تشكل العلاقات الكندية–الأمريكية واحدة من أكثر العلاقات الثنائية استقرارًا وتشابكًا في النظام الدولي الحديث، وذلك بفعل عوامل الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والتحالفات الأمنية المتداخلة. ومع ذلك، فإن هذا الاستقرار لم يكن كفيلًا بحمايتها من موجات التوتر والاضطراب، لا سيما حين تقترن التحولات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة بخطاب شعبوي ذي نزعة توسعية كما هو الحال في عهد الرئيس الأمريكي الحالي. في هذا السياق، جاء اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء الكندي الجديد مارك كارني بالرئيس ترامب في 6 مايو الجاري، ليكشف عن مرحلة جديدة من التصعيد، لم تعد تقتصر على الملفات الجمركية أو التجارية، بل امتدت إلى تصريحات ذات طابع جيوسياسي خطير تتعلق بوحدة الأراضي الكندية، بعد أن ألمح ترامب إلى “إمكانية ضم كندا” كالولاية 51 للولايات المتحدة في سابقة تهدد الأعراف السياسية والدبلوماسية المتبعة منذ عقود[1].
تكتسب هذه اللحظة السياسية أهميتها من كونها لا تعبر فقط عن خلاف عابر بين دولتين متجاورتين، بل تكشف عن تحول بنيوي في تصور الولايات المتحدة لدورها الإقليمي، وفي طبيعة علاقتها بجيرانها وشركائها. فبينما تسعى كندا للحفاظ على نموذجها السيادي المنفتح على التعددية والتجارة الحرة، تتجه الإدارة الأمريكية الحالية نحو خطاب يستعيد مقولات النفوذ والضم، ويستخدم أدوات اقتصادية للضغط السياسي، في ظل بيئة دولية مضطربة. ومن هنا، فإن دراسة هذا اللقاء تتجاوز حدود الحدث ذاته، لتصبح مدخلًا لفهم بنية العلاقة الكندية–الأمريكية في لحظة تاريخية حرجة، تُعيد طرح سؤال السيادة، والهيمنة، وإعادة تشكيل الجوار في القرن الحادي والعشرين[2].
أولًا: الجذور التاريخية للعلاقات الكندية-الأمريكية
تُعد العلاقات الكندية–الأمريكية واحدة من أكثر العلاقات الثنائية تعقيدًا في العالم، حيث تشكلت على مدى قرنين من الزمن ضمن سياقات استعمارية وصراعية ثم تطورت إلى نموذج فريد من التداخل المؤسسي والتجاري. تعود الجذور الأولى للتوتر بين الجانبين إلى مطلع القرن التاسع عشر، وتحديدًا إلى حرب عام 1812، حين حاولت الولايات المتحدة، في خضم صراعها مع بريطانيا، ضم المستعمرات الكندية الشمالية بالقوة، إلا أن المحاولة واجهت مقاومة شرسة من الميليشيات الكندية والجيش البريطاني، مما رسخ في الوعي الكندي المبكر الإحساس بالتهديد القادم من الجنوب. ومع أن تلك الحرب انتهت دون تعديل جوهري في الحدود، إلا أنها مثلت لحظة تأسيسية في رسم ملامح العلاقة بين الجانبين، قائمة على مزيج من القرب الجغرافي والارتياب السياسي[3].
خلال العقود التالية، اتخذت العلاقة منحنى أكثر هدوءًا، خاصة بعد استقلال كندا التدريجي عن بريطانيا وتشكل هويتها السياسية الحديثة. فقد لعبت التحولات العالمية الكبرى، ولا سيما الحربين العالميتين، دورًا مهمًا في دفع البلدين نحو التعاون الأمني والعسكري، ما تُوج لاحقًا بتأسيس قيادة الدفاع الجوي المشترك (NORAD) في عام 1958، كشكل من أشكال التكامل الدفاعي لمواجهة التهديد السوفيتي. وعلى المستوى الاقتصادي، شهدت العلاقات ازدهارًا تدريجيًا مع توقيع اتفاقية التجارة الحرة في 1988، والتي تطورت لاحقًا إلى اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA) عام 1994، ومثلت محطة مركزية في تعميق الاعتماد المتبادل بين اقتصاد البلدين[4].
ورغم هذا التاريخ الطويل من الشراكة، لم تخلو العلاقة من توترات متكررة. فقد شهدت محطات خلافية حول البيئة، الطاقة، الأمن الحدودي، وحقوق الشعوب الأصلية، لكن ما حافظ على تماسك العلاقة هو وجود قاعدة مؤسساتية مشتركة، وإرث طويل من المصالح المتبادلة. إلا أن صعود النزعة القومية الأمريكية في فترات معينة – لا سيما خلال عهد ترامب – أعاد إلى السطح مفردات الصراع التاريخي، وأعاد صياغة العلاقة في صورة تتأرجح بين الشراكة والهيمنة، وهو ما يجعل دراسة الجذور التاريخية ضرورية لفهم طبيعة التوترات الراهنة ومداها الاستراتيجي[5].
ثانيًا: تحولات الخطاب الأمريكي في عهد ترامب بين الولاية الأولى والثانية
يمثل دونالد ترامب، في السياق السياسي الأمريكي، حالة استثنائية من حيث نمط الحكم، والخطاب السياسي، والنهج في إدارة العلاقات الدولية، وخاصة مع الحلفاء التقليديين. وإذا كانت ولايته الأولى (2017–2021) قد كشفت عن توجهات انعزالية واضحة، فإن ولايته الثانية، التي عاد فيها إلى البيت الأبيض محمولًا على موجة قومية صلبة بعد انتخابات مثيرة للجدل، قد اتسمت بتصعيد غير مسبوق في إعادة تعريف أولويات السياسة الخارجية، بدرجة تُهدد تماسك النظام الليبرالي الذي ساهمت الولايات المتحدة في تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية. ويُعد الملف الكندي أحد أبرز المؤشرات على هذا التحول[6].
في الولاية الأولى، تعامل ترامب مع كندا بوصفها شريكًا تجاريًا منافسًا أكثر منها حليفًا استراتيجيًا. وقد بدا ذلك في موقفه من اتفاقية NAFTA، التي وصفها بأنها “الأسوأ في تاريخ أمريكا”، مما دفعه إلى الضغط لإعادة التفاوض حولها، وهو ما أدى إلى توقيع اتفاقية جديدة تُعرف باسم USMCA في عام 2020. لم يكن هدف ترامب فقط تحسين شروط التبادل التجاري لصالح الولايات المتحدة، بل أيضًا إعادة تشكيل العلاقة وفق منطق الربح والخسارة، لا وفق قيم الشراكة طويلة المدى. وعلى الرغم من أن التوترات لم تصل في تلك الفترة إلى حدود التصعيد الجيوسياسي، فإنها أظهرت بوضوح منهجًا يقوم على تفكيك القواعد التقليدية للعلاقات مع كندا، بدءًا من تقويض التفاهمات الاقتصادية، وصولًا إلى فرض رسوم جمركية مفاجئة على الحديد والألمنيوم[7].
أما في ولايته الثانية، فقد انتقل ترامب من مقاربة اقتصادية ضاغطة إلى خطاب يتضمن نزعة ضمومية مباشرة، تعيد إلى الأذهان طموحات توسعية تاريخية. فالرئيس الأمريكي ترامب لم يكتفي بفرض إجراءات جمركية إضافية على السلع الكندية بدعوى حماية الأمن القومي، بل صرح علنًا بإمكانية التفكير في ضم كندا إلى الولايات المتحدة، مستندًا إلى منطق شعبوي يُقدم كندا كامتداد جغرافي وثقافي يجب إخضاعه للنفوذ الأمريكي. هذا التصريح يحمل في طياته انعكاسًا حقيقيًا لتحولات عميقة في الخطاب السياسي الأمريكي، حيث لم تعد العلاقة مع كندا تُصاغ باعتبارها علاقة متكافئة بين دولتين ذات سيادة، بل باتت تخضع لمنطق إعادة الترتيب الإقليمي وفق إرادة أمريكية أحادية.[8]
هذه النزعة الجديدة ليست معزولة عن التحولات الداخلية في الولايات المتحدة، بل تتغذى على تصاعد التيارات القومية، وانحسار الثقة في المؤسسات الدولية، وتراجع الالتزام الأمريكي بالتحالفات متعددة الأطراف. ففي حين كانت الولاية الأولى لترامب أشبه باختبار لمتانة التحالفات، فإن ولايته الثانية تشهد عمليًا ما يشبه تفكيكها. وقد وجدت كندا نفسها في قلب هذا التحول، لا باعتبارها خصمًا أو عدوًا، بل باعتبارها كيانًا يمكن التفاوض على استقلاله في حسابات ترامب السياسية، وهو ما يُمثل تحديًا وجوديًا للدبلوماسية الكندية، وامتحانًا كبيرًا لبنية التحالف عبر الأطلسي[9].
ثالثًا: الحرب الجمركية الجديدة: تصعيد سياسي بأدوات اقتصادية
لطالما شكلت العلاقات الاقتصادية بين كندا والولايات المتحدة حجر الأساس في منظومة الشراكة الثنائية، حيث يرتبط البلدان بشبكة معقدة من التبادل التجاري، تشمل قطاعات رئيسية مثل الطاقة، والصناعات الثقيلة، والزراعة، والتكنولوجيا. إلا أن هذه العلاقة التي كانت يومًا تُعد نموذجًا للتكامل الاقتصادي الإقليمي، تحولت في عهد دونالد ترامب إلى ساحة صراع مفتوح، تتجاوز فيها الرسوم الجمركية بعدها الاقتصادي لتصبح أداة صريحة من أدوات الضغط السياسي[10].
في ولايته الأولى، بدأ ترامب بتفعيل إجراءات جمركية قاسية ضد الصادرات الكندية، خاصة في قطاعي الصلب والألمنيوم، تحت مبرر حماية الأمن القومي الأمريكي؛ وهو مبرر وصف في وقتها بأنه ذريعة لإعادة التفاوض على الاتفاقيات التجارية ضمن منطق الهيمنة التفاوضية. ورغم نجاح واشنطن في فرض اتفاقية USMCA بشروط أكثر تقييدًا للاقتصاد الكندي، فإن التوترات لم تنتهي، بل تحولت إلى استراتيجية دائمة في إدارة العلاقة، تقوم على الإستجابة والخضوع مقابل الاستقرار.[11]
في ولايته الثانية، ومع تصاعد الخطاب القومي الراديكالي، عاد ترامب إلى تصعيد الحرب الجمركية بوتيرة أعلى، عبر توسيع قائمة السلع الكندية الخاضعة للرسوم، واستهداف قطاعات استراتيجية كصادرات الأخشاب، والمعدات الصناعية، ومنتجات الطاقة النظيفة. هذا التصعيد لم يكن معزولًا عن المناخ السياسي المحيط، بل جاء ضمن محاولة واضحة لتقويض قوة كندا التفاوضية، وربط اقتصادها على نحو أكبر بالقرار الأمريكي. ومما ضاعف من أثر هذه الحرب، تراجع الالتزام الأمريكي بالمؤسسات التجارية الدولية، كمنظمة التجارة العالمية، مما أضعف قدرة أوتاوا على اللجوء إلى آليات التحكيم المتعارف عليها.[12]
وقد اعتبر مراقبون اقتصاديون أن هذه السياسة الجمركية تتجاوز مجرد الصراع التجاري، لتصبح وسيلة استراتيجية لخلق حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي في كندا، تدفعها في اتجاه القبول بإملاءات واشنطن، سواء فيما يتعلق بإعادة تعريف قواعد التجارة، أو حتى في مسائل سيادية أوسع. وهو ما يُفسر كيف أُدرجت التصريحات بشأن إمكانية الضم في نفس سياق الإجراءات الجمركية، باعتبارها جزءًا من استراتيجية شاملة لإعادة ترتيب الجوار الجغرافي والاقتصادي وفقًا لرؤية أحادية أمريكية.[13]
إن الحرب الجمركية الجديدة، في هذا السياق، ليست مجرد خلافات على الضرائب أو الحصص السوقية، بل تعبير عن خلل بنيوي في العلاقة بين البلدين، حيث تُوظف أدوات الاقتصاد الحديث لتقويض الاستقلالية السياسية. ومن هنا، فإن الاستجابة الكندية لهذه التحديات تتجاوز الاقتصاد إلى إعادة بناء خطاب سيادي مقاوم، يضع حدودًا واضحة بين التعاون الاقتصادي، والإخضاع الجيوسياسي.[14]
رابعًا: الأثر الاقتصادي للأزمة على الداخل الكندي
أحدثت التوترات المتصاعدة مع الولايات المتحدة، وخاصة في عهد ترامب الحالي، هزات ملموسة في البنية الاقتصادية الكندية، انعكست بشكل مباشر على المؤشرات الحيوية للاقتصاد الوطني، وعلى ثقة المستثمرين والمؤسسات المالية. فبينما تعتمد كندا بشكل كبير على السوق الأمريكية حيث تتجه إليها أكثر من 70% من صادراتها فإن اضطراب هذه العلاقة يترك تداعيات هيكلية عميقة على القدرة التنافسية، واستقرار سلاسل الإمداد، وعلى معدلات النمو.[15]
تجلت أولى نتائج التصعيد الجمركي الأمريكي في انخفاض صادرات كندا من منتجات حيوية مثل الأخشاب ومشتقات الطاقة، نتيجة فرض رسوم جديدة ومفاجئة من الجانب الأمريكي، مما أضر بالقطاعات الصناعية في أقاليم مثل بريتيش كولومبيا وألبرتا. وقد أدت هذه الإجراءات إلى انخفاض العوائد التصديرية، وارتفاع التكاليف التشغيلية، واضطراب خطط الإنتاج في العديد من الشركات الكندية التي تعتمد بشكل مباشر على التبادل التجاري العابر للحدود. كما بدأت المؤسسات المالية الكبرى، مثل تي دي بنك ورويال بنك أوف كندا، بإصدار تحذيرات حول إمكانية دخول الاقتصاد الكندي في حالة ركود تقني خلال الأرباع القادمة، إذا استمرت التوترات على نفس المنوال.[16]
وعلى المستوى المجتمعي، انعكس هذا الاضطراب الاقتصادي في تصاعد التوترات الاجتماعية داخل كندا، خاصة في المناطق الصناعية التي بدأت تشهد معدلات بطالة مرتفعة، وزيادة في حدة الانتقادات الموجهة للحكومة الفيدرالية، التي يُنظر إليها أحيانًا باعتبارها عاجزة عن حماية المصالح الكندية في مواجهة الهيمنة الأمريكية. وقد تزايدت الأصوات الداعية إلى مراجعة استراتيجية كندا الاقتصادية الخارجية، عبر تنويع الشركاء التجاريين، والانفتاح بصورة أكبر على أوروبا وآسيا، لتقليل الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة، وهو ما يُعد تحديًا جيوسياسيًا واقتصاديًا مزدوجًا في ظل الطبيعة المتداخلة للاقتصاد الكندي–الأمريكي.[17]
كما اتخذت حكومة كارني، في ضوء هذه التطورات، خطوات احترازية شملت تقديم حوافز ضريبية للمصدرين المتضررين، وتعزيز الدعم الموجه لقطاعي الصناعة والطاقة، لكن هذه الإجراءات لا تزال محدودة الأثر أمام الضغط الهيكلي القادم من واشنطن. ففي الوقت الذي تسعى فيه كندا للحفاظ على قواعد التجارة الحرة، تواجه إدارة أمريكية تُصر على إخضاع تلك القواعد لأجندة سياسية قومية.[18]
إن الأزمة الحالية تضع النموذج الاقتصادي الكندي أمام مفترق طرق حقيقي، إما المضي قدمًا في محاولة بناء استقلالية اقتصادية استراتيجية تتطلب تضحيات سياسية واقتصادية جسيمة، أو الخضوع لمنطق التبعية القسرية في ظل بيئة دولية تُعيد صياغة مفهوم السيادة الاقتصادية. وفي كلتا الحالتين، فإن الداخل الكندي بات معنيًا بصورة مباشرة بمخرجات السياسات الأمريكية، بشكل غير مسبوق منذ عقود.[19]
خامسًا: تصاعد النزعة الانفصالية في ألبرتا: دانييل سميث وتحدي المركز الفيدرالي في كندا
في خطوة تعكس تعاظم النزعة الإقليمية المناهضة للسلطة الفيدرالية في كندا، أعلنت رئيسة وزراء مقاطعة ألبرتا، دانييل سميث، عن تشكيل مجموعة تفاوضية جديدة تهدف إلى إعادة التفاوض مع الحكومة الفيدرالية بشأن حزمة القوانين البيئية والتنظيمية التي تُقيد صناعة الطاقة، وعلى وجه الخصوص قطاعي النفط والغاز، واللذين يشكلان العمود الفقري للاقتصاد في المقاطعة. ووصفت سميث هذه التشريعات بأنها تقويض مباشر لسيادة ألبرتا الاقتصادية، معتبرة أنها تُفرض من المركز الفيدرالي دون مراعاة خصوصيات المقاطعة ومصالحها الحيوية.
وفي تطور أكثر خطورة، لم تستبعد سميث إمكانية اللجوء إلى إجراء استفتاء شعبي على انفصال المقاطعة عن الاتحاد الكندي، مشيرة إلى أن هذا الخيار قد يُطرح أمام الناخبين في أقرب وقت ممكن خلال هذا العام، إذا استمر ما وصفته بـ”تجاهل الحكومة الفيدرالية لمطالب ألبرتا”. وتعكس هذه التصريحات تصعيدًا لافتًا في الخطاب الانفصالي، إذ تُعيد إلى الأذهان موجات التوتر السابقة بين المقاطعات الغنية بالموارد الطبيعية والحكومة المركزية، خاصة في ظل تعثر آليات تقاسم العائدات وتزايد التباين في الرؤى الاقتصادية بين الغرب الكندي والمركز الليبرالي في أوتاوا.
يُقرأ هذا التحرك ضمن إطار أوسع من الاستقطاب السياسي الذي بات يهيمن على المشهد الفيدرالي الكندي، حيث تتلاقى المظالم الإقليمية مع بروز سرديات قومية محلية، تُقدم الانفصال بوصفه حلاً لأزمة التمثيل السياسي وتوزيع السلطة. وفي حالة ألبرتا، تتغذى هذه الميول الانفصالية على شعور متنامي بالحرمان من النفوذ داخل مؤسسات الدولة، وعلى قناعة راسخة لدى قطاعات واسعة من السكان بأن مصالح المقاطعة تُضحى بها لصالح الأجندات البيئية للحكومة الفيدرالية، وهو ما يمنح خطاب سميث زخمًا سياسيًا يتجاوز الحسابات الانتخابية الضيقة[20].
إن ما يجري في ألبرتا لا يُعد مجرد خلاف حول السياسات البيئية أو إدارة الموارد الطبيعية، بل يُعبر عن أزمة هيكلية في العلاقة بين المركز والمقاطعات، تطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل الفيدرالية الكندية، وحدود تماسك الاتحاد في ظل تنامي الهويات الإقليمية الصدامية.
سادسًا: البعد الجيوسياسي للأزمة وتحولات التحالفات الإقليمية
لا يمكن فهم التوتر الراهن بين كندا والولايات المتحدة بمعزل عن السياق الجيوسياسي الأوسع الذي يشهد تحولات في طبيعة التحالفات الدولية، وملامح النظام الإقليمي في أمريكا الشمالية. فعلى مدار عقود، مثلت العلاقة الكندية–الأمريكية ركيزة من ركائز الاستقرار الإقليمي، ضمن إطار تحالفات مثل حلف شمال الأطلسي (الناتو) ومبادرات الدفاع المشترك، إلا أن هذا الثبات بدأ يتآكل بشكل ملحوظ في عهد دونالد ترامب، الذي أعاد تعريف التحالفات من منظور وظيفي ضيق، يرتكز على مبدأ المعاملة بالمثل، بعيدًا عن مفاهيم الالتزام الاستراتيجي طويل الأمد.[21]
في هذا الإطار، بدا أن خطاب ترامب الأخير بشأن “إمكانية ضم كندا” لا يحمل فقط دلالات رمزية أو استفزازية، بل ينطوي على نوايا توسعية تعبر عن توجه جيوسياسي جديد يرى في الجوار الجغرافي مجالًا للهيمنة المباشرة، لا مجرد الشراكة. هذا التوجه يشكل تهديدًا مباشرًا للسيادة الكندية، كما يعيد إحياء تساؤلات قديمة حول التوازن بين الاستقلال والتحالف في السياسة الخارجية الكندية. وفي ظل هذه التحولات، بدأت أوتاوا بإعادة النظر في تموضعها الاستراتيجي، عبر تعزيز انخراطها في المحيطين الهادئ والأطلسي، وتوثيق علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي ودول جنوب شرق آسيا، في محاولة لإعادة التوازن إلى خارطتها الدبلوماسية.[22]
كما أثّرت الأزمة الراهنة في ديناميات الناتو، إذ أثارت تصريحات ترامب موجة من القلق داخل الحلف بشأن مدى التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على سيادة شركائها. وقد عبر عدد من قادة الحلف، وخاصة من أوروبا الغربية، عن تضامنهم مع كندا بوصفها دولة ذات سيادة مهددة من قبل خطاب غير مسبوق صادر عن شريك أساسي في الحلف. وضمن هذا السياق، بدأت كندا تعزز تعاونها الدفاعي والاستخباراتي مع قوى أوروبية مثل فرنسا وألمانيا، مما يعكس تحولًا استراتيجيًا قد يُعيد تشكيل بنية التحالفات الغربية في المدى المتوسط.[23]
وفيما يخص الجوار الإقليمي، فإن الدول الأخرى في أمريكا اللاتينية تراقب الأزمة الكندية–الأمريكية بقلق بالغ، إذ تخشى أن تؤسس سابقة جديدة لمنطق الضم كأداة للهيمنة السياسية في المنطقة. هذا القلق أعاد إحياء الحديث عن دور منظمة الدول الأمريكية (OAS) كفضاء دبلوماسي بديل، يمكن أن تلجأ إليه كندا لتعزيز موقفها القانوني والدولي، في مواجهة أي محاولات للتدخل في شؤونها الداخلية.[24]
إن البُعد الجيوسياسي للأزمة الحالية يتجاوز التوتر الثنائي بين أوتاوا وواشنطن، ليُعبر عن تغيرات جذرية في فلسفة العلاقات الدولية، حيث لم يعد الالتزام بالسيادة والحدود أمرًا بديهيًا، بل بات خاضعًا لمزاج القادة وتوازنات القوة. وهذا ما يجعل من المواجهة الكندية مع إدارة ترامب لحظة مفصلية في إعادة تعريف موقع كندا الإقليمي والدولي.[25]
ختامًا، تشكل الأزمة الراهنة بين كندا والولايات المتحدة والتي بلغت ذروتها مع اللقاء الأخير بين رئيس الوزراء الكندي مارك كارني والرئيس الأمريكي دونالد ترامب لحظة اختبار حاسمة للمبادئ التي حكمت العلاقة بين البلدين على مدار أكثر من قرن. فبينما كانت هذه العلاقة، تاريخيًا، قائمة على التداخل الاقتصادي، والتنسيق الأمني، والتكامل الاستراتيجي داخل فضاءات متعددة الأطراف، فإنها اليوم تُعاد صياغتها ضمن أطر جديدة مشبعة بالهيمنة والإكراه والتلميحات بضم كندا لتكون الولاية الأمريكية رقم 51، مما يعكس تصدعًا حقيقيًا في أسس النظام الليبرالي الإقليمي.
إن خطاب ترامب الأخير لا يمكن فصله عن التحولات العميقة في البنية السياسية الأمريكية الداخلية، والتي تدفع بالرئيس نحو تبني سياسات خارجية راديكالية ترضي قاعدته الشعبوية، ولو على حساب العلاقات التاريخية والتحالفات الاستراتيجية. وفي المقابل، تجد كندا نفسها مضطرة لايجاد معادلة دقيقة توازن بين الحفاظ على شراكتها الاقتصادية الأكبر مع واشنطن، وبين الدفاع عن سيادتها، ومصداقيتها الدولية، واستقلال قرارها السياسي. وهو تحدي يتطلب من صناع القرار في أوتاوا إعادة بناء منظومة السياسة الخارجية، ورفع مستوى التنسيق مع القوى الإقليمية والدولية الأخرى، وبخاصة الاتحاد الأوروبي ودول آسيا.
وعلى المستوى الداخلي، فإن استمرار الأزمة قد يُعمق من الانقسام السياسي داخل كندا نفسها، ويطرح أسئلة جوهرية حول دور الحكومة الفيدرالية في حماية المصالح الوطنية، ويعيد إحياء الدعوات للاستقلال الاستراتيجي عن واشنطن، عبر تنويع الشركاء التجاريين، والاستثمار في الصناعات الوطنية، وتعزيز الانتماء السيادي في مواجهة التبعية الاقتصادية.
إن ما يجري اليوم لا يمثل فقط أزمة ثنائية عابرة، بل لحظة انعطاف تاريخي في مسار العلاقة الكندية–الأمريكية، تتطلب قراءة استراتيجية شاملة، لا تُعالج أعراض التوتر فقط، بل تعيد التفكير في الأسس التي قام عليها هذا التحالف الخاص. فالتهديدات الضمنية بالضم، والتصعيد الجمركي، وتآكل الثقة، ليست مجرد أدوات تفاوضية، بل تعبير عن رؤية سياسية أمريكية جديدة للعالم، ترى في الحلفاء مجالات نفوذ لا شركاء في القرار. ومن هنا، فإن استجابة كندا لتلك التحديات ستحدد ليس فقط مستقبلها الإقليمي، بل أيضًا موقعها ضمن خارطة التحولات الدولية في مرحلة ما بعد الأحادية الأمريكية.
المصادر
[1] د/ محمد عبدالعظيم الشيمي، تحديات العلاقات الأمريكية-الكندية.. تعقيدات ترامب الأمنية والتجارية، نُشر في 13 أبريل 2025، مجلة السياسة الدولية.
[2] نظرة على تاريخ العلاقة بين الولايات المتحدة وكندا بعد تصريحات ترامب المثيرة، نُشر في 27 يناير 2025، الجزيرة.
[3] ما قصة النزاع الحدودي بين الولايات المتحدة وكندا؟، نُشر في 20 ديسمبر 2019، بي بي سي نيوز عربية.
https://www.bbc.com/arabic/vert-cul-50855387
[4] تهديدات متبادلة.. اشتعال حرب التعريفات الجمركية بين كندا وأمريكا، نُشر في 11 مارس 2025، القاهرة الإخبارية.
[5] الولاية الـ51 تُثير أزمة بين كندا وأمريكا.. دونالد ترامب يهدد أوتاوا بضمها للولايات المتحدة الأمريكية، نُشر في 8 يناير 2025.
[6] علاقة متوترة بين ترامب وكندا.. ما السر وراء التصعيد؟، نُشر في 6 مارس 2025، سكاي نيوز عربية.
[7] حرب التجارة بين أمريكا وكندا: الأسباب والتداعيات وتأثيرها على الاقتصاد العالمي والعلاقات بين البلدين، نُشر في 11 مارس 2025، مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية.
[8] هل تواجه كندا أزمة اقتصادية بسبب تهديدات ترامب؟، نُشر في 12 يناير 2025، الجزيرة.
[9] هكذا ظهرت اتفاقيات التجارة الحرة بين أميركا وكندا، نُشر في 2 فبراير 2025، العربية.
[10] الفرق بين كندا والولايات المتحدة..5 اختلافات رئيسية بين البلدين، نُشر في 17 فبراير 2025، كندا نيوز 24.
[11] آية حمدي، ما وراء التهديد: هل تنجح القوة الاقتصادية في جعل كندا الولاية الـ51؟، نُشر في 13 يناير 2025، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية.
[12] كندا تلجأ لمنظمة التجارة العالمية بشأن رسوم ترامب حول الصلب والألومنيوم، نُشر في 13 مارس 2025، فرانس 24.
[13] ترامب يضرب كندا برسوم جديدة ويؤكد على مخطط ضمها، نُشر في 11 مارس 2025، سكاي نيوز عربية.
[14] كندا مستعدة لإجراء محادثات مع أمريكا بشأن الخلافات التجارية، نُشر في 8 مارس 2025.
https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/1795745
[15] ترامب: كندا لا تبذل جهودًا كافية لمنع تدفق المواد المخدرة إلى أمريكا، نُشر في 5 مارس 2025.
https://www.argaam.com/ar/article/articledetail/id/1795229
[16] الفنتانيل .. القاتل الصامت يشعل التوتر بين واشنطن وأوتاوا، نُشر في 10 مارس 2025.
https://www.eremnews.com/videos/4g534uv
[17] لماذا أعدت أميركا خطة لغزو كندا بالقرن الماضي؟، نُشر في 26 ديسمبر 2019، العربية.
[18] لماذا يتخلف اقتصاد كندا عن نظيره الأمريكي؟، نُشر في 7 اكتوبر 2024، جريدة البورصة.
[19] ترامب يشعل ضجة بنشره خريطة أمريكا وضم كندا فيها، نُشر في يناير 2025، العربية.
https://arabic.cnn.com/world/article/2025/01/08/trump-canada-map-us-viral-social
[20] رئيسة وزراء ألبرتا تُلوّح بالانفصال عن كندا بسبب قيود الطاقة، نُشر في 6 مايو 2025، الشرق.
[21] ترامب يهدد باستخدام القوة الاقتصادية لضم كندا ولا يستبعد الحل العسكري للسيطرة على قناة بنما وغرينلاند، نُشر في 8 يناير 2025، فرانس 24.
[22] Fact Sheet: President Donald J. Trump Imposes Tariffs on Imports from Canada, Mexico and China, 1 Feb 2025, The White House.
[23] United States-Mexico-Canada Agreement.
https://ustr.gov/trade-agreements/free-trade-agreements/united-states-mexico-canada-agreement
[24] Where U.S.-Canada Relations Go From Here, 12 March 2025, foreign policy.
[25] Canada’s unemployment rate jumps to 6.9% in April as Trump tariffs bite, 9 May 2025, Reuters.
باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب