توصف الدبلوماسية على أنها سلوك أو عملية سياسية تستخدمها الدولة في تنفيذ سياستها الخارجية، وفي تعاملها مع الدول والأشخاص الدوليين الآخرين، من أجل إدارة علاقاتها الرسمية عن طريق المفاوضات وباقي الوسائل السلمية لحماية وضمان تحقيق مصالحها. ومن أنواع الدبلوماسية: الدبلوماسية الاقتصادية؛ الدبلوماسية الثقافية والدينية والسياحية، والدبلوماسية العسكرية military\defense diplomacy”” والتي سيتم مناقشتها في هذا المقال. وتجدر الإشارة هنا أن الدبلوماسية العسكرية أو الدفاعية لا تشكل منافسا أو بديلا عن الدبلوماسية الرسمية التي تقوم بتخطيطها وتنفيذها وزارة الخارجية. لكن المقصود من خلال الدبلوماسية العسكرية هو وجود قضايا ومسائل فنية وتقنية لا يمكن البت فيها ومناقشتها بكل تفاصيلها إلا من خلال الكوادر والوسائل العسكرية، ويسير ذلك جنبا إلى جنب في إطار شامل ومتكامل مع مؤسسات الدولة الأخرى ذات الصلة من أجل تنفيذ السياسية الخارجية للدولة.[i]
ولذلك، فالدبلوماسية العسكرية مجال محدد من الدبلوماسية التي تركز في المقام الأول على السعي لتحقيق مصالح السياسة الخارجية للدولة في مجال الأمن عن طريق المفاوضات والوسائل الدبلوماسية الأخرى. وبسبب البيئة الأمنية المعقدة التي أصبحت تشهدها العلاقات الدولية، فإن الدبلوماسية العسكرية أصبحت أحد أهم أشكال أنشطة السياسة الخارجية لمعظم الدول. ولكن السبب في أنها لم تحظ إلا باهتمام قليل نسبيًا وقلة تناولها، يرجع لارتباطها بالأنشطة الاستخباراتية والمواضيع الدفاعية المتخصصة التي تندر فيها المصادر ذات الصلة.[ii]
ماهية الدبلوماسية العسكرية وتاريخها
في القرن التاسع عشر، ركزت الدبلوماسية العسكرية بشكل شبه حصري على القيام بجمع وتحليل البيانات عن القوات المسلحة للدول والوضع الأمني في الدولة المضيفة، والإحاطة بالتهديدات واحتمالات التدخل العسكري، وهذه بعض أهم وظائف الدبلوماسية في تلك الفترات من العلاقات الدولية. وبعد انتهاء الحرب الباردة أصبح المصطلح أكثر استخداما استجابة لمطالب تلك المرحلة بما تتضمن من تحالفات وتعديل العلاقات المشوهة الناجمة عن الممارسات العدائية في الفترات السابقة لانتهاء الحرب وتبديد التوترات. كما أن الدول الغربية كانت تخشى أن تعرقل جيوش أوروبا الشرقية عملية التحول الديمقراطي في هذه البلاد. لذلك، سعى الغرب إلى تعزيز علاقاته مع تلك الجيوش في محاولة لإعادة بناءها بطريقة تحول دون تدخلها لعرقلة التحول الديمقراطي، وذلك من خلال غرس معايير الديمقراطية في العلاقات المدنية – العسكرية. وتمت عملية الاحتواء تلك من خلال تبادل الضباط والبرامج التعليمية وعمليات التدريب.[iii] وهكذا أصبح هناك تصور أوسع لأدوار القوات المسلحة للدول، متجاوزة في ذلك تلك الأطر التقليدية الدفاعية والرادعة، إلى مجال أوسع، وهو توسيع مجالها لترسيخ السلام. وعلى أساس هذا المفهوم تعتبر الدبلوماسية العسكرية هي أحد أشكال الدبلوماسية الذكية smart diplomacy”“، والتي تجمع بين القوة الصلبة“hard power” والتي تمثلها هنا القوة العسكرية والقوة الناعمة soft power”“ والتي تمثلها الدبلوماسية التقليدية.[iv]
وما يميز الدبلوماسية العسكرية هو أن ممثلي الدولة في هذه الحالة يكونون في المقام الأول أفراد القوات المسلحة، إلى جانب الأجهزة الأخرى المسؤولة عن الأمن مثل أجهزة الاستخبارات. وكذلك طبيعة الأنشطة التي تعتمد على استخدام القوة المسلحة بطريقة سلمية أو ما يطلق عليها الأنشطة “اللاعنفية”.[v] حيث يكون الهدف الرئيسي للدبلوماسية العسكرية هو تنفيذ سياسة أمنية تضمن أمن الدولة القومي، وذلك عن طريق إنشاء علاقات دولية مستقرة وطويلة الأمد في مجال الدفاع لضمان استقرار موقع الدولة على الساحة الدولية. وهنا يكمن الفرق بينها وبين دبلوماسية الزوارق الحربية “gunboat diplomacy” أو دبلوماسية الإكراه أو الترهيب “coercive diplomacy” اللتان تعتمدان على التهديد باستخدام القوة أو استخدامها بشكل محدود من أجل تحقيق مصلحة الدولة.[vi]
الأهداف والوسائل
وكما تمت الإشارة سابقا أن الدبلوماسية العسكرية كانت في القرن التاسع عشر تهدف إلى جمع وتحليل البيانات عن القوات المسلحة للدول والوضع الأمني في الدولة المضيفة، من المصادر العامة وأيضا الخاصة. فقد أصبحت كذلك تركز على التقليل من العداء وبناء الثقة وتعزيز التعاون الثنائي ومتعدد الأطراف في مجال العلاقات العسكرية، وكذا حل النزاعات في مراحلها المبكرة، والإعداد لليوم التالي لانتهائها. ويتحقق ذلك عن طريق عدد من الوسائل التي سيتم التطرق لها في الأسطر القادمة.
لتحقيق ما سبق من أهداف، تقوم الدبلوماسية العسكرية بعدد من الوظائف وتستخدم بعض الأدوات والوسائل مثل تعين وقبول الملحقين العسكريين في عواصم الدول من أجل تمثيل الدولة المعتمدة وقواتها المسلحة في الاحتفالات والمناسبات الرسمية وكذا المؤتمرات والندوات ذات الطابع العسكري في الدولة المستقبلة. ويسهل هذا التمثيل المتبادل من مهمة العسكريين في جمع المعلومات ذات الطابع العسكري. كما أنه يساعد في التعاون اللوجيستي والاستخباراتي وتبادل المعلومات بين الدول الحليفة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الدول لا تقوم فقط بإرسال ممثليها إلى مثيلتها من الدول، بل يتم أيضا إرسال ممثلين للمنظمات والمؤتمرات الإقليمية والدولية من أجل تعزيز التعاون في مجال الأمن. ومثال على ذلك، مفاوضات وقف سباق التسلح والحد من انتشار الأسلحة النووية. كما أن اتفاقيات الدفاع والمعاهدات تشكل جوهر تبلور جهود الدبلوماسية العسكرية.
وفي السياق ذاته، تتيح الدبلوماسية العسكرية فتح قنوات اتصال بين القوات المسلحة للدول في العالم بما فيها الدول التي توجد بينها توترات. ويساعد ذلك في تجنب التصعيد وتفاقم الأزمات عن طريق إيجاد أسلوب عملي لحل المشاكل. ويذكرنا ذلك بالخط الساخن الذي استحدث بين واشنطن وموسكو بعد أزمة الصواريخ الكوبية، من أجل تجنب اندلاع حرب نووية تؤدي لفناء البشرية.
ومن الأشكال الأخرى التي تنتهجها الدول في الدبلوماسية العسكرية نجد، تنظيم وتنفيذ التدريبات والمناورات العسكرية الثنائية والمتعددة الأطراف، فضلا عن المعارض الدولية للدفاع والأسلحة. وكذلك نجد الزيارات التي تقوم بها السفن الحربية لموانئ الدول الصديقة. هذا وبالإضافة إلى تقديم خدمات استشارية عسكرية ودورات التدريب والإعداد لعناصر الدول الحليفة والصديقة.
وتعتبر الأكاديميات العسكرية إحدى أهم الركائز التي تشارك في دعم جهود الدبلوماسية العسكرية من خلال تبادل الخبرات العلمية والعملية بين القوات المسلحة للدول المختلفة. ففي إطار الدبلوماسية العسكرية تقوم الدول بتبادل وابتعاث أعداد من أفرادها لصقل مهاراتهم والاطلاع على أحدث ما وصلت له العلوم والتقنيات العسكرية حول العالم.[vii] وتعتبر أكاديميات مثل الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والإستراتيجية في مصر (أكاديمية ناصر العسكرية العليا سابقا)، وأكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية البريطانية، والأكاديمية العسكرية الأمريكية “West Point” من أبرز المنارات في العلوم العسكرية إقليميا وعالميا. [viii]
ومن الوسائل التي يتضح فيها التداخل بين الدبلوماسية العسكرية والدبلوماسية الاقتصادية هي الاتفاقات التجارية المتعلقة بالأسلحة والمعدات العسكرية. كما أن اتفاقيات التصنيع المشترك تعد من أشكال التعاون الأعمق وذو أمد طويل وهو ما يوطد العلاقات بين الدول. ويؤكد هذا التداخل على الاحتياج للجوانب مختلفة من أجل إنفاذ السياسية الخارجية للدولة. وكذلك لا يمكن إغفال بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والمساعدات اللوجستية والعمليات ذات الطابع الإنساني التي تقوم بها الجيوش أثناء الأزمات والكوارث الطبيعية كمظهر من مظاهر الدبلوماسية العسكرية.[ix]
ورغم أن الدبلوماسية العسكرية أو الدفاعية تسعى لتوطيد العلاقات ثنائية ومتعددة الأطراف بين الدول، فهذا لا ينفي أنها تستخدم من قبل بعض الدول لفرض نوع من الهيمنة والتأثير على الساحة الإقليمية والعالمية. فعلى سبيل المثال، تقوم الولايات المتحدة باستخدام الدبلوماسية العسكرية لفرض هيمنتها منذ زمن بعيد ومؤخرا انضمت لها دول أخرى مثل الهند والصين الذين يوظفونها لتوسيع نفوذهم.[x]
ختاما، يمكننا القول إن الغاية الرئيسية للدبلوماسية العسكرية هي تحقيق أهداف السياسة الدفاعية للدولة من خلال وسيلتين رئيستين ألا وهما، جمع المعلومات والبيانات ذات الطابع العسكري عن الدول الأخرى، وتعزيز علاقات الثقة والتعاون من أجل تجنب النزاعات وخفض التصعيد وحل الأزمات في حال وقوعها. وهكذا تصبح القوات المسلحة للدولة أداة سياسية تتجاوز أدوارها القتالية والردع لتكون إحدى أهم أدوات الدبلوماسية الدفاعية. وما أحوجنا اليوم في هذه البيئة الأمنية الدولية المعقدة التي تشهد العديد من الحروب والنزاعات لجهود الدبلوماسية العسكرية.
[i] Pajtinka, E. (2016, 9 20). Military Diplomacy and its Present Functions. Security Dimensions, International and national Studies, p. 4.
[ii] مراد جوابي، الدبلوماسية العسكرية، مجلة المفكر، المجلد/19 العـــدد: 1 (2024)، ص 369-385. https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/131/19/1/249246
[iii] الورفلي، مبروكة إمحمد. “الدبلوماسية العسكرية: الدفاع في وقت السلم”. مجلة البحوث العلمية، مج٣، ع٦، ٢٠١٨. http://search.mandumah.com/Record/1058551
[iv] Ibid
[v] Muniruzzaman, A. N. M. “Defence Diplomacy: a Powerful Tool of Statecraft.” CLAWS Journal, vol. 13, no. 2, 2020, pp. 63-80. https://www.neliti.com/publications/330720/defence-diplomacy-a-powerful-tool-of-statecraft
[vi] Mandel, Robert. “The Effectiveness of Gunboat Diplomacy.” International Studies Quarterly 30, no. 1 (1986): 59–76. https://doi.org/10.2307/2600437.
[vii] الأكاديمية العسكرية للدراسات العليا والإستراتيجية. (n.d.). http://www.nasseracademy.edu.eg/
[viii] Sandhurst, officers and the role of history. (n.d.). National Army Museum. https://www.nam.ac.uk/explore/sandhurst-officers-and-role-history
[ix] الورفلي، مبروكة إمحمد. “الدبلوماسية العسكرية: الدفاع في وقت السلم”. مجلة البحوث العلمية، مج٣، ع٦، ٢٠١٨. http://search.mandumah.com/Record/1058551
[x] الدبلوماسية العسكرية وسيلة الهند لتعزيز حضورها في أفريقيا. الجزيرة نت(2024, July 11). https://www.ajnet.me/politics/2024/7/11/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A8%D9%84%D9%88%D9%85%
باحث علاقات دولية بمركز ترو للدراسات