Cairo

عرض كتاب “أن تكون يهوديًا بعد دمار غزة”.. كتاب لـ “بينارت” يوضح الأزمة الأخلاقية لإسرائيل

قائمة المحتويات

باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب

يستعرض كتاب “أن تكون يهوديًا بعد دمار غزة” “Being Jewish After the Destruction of Gaza: A Reckoning” للكاتب بيتر بينارت، والصادر في طبعته الأولى عام 2025 عن دار النشر الأمريكية الشهيرة Alfred A. Knopf، الأزمة الأخلاقية لإسرائيل في حربها الشرسة الأخيرة ضد قطاع غزة وقتلها آلاف من المدنيين العُزل.

بينارت هو مفكر وصحفي أمريكي من أصل يهودي، ويُعد من أبرز الأصوات الليبرالية المناهضة للصهيونية في الوسط الأكاديمي والإعلامي الأمريكي. وُلد عام 1971، ودرس في جامعة ييل ثم أكمل دراساته العليا في أكسفورد. كتب في أكبر الصحف مثل The Atlantic وThe New York Times، ويعمل أستاذًا في الصحافة والعلوم السياسية بجامعة نيويورك.

كان بينارت في بداياته داعمًا قويًا لإسرائيل، لكنه منذ حرب غزة الأخيرة، بدأ في مراجعة مواقفه جذريًا، إلى أن تحول إلى أبرز المفكرين اليهود الأمريكيين الداعين لفك الارتباط بين الهوية اليهودية والدولة الإسرائيلية. وينتقل بينارت في هذا الكتاب من دور المثقف الناقد إلى المفكر الذي يطرح تصوّرًا فكريًا وأخلاقيًا بديلًا للهوية اليهودية في أعقاب المجازر الإسرائيلية في غزة.

اختطاف اليهودية

 يمكن فهم هذا الكتاب على أنه يمثل لحظة “ما بعد صهيونية” داخل الفكر اليهودي الأمريكي. وقد تجاوز بينارت عتبة الخطاب الليبرالي المؤيد لحل الدولتين، وذهب إلى تفكيك الجذر اللاهوتي والسياسي لفكرة الدولة اليهودية ذاتها. فهو يرى أن تعريف الدولة على أساس ديني-إثني هو إلغاء ضمني للمساواة، وتمهيد دائم للعنف.

ولعل أكثر ما يلفت في هذا الكتاب هو أن الكاتب لا يستند في أطروحته إلى سرديات فلسطينية أو عربية، بل إلى نصوص التوراة، والتلمود، والتراث الأخلاقي اليهودي ذاته. حيث يحاكم الصهيونية بلغة الدين اليهودي، ويُدينها من منطق الانتماء لها، لا من موقع الخصومة معها.

ومن جهة أخرى، فإن هذا النص يأتي في لحظة حرجة من تحول المزاج العالمي تجاه إسرائيل، خاصة بعد مجازر غزة، وتنامي حركات المقاطعة  BDS، وانكشاف الخطاب الإسرائيلي أمام منظمات حقوق الإنسان الدولية. في هذه اللحظة، يُقدم بينارت فكرًا تأسيسيًا يمكن أن يُسهم في بناء تيار يهودي عالمي يعارض الاحتلال، ويطالب بعدالة حقيقية لجميع سكان الأرض الممتدة من النهر إلى البحر.

وعلاوة على ذلك، يمثل الكتاب تحديًا سياسيًا كبيرًا للأنظمة الغربية المتحالفة مع إسرائيل، خصوصًا في أوروبا وأمريكا. فهو يدعو، من قلب المؤسسة الأمريكية، إلى التحرر من الشراكة غير المشروطة مع الاحتلال، وإلى مراجعة التحالف الأخلاقي، وأُعيد تصديره كشرعية دائمة للعنف الإسرائيلي.

كما يعيد تسليط الضوء على مسؤولية المثقفين واليهود الليبراليين في الغرب الذين اختاروا الصمت خوفًا من تهمة الخيانة، أو حبًا بالمؤسسة، أو قناعة بأن الدفاع عن إسرائيل هو آخر حصون الهوية.

إن “Being Jewish After the Destruction of Gaza” ليس فقط وثيقة فكرية، بل إعلان تمرد فلسفي وأخلاقي ضد ما يسميه الكاتب باختطاف اليهودية من قبل الدولة. إنه كتاب يعيد تعريف الانتماء، ويؤسس لنقاش جوهري لا يمكن إغلاقه بعد الآن يدور حول سؤال: هل يمكن أن تكون يهوديًا وتدافع عن نظام فصل عنصري؟.. هل يمكنك أن تعيش في ضوء الذاكرة، بينما تُطفئ ضوء الضمير؟.

بهذه الأسئلة الجذرية، يكون بيتر بينارت قد تجاوز حدود النقد السياسي، ودخل إلى ميدان تأسيس أخلاقي جديد قد يغير مستقبل العلاقة بين اليهودية، وإسرائيل، وفلسطين، والعالم.

الأزمة الأخلاقية لليهود

يعد الكتاب بيانًا أخلاقيًا مكثفًا من داخل الهوية اليهودية ذاتها، ويُخاطب ما يسميه المؤلف بالأزمة الأخلاقية لليهود المعاصرين، بعد أن ارتبطت الهوية اليهودية الغربية بشكل شبه مطلق بالدفاع عن الدولة الإسرائيلية، مهما بلغت وحشيتها. يمتد الكتاب على نحو 154 صفحة، ويتكون من مقدمة تمهيدية وخمسة فصول مركزية، بالإضافة إلى ملاحظات ختامية ومراجع تفصيلية. وعلى الرغم من أن الكتاب موجه لليهود، فإنه يحمل مضامين فكرية عميقة تهم أي باحث في الشأن السياسي والديني والحقوقي في الشرق الأوسط.

قصص العنف اليهودي

ينطلق بينارت في الفصل الأول من تفكيك السردية المركزية في الوعي اليهودي المعاصر، والتي تختزل التاريخ اليهودي في ثلاثية “حاولوا قتلنا، نجونا، فلنأكل”. هذه العبارة التي يتم تكرارها في الاحتفالات الدينية والمناسبات القومية تُشكل جوهر ما يسميه الكاتب بالهوية القائمة على الاضطهاد، ويوضح أن الأعياد اليهودية مثل الفوريم وعيد الفصح أصبحت تُستخدم لتعزيز سردية أن اليهود ضحايا أزليين، مما يُبرر سياساتهم العنيفة بوصفها ردود فعل دفاعية لا هجومية.

المشكلة، من وجهة نظره، ليست في الاحتفال بالنجاة، بل في تجاهل الجانب القمعي الذي يُمارس حين يتحول اليهود من ضحايا إلى قوة تسيطر على شعب آخر، كما في حالة الفلسطينيين. ومن خلال أمثلة من التوراة، يُظهر كيف تم إغفال قصص العنف اليهودي القديم في سرديات اليوم، خصوصًا غزو كنعان وتطهيرها في سفر يشوع، بما يسمح برؤية انتقائية تبرر الاحتلال.

يرى الكاتب أن هذه الطريقة في استدعاء التاريخ تمنع التفكير النقدي في الحاضر. فهي تقدم الإسرائيليين كاستمرارية للضحايا التوراتيين، وتصور الفلسطينيين كأعداء ميثولوجيين دائمين. وهكذا يصبح التاريخ وسيلة لحجب الأخلاق، بدلًا من أن يكون مصدرًا لمحاسبة الذات.

الضحية والجلاد

يعرض بينارت في الفصل الثاني لحظة 7 أكتوبر 2023 التي هاجمت فيها حماس بلدات إسرائيلية قرب غزة، ويعرض شهادات واقعية عن الضحايا الإسرائيليين بطريقة إنسانية مؤثرة. إلا أن هذه السرديات لا تُستخدم لبناء خطاب تعبوي بل لإظهار التناقض الأخلاقي الذي وقع فيه اليهود الأمريكيين، عندما ركزوا فقط على هذه المعاناة، متجاهلين الرد الإسرائيلي الكارثي الذي دمر غزة بالكامل، وينتقد الكاتب الطريقة التي جرى بها تحويل هذه الأحداث إلى “هولوكوست مصغر”، تُستخدم لتبرير كل الأفعال الإسرائيلية بعدها، بما في ذلك قتل آلاف المدنيين الفلسطينيين.

يؤكد بينارت أن الفعل العنيف لا يأتي من فراغ، بل من منظومة اضطهاد مستمرة منذ عقود. ويضرب أمثلة عن أطفال فلسطينيين وُلدوا في الحصار، وتعلموا منذ الصغر أن جيشًا يسيطر على حياتهم من السماء والأرض. في هذا السياق، يُعيد الكاتب صياغة العلاقة بين الضحية والجلاد، رافضًا التبسيط الذي يرى في الفلسطينيين كراهية صافية، وفي الإسرائيليين دفاعًا شرعيًا. هذا الفصل يُعد من أكثر أجزاء الكتاب إنسانية وصدقًا في ملامسة التعقيد المأساوي للنزاع.

طرد ممنهج

يركز بينارت في الفصل الثالث على الطرق التي تتعمد من خلالها المؤسسات اليهودية في أمريكا وإسرائيل إنتاج سردية ناعمة للتاريخ، تُغفل جرائم 1948، وتُحرف واقع الاحتلال الراهن، ويوضح أن المؤسسات مثل AJC وADL  تقدم حكاية عن عودة الشعب اليهودي إلى أرضه، لكنها تتجنب تمامًا الحديث عن التهجير القسري، ويستخدم في ذلك وثائق إسرائيلية وأبحاث مؤرخين إسرائيليين مثل بني موريس لإثبات أن الطرد كان ممنهجًا.

ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يناقش مسألة تعريف إسرائيل كدولة يهودية. فهو يرى أن هذا التعريف بحد ذاته يعني تمييزًا بنيويًا ضد الفلسطينيين، سواء داخل الخط الأخضر أو خارجه، ويجعل من الصهيونية مشروعًا فوقيًا لا ديمقراطيًا. وباستخدام أمثلة من الحياة اليومية، يوضح كيف يُحرم الفلسطينيون من الأرض، والمواطنة الكاملة، والموارد، وكيف أن نظام الحكم الإسرائيلي لا يتيح أي مساواة قانونية حقيقية.

يقدم الفصل نقدًا شديدًا لفكرة حق تقرير المصير اليهودي إذا كان قائمًا على تفوق جماعة إثنية على أخرى. فكما لم يُعترف بحق البيض في حكم السود بجنوب إفريقيا، لا يمكن الاعتراف بشرعية دولة تفرض على غير اليهود نظامًا قانونيًا أدنى.

معاداة السامية الجديدة

يُعالج الفصل الرابع الاتهامات المتكررة التي تُوجه لأي شخص ينتقد إسرائيل، حتى من اليهود أنفسهم، بأنه معادي للسامية. يُبين بينارت أن هذا الاتهام قد تحول من أداة لحماية اليهود من الكراهية العنصرية، إلى أداة لقمع النقد السياسي المشروع. ويعرض في كتابه حالات حقيقية من طلاب جامعات، وأكاديميين، تم اتهامهم باللاسامية فقط لأنهم دافعوا عن الفلسطينيين أو انتقدوا قصف غزة.

يحذر الكاتب من أن هذا الاستخدام المفرط لتهمة اللاسامية يُفرغها من معناها الحقيقي، ويُضعف المعركة ضد الكراهية الحقيقية. كما يرى أن الصهيونية لا يمكن أن تكون مساوية لليهودية، وأن نقد الأولى لا يعني بالضرورة معاداة الثانية، ويدعو إلى استعادة التعريف الأخلاقي لمعنى اليهودية كديانة وقيم، لا كأداة قومية للقمع.

أبناء قورح

يُعد الفصل الخامس الخاتمة الفكرية للكتاب، وفيه يستخدم بينارت الإشارة التوراتية إلى قورح الذي تمرد على سلطة موسى ليُعيد تعريف التمرد اليهودي من الداخل، ويدعو إلى رفض القبول الأعمى بسياسات إسرائيل باعتبارها تمثل اليهودية، ويحث على خلق تيار يهودي بديل، يقف إلى جانب المظلوم، لا القوي.

ويُقدم الكاتب هذا النداء ليس من منطلق خيانة الهوية، بل من عمق انتمائه إليها. بل يرى أن التمرد على الظلم هو وفاء حقيقي لقيم التوراة التي بدأت برفض العبودية. ويختم بنداء أخلاقي عميق، إن لم يتغير اليهود، ولم يراجعوا تحالفهم مع العنف، فإن اليهودية ذاتها ستفقد قدرتها على البقاء كرسالة إنسانية.

معركة مزدوجة

يقدم بيتر بينارت في هذا الكتاب أكثر من مجرد نقد سياسي؛ حيث يكتب نصًا اعترافيًا فكريًا من داخل التجربة اليهودية الحديثة، يخوض فيه معركة مزدوجة ضد الصمت الجماعي للمؤسسات اليهودية في الغرب تجاه الجرائم الإسرائيلية، وضد ضياع البوصلة الأخلاقية التي كانت فيما مضى تُشكل نواة الرسالة اليهودية.

وقد اختار أن يكتب بعد لحظة قاسية، تمثلت في الهجوم الإسرائيلي الشامل على غزة عام 2023، وما تلاه من دمار شامل ومشاهد وصفت بأنها جحيم بشري. لكنه لم يكتب بلغة التحريض العاطفي، بل بلغة التفكر العميق، ومن موقع المسؤولية الأخلاقية لا المعارضة السياسية فقط.

لا يُسقط الكاتب المسؤولية عن الفلسطينيين أو يعفي حماس من النقد، لكنه يصر على وضع العنف الفلسطيني داخل سياقه البنيوي، سياق الحصار، والطرد، والتجريد من الحقوق. وهذا ما يمنح أطروحته توازنًا أخلاقيًا نادرًا، بعيدًا عن النزعة التبريرية لأي طرف.

باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب

عرض كتاب "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية" للباحثين جون ج
WhatsApp Image 2025-08-30 at 16.38
WhatsApp Image 2025-08-30 at 01.53
مخرجات قمة ألاسكا بين ترامب وبوتن
في خضم التحولات الجيوسياسية التي يشهدها الإقليم، يبرز توقيع اتفاق تصدير الغاز بين أذربيجان وسوريا كحدث لافت يعكس إعادة تمركز بعض الفاعلين الإقليميين في مسارات جديدة من التعاون، تتجاوز الحسابات التقليدية للتحالفات والانقسامات.
Scroll to Top