاذ قرار الشراء وتحديد الموردين، تركز على تعزيز اقتصاداتها المحلية وخلق فرص العمل. لكن ذلك يصعب تنسيق عمليات الشراء بشكل يضمن حصول المنطقة على المعدات التي تحتاجها بأقل تكلفة. كما يؤدي ذلك إلى خلل على أرض المعركة.
ثانياً مواقف الدول الأوربية الكبرى من تعزيز الإنفاق الدفاعي للناتو (فرنسا – ألمانيا)
1- الموقف الألماني
أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية مدى اعتماد ألمانيا في دفاعها على الناتو وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية. فيعانى الجيش الألماني من الضمور والافتقار إلى معدات رئيسية للدفاع تظهر احتياجات الجيش الألماني للعتاد، والسفن الحربية البحرية والطائرات المُسيّرة القتالية ومركبات قتالية مشاة مُحدثة ودفاع صاروخي وأنظمة أسلحة أخرى. ومع التهديدات الاستراتيجية في المنطقة الأوروبية وتراجع الولايات المتحدة في الدفاع عن أوروبا، قررت ألمانيا زيادة أنفاقها الدفاعي بشكل غير محدود منذ الحرب العالمية الثانية. فقد صوت البرلمان الألماني (بوندستاج) الثلاثاء 18 مارس 2025 بأغلبية الثلثين على تعديل دستوري يقضى بإلغاء الحد من الأنفاق العام، مما يفتح الباب أمام الحكومة للاستدانه بشكل غير محدود لتمويل الحرب في أوكرانيا و تأهيل الجيش الألماني ورفع الانفاق الدفاعي الألماني، بناءًا على أن يكون الانفاق الدفاعي موازيا للانفاق على البنية التحتية و تشكيل صندوق بقيمة 500 مليار يورو لتمويل مشروعات البنية التحتية لمدة 12 سنة قادمة. يعتبر ذلك التعديل الدستوري تاريخيًا بعد أن أدخلت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بند منع الاستدانة بأكثر من 35% من الناتج المحلى الإجمالي إلا في حالات الطوارئ في عام 2009.
ويُعد الموقف الألماني واضحاً كان المستشار الألماني أولاف شولتس قد أعلن مسبقًا رفضه للدعوة التي أطلقها الرئيس ترامب إلى الدول الأعضاء في حلف الناتو لزيادة الحد الأدنى لإنفاقها الدفاعي إلى 5% من إجمالي الانتاج المحلى GDP للدول الاعضاء. فالولايات المتحدة تنفق 3.6% من اجمالي الانتاج المحلي لها على انفاقها الدفاعي، بينما تطالب الدول الاوروبية بإنفاق 5% حصة كل دولة من الدول الاعضاء. أضف إلى ذلك، تسريب وثيقة تكشف انتقادات السفير الألماني للرئيس ترامب وسياساته تجاه أوروبا، مشيرا إلى مركزية السلطة في يد الرئيس ترامب وتغيير السياسة الخارجية الامريكية تحت إداراته.
2- الموقف الفرنسي
تتبنى فرنسا موقفًا متوازنًا إزاء مسألة تعزيز الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو، إذ تدعم من حيث المبدأ ضرورة تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية ضمن إطار الحلف، لكنها في الوقت ذاته تؤكد على أهمية تحقيق استقلالية استراتيجية أوروبية تقلل من الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة. ويعكس هذا الموقف التوجه العام للسياسة الدفاعية الفرنسية التي تسعى إلى تعزيز القدرات الدفاعية للقارة الأوروبية، سواء من خلال الناتو أو عبر تطوير منظومة دفاعية أوروبية مستقلة.يؤشر علي ذلك التزام فرنسا بزيادة إنفاقها الدفاعي وفقًا لمعايير الناتو، حيث أعلنت عن رفع ميزانيتها العسكرية لتحقيق هدف 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025.
وضمن هذا السياق، أقرت الحكومة الفرنسية قانون البرمجة العسكرية (2024-2030)، الذي يهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية من خلال استثمارات ضخمة في المجالات التقليدية والتكنولوجية المتقدمة. ومن أبرز ملامح الإنفاق الدفاعي الفرنسي تخصيص 413 مليار يورو للإنفاق الدفاعي بين عامي 2024 و2030، بزيادة قدرها 40% مقارنة بالفترة السابقة، وتعزيز برامج تحديث القوة الدفاعية، بما في ذلك تطوير القدرات النووية الفرنسية، والاستثمار في مجالات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي والحرب الإلكترونية.
ويتبني الرئيس ماكرون رؤية أكثر استقلالية لأوروبا في الدفاععن نفسهاعلى الرغم من التزام فرنسا بزيادة إنفاقها الدفاعي في إطار الناتو، ففرنسا تؤكد على ضرورة تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية. كماأكدت فرنسا على ضرورة بناء قدرة دفاعية أوروبية مستقلة من خلال مبادرات مثل “البوصلة الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي”، ودعم مشاريع الدفاع الأوروبي المشترك، مثل صندوق الدفاع الأوروبي وتطوير المقاتلة الأوروبية من الجيل السادس (FCAS)، وتعزيز التعاون العسكري مع ألمانيا وإسبانيا في تطوير منظومات دفاعية متقدمة.وتجدر الاشارة الي أن فرنسا تواجه بعض التحديات المرتبطة بموقفها؛ أبرزها: معارضة بعض الدول الأوروبية، مثل بولندا ودول البلطيق، لفكرة تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، باعتبار أن واشنطن تشكل الضامن الأساسي لأمن أوروبا في مواجهة روسيا، والمخاوف من أن يؤدي التركيز على الدفاع الأوروبي إلى إضعاف الناتو بدلًا من تعزيزه.
ومن زاوية أخرىتنتقد فرنسا عدم التوازن في تقاسم الأعباء داخل الناتو، إذ ترى أن الدول الأوروبية الكبرى يجب أن تتحمل مسؤوليات أكبر في الدفاع عن القارة، بدلًا من الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة. يُفسر ذلك دعوة باريس إلى التزام جميع الدول الأوروبية بمعيار 2% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي، لضمان توزيع عادل للأعباء داخل الحلف. وتقوية التعاون الأوروبي داخل الناتو بحيث يصبح الاتحاد الأوروبي فاعلًا أمنيًا أكثر استقلالية ضمن إطار الحلف، وإعادة النظر في الأولويات الاستراتيجية للحلف لضمان تركيزه على التهديدات المباشرة التي تواجه أوروبا، وليس فقط المصالح الأمريكية العالمية.
ومع استمرار التوترات الجيوسياسية، تبقى فرنسا لاعبًا رئيسيًا في تشكيل مستقبل الناتو، سواء من خلال التزاماتها العسكرية أو من خلال دفعها نحو سياسة دفاعية أوروبية أكثر استقلالية. ويعبر استعداد ماكرون لمناقشة استبدال المظلة النووية الأمريكية بأخرى فرنسية عن الدور المحوري الذي تلعبه فرنسا. وبالإضافة إلى ذلك، فإن فرنسا تقف بجانب بريطانيا في تحالف الراغبين الذي يسعى إلى توفير ضمانات أمنية لأوكرانيا.
مجمل القول بدأت الدول الأوروبية بالفعل تولي اهتماماً متزايداً للاستقلال الدفاعي كاتجاه استراتيجي، ويعكس هذا التوجه استجابة للتغيرات الجيوسياسية العالمية، بما في ذلك الضغوط والتحديات الأمنية المتزايدة على الحدود الأوروبية، ولا سيما على خلفية العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا التي بدأت في 2014 والمستمرة حتى الآن. فهناك عدة عوامل تدفع نحو هذا التوجه، منها الرغبة في تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة والناتو لتوفير الأمن والدفاع، خصوصاً بعد التغييرات في السياسة الأمريكية التي طرأت خلال إدارة الرئيس ترامب والتي أثارت قلقاً في أوروبا بشأن مستوى الالتزام الأمريكي تجاه أمن أوروبا. فضلاً عن أبرز التحديات الأمنية على الإطلاق وهو النمو الدفاعي الروسي المتسارع والذي أصبح يُشكل تهديداً.
وفي مواجهة التهديد الروسي المتصاعد، تسعى الدول الأعضاء إلى رفع جاهزية الناتو وتعزيز قدراته القتالية، إلا أن الحرب الروسية الأوكرانية شكلت استنزافًا غير مسبوق للموارد الأوروبية، مما فرض معادلة صعبة بين الاستمرار في دعم أوكرانيا وبين تأمين الجاهزية الدفاعية الذاتية. ووسط هذه الضغوط، تتباين مواقف القوى الأوروبية الكبرى، حيث تدفع فرنسا باتجاه تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية بالتوازي مع التزاماتها داخل الناتو، بينما تتجه ألمانيا نحو زيادة إنفاقها الدفاعي، لكنها تواجه تحديات في تحويل هذه الالتزامات إلى قوة عسكرية فعلية.
ورغم أن جوهر الناتو قائم على مفهوم الإنفاق الدفاعي المشترك لضمان أمن الحلف ككل، إلا أن الواقع الحالي يعكس تفاوتًا واضحًا في تحمل الأعباء، مما أدى إلى تآكل مصداقية الحلف كمنظومة أمنية قائمة على تقاسم المسؤوليات بشكل عادل. ومع تزايد الشكوك حول التزام الولايات المتحدة تجاه الحلف، يجد الأوروبيون أنفسهم أمام معضلة حقيقية، فإما الرضوخ للضغوط الأمريكية وزيادة مساهماتهم الدفاعية وفقًا للرؤية الأمريكية، أو تسريع خطوات بناء منظومة دفاعية أوروبية أكثر استقلالية، وهو خيار لا يزال يواجه تحديات سياسية وعسكرية واقتصادية. وفي ظل هذه المعطيات، يبقى مستقبل الناتو مرهونًا بقدرته على تجاوز هذه التناقضات الداخلية، وتحقيق توازن أكثر استدامة بين الضغوط الأمريكية والمصالح الأمنية الأوروبية، لضمان بقائه كتحالف دفاعي مشترك فعال في بيئة دولية مضطربة، كما أن شكل التسوية للصراع في أوكرانيا سيكون له انعكاسات مهمة على مستقبل الدفاع في الناتو.
المصادر
1- “أوروبا تحت مجهر التحديات: هل تستطيع التحرر من المظلة الأمريكية؟” انديبندنت عربية، 17 مارس 2025.
2- “ألمانيا تدخل حقبة من الإنفاق العسكري غير المسبوق منذ هزيمة النازيين”. الشرق الأوسط، مارس 2025. https://www.france24.com/ar/%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D8%A7/20250120-%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D9%85%D8%B3%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%AA%D9%83%D8%B4%D9%81-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%AF%D8%AD8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%84
3- “فرنسا تتراجع عن معارضة مقترح اوروبي لدعم الصناعات الدفاعية”. الشرق، 25 نوفمبر 2024.
4- “ماكرون وشولتس يتعهّدان مواصلة الدعم العسكري لأوكرانيا”. الشرق الأوسط، 18 مارس 2025. https://aawsat.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85/%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D8%A7/5123401-%D9%85%D8%A7%D9%83%D8%B1%D97%D9%86%D9%8A%D8%A7
5- مخيمر، أسامة فاروق. “تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على الأمن الأوروبي: دراسة للتغيرات في مفهوم وقضايا الأمن بعد الحرب الباردة.” مجلة السياسة والاقتصاد 18, no. 17 (2023): 6-35. https://jocu.journals.ekb.eg/article_279650.html
6- “هل تستطيع أوروبا تحقيق الاستقلال الاستراتيجي عن واشنطن؟” المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 17 مارس 2025
https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/10050?utm_
7- “وثيقة مسربة تكشف انتقادات السفير الألماني في واشنطن لترامب وتثير الجدل”. فرنس 24، يناير 2025 https://www.france24.com/ar/%D8%A3%D9%85%D8%B83%D8%B4%D9%81-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D9%824%D9%86%D8%B7%D9%86-%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8-%D9%88%D8%AA%D8%AB%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%84
8- Chris Lunday. “Germany’s military is struggling as Trump tests NATO, report shows”. Politico, March 11, 2025. https://www.politico.eu/article/germany-military-struggling-us-donald-trump-nato-report/
9- Katarina Djokic. “Are the European NATO states moving towards self-reliance in arms procurement? A Q&A with Katarina Djokic. SIPRI, March 19, 2025. https://www.sipri.org/commentary/topical-backgrounder/2025/are-european-nato-states-moving-towards-self-reliance-arms-procurement-qa-katarina-djokic
10- Tucha, Olga, Inna Spivak, Olga Bondarenko, and Olga Poharska. “The impact of Ukrainian migrants on the economies of recipient countries.” Nacionaljnyj bank Ukrajiny [National Bank of Ukraine] (2022). https://bank.gov.ua/admin_uploads/article/Migration_impact_2022-12-15_eng.pdf
11- “Ukraine the world’s biggest arms importer; United States’ dominance of global arms exports grows as Russian exports continue to fall”. SIPRI. March 10, 2025. https://www.sipri.org/media/press-release/2025/ukraine-worlds-biggest-arms-importer-united-states-dominance-global-arms-exports-grows-russian
باحث دكتوراه في العلاقات الدولية.
مديرة مركز ترو للدراسات والتدريب