Cairo

الدبلوماسية دون الوطنية في السياسة  الخارجية الأمريكية

قائمة المحتويات

باحث علاقات دولية بمركز ترو للدراسات

 ظهر في السنوات الأخيرة نوع جديد من الدبلوماسية يعرف بالدبلوماسية دون الوطنية (subnational diplomacy) ‘ والتي تشير إلى مشاركة المدن والحكومات المحلية المختلفة علي مستوي العالم في العلاقات الخارجية على الساحة السياسية الدولية. ويأتي الاهتمام المتزايد بهذا النوع من الدبلوماسية في إطار إدراك الحكومات الوطنية بأهمية ربط الأنشطة المحلية والأهداف التنموية للدولة بالسياسة الخارجية ، بالإضافة إلى التحديات العالمية المعقدة التي نواجهها الآن، مثل التغير المناخي ‘ والتي تتطلب استجابة منسقة من مستويات متعددة من الحكومات1.على سبيل المثال، شهدت دورة الألعاب الأولمبية 2024 تبادلات مكثفة بين مدينتي باريس ولوس أنجلوس لمواجهة التحديات المختلفة بتنسيق الألعاب مع أهداف اتفاقية باريس. كما أكدت الأمم المتحدة من خلال قمة المستقبل التي أجرتها في سبتمبر 2024 على دور المدن والحكومات المحلية كشركاء للأمم المتحدة والحكومات الوطنية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. في هذا السياق ، تعد الولايات المتحدة من أبرز الدول  التي يمكن من خلال سياستها الخارجية ملاحظة فعالية الدبلوماسية دون الوطنية ، وخصوصا في ظل النظام الفيدرالي واللامركزي الذي يمنح حكام الولايات والعمد بعضا من السلطة في إدارة شئونهم الخاصة. ولتحقيق فهم أعمق للدبلوماسية دون الوطنية في السياسة الخارجية، يتتبع هذا المقال آليات عمل هذا النوع من الدبلوماسية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ،لا سيما في السنوات الأخيرة في ظل حكم كل من دونالد ترامب وجو بايدن2.

أولا : السياق التاريخي للدبلوماسية دون الوطنية في النظام الأمريكي  : 

يمكن تتبع تاريخ الدبلوماسية دون الوطنية في السياسة الأمريكية بداية من النصف الثاني للقرن العشرين مع تأسيس المدن الشقيقة الدولية (Sisters and Cities International Platform)  عام 1958 تحت رعاية الرئيس الأمريكي دوايت د.أيزنهاور، والتي مثلت بداية جادة التأسيس لتأسيس هذا النوع من الدبلوماسية في النظام السياسي الأمريكي. بموجب هذه المبادرة، تم  تأسيس آلاف التعاونات بين المدن والمقاطعات الأمريكية مع نظيراتها حول العالم. وفي تلك الفترة، هيمن الطابع الاقتصادي على هذه التعاونات في سبيل تعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية، إلي أن بدأ البعد السياسي يفرض نفسه في السبعينيات3.

في بداية السبعينيات ، بدأ عدد من الولايات داخل الولايات المتحدة الأمريكية يحتج على بعض محاور السياسة الخارجية للحكومة الفيدرالية خصوصا في  قضايا أمريكا الوسطى وأفريقيا. علي سبيل المثال‘ قامت بعض الولايات الأمريكية مثل نيويورك وبنسلفانيا ونيوجيرسي بالاعتراض على دعم الرئيس رونالد ريغان للقوى المناهضة للشيوعية في أمريكا الوسطى ، حيث قامت هذه الولايات بالتعاون مع عدد من القطاعات المختلفة داخل أمريكا الوسطى لجمع المساعدات ومساعدة المهاجرين الفارين من الصراعات باللجوء بشكل آمن داخل الولايات المتحدة. بالإضافة إلي ذلك ، شهدت بعض الولايات الأمريكية في العقود الأخيرة من القرن العشرين تمرير تشريعات تحظر الاستثمار في جنوب أفريقيا احتجاجا على سياسة الفصل العنصري آنذاك4.

 ومع ظهور التحديات العالمية  مثل تغير المناخ في أواخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين ، أصبحت مدن مثل شيكاغو ونيويورك وواشنطن لاعبين رئيسيين في الاقتصاد العالمي ومواجهة التحديات العالمية ، نظرا لأنها مراكز حيوية لرأس المال ،السلع ، والخدمات. وفي ظل هذه التطورات، ظهر ما يعرف بالدبلوماسية الحضرية حيث شكلت المدن حول العالم بالشراكة مع المنظمات الخيرية ومراكز الفكر الأمريكية تحالفات لمواجهة التغير المناخي. وفي هذا الإطار ، ظهرت منصات مثل C40 وشبكة المدن الصامدة (The Resilient Cities Network)  لمشاركة الحوار واستراتيجيات مقاومة التغير المناخي ‘ بالإضافة إلى مساعدة المدن في تعزيز قدرتها على التكيف في مواجهة التغير المناخي5.

وعلاوة على ذلك، تطورت الدبلوماسية دون الوطنية لتصبح محورا أساسيا من محاور السياسة الخارجية الأمريكية مع الصين، تم توقيع عدد من الاتفاقيات الثنائية بين العديد من الولايات والمدن الأمريكية مع نظيراتها الصينية في عهد الرئيس باراك أوباما ؛ وذلك من أجل تعزيز العلاقات التعاونية في عدة مجالات خصوصا فيما يخص مسألة تغير المناخ ‘باعتبار أن  الولايات المتحدة والصين أكثر دولتين مساهمتين في انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري. ويعتبر من أهم ما أسفرت عنه تلك الاتفاقيات هي مبادرة مذكرة التفاهم (MOU initiative) بين ولاية كاليفورنيا واللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح والصينية(NDRC)  في عام 2013 والتي تعد أول اتفاقية من نوعها حيث أبرمت حكومة الصين المركزية لأول مرة اتفاقية مع سلطة غير مركزية6.

ثانيا :الدبلوماسية دون الوطنية عهد الرئيس دونالد ترامب(2017-2020) :

في الفترة الرئاسية الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تصدرت الدبلوماسية دون الوطنية المشهد السياسي الأمريكي، في محاولة لموازنة بعض السياسات الراديكالية التي اتخذها ترامب في ملفات الهجرة، كوفيد-19، والتغير المناخي. في هذا السياق، تحالفت عدة ولايات أمريكية في مواجهة قرارات ترامب، مثل انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ عام 2019، عبر تشكيل تحالف الولايات الأمريكية للمناخ (US Climate Alliance)، الذي سعى لاستكمال الجهود لمواجهة أزمة التغير المناخي في ظل الفراغ السياسي الذي خلفته الحكومة الفيدرالية في هذا الملف7.

وفيما يتعلق بالتقاعس الذي أبدته إدارة ترامب في التعامل مع أزمة كوفيد-19، انضمت مدينة لوس أنجلوس، كعضو مؤسس في مجموعة الضغط Urban20،بهدف  التأثير على مجموعة الـ G20 لاتخاذ سياسات أكثر جدية في مواجهة الجائحة8. وعلاوة على ذلك، في أعقاب قرار ترامب فرض حظر السفر على مواطني بعض الدول ذات الاغلبية المسلمة، قامت عدة ولايات أمريكية بمواجهة هذه السياسة قانونيًا، وهو ما أدى في النهاية إلى رفع الحظر9.

ثالثا:  تطورات الدبلوماسية دون الوطنية في عهد الرئيس جو بايدن :

في أكتوبر 2022 ‘ أسس وزير الخارجية أنتوني بلينكن وحدة الدبلوماسية دون الوطنية (SDU)‘ وعين ممثلا خاصا للدبلوماسية بين المدن الولايات ضمن وزارة الخارجية الأمريكية في سبيل توسيع مشاركة المدن والولايات الأمريكية في السياسة الخارجية لتشمل قضايا السياسة الأساسية‘ وليس فقط الدبلوماسية العامة والتواصل بين الشعوب. في هذا السياق ‘ أكدت إدارة بايدن على أهمية هذا النوع من الدبلوماسية كقناة لتعزيز لتعزيز “السياسة الخارجية من أجل الطبقة الوسطى” التي تركز على احتياجات وأولويات المجتمع الأمريكي. ومنذ تأسيسها ‘ طورت الوحدة مجموعة من الخدمات مثل توفير إحاطات للقادة المحليين حول الموضوعات التي تحتل أولوية السياسة الخارجية الأمريكية مثل  الحرب في أوكرانيا، و التنافس الأمريكي-الصيني، ودور الولايات المتحدة في مؤتمر الأطراف (COP). كما تم إنشاء برنامج لويس للدبلوماسيين المحليين(Lewis Local Diplomats Program ) لتقديم الخبرة الدبلوماسية عن طريق بعث ممثلين دبلوماسيين داخل  إدارات المدن الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك، أنشأت الوحدة جمعية القادة المحليين لمناقشة كيفية مساهمة المدن والحكومات المحلية في الأمن القومي والتنمية الاقتصادية للولايات المتحدة. وفي عام 2024، تم تقديم قانون “تعزيز الدبلوماسية دون الوطنية” في الكونغرس لدعم وظائف الوحدة ومواردها بشكل أكبر1011. ويسعى هذا القانون إلى إلزام وزارة الخارجية الأمريكية بتقديم جميع المساعدات اللازمة للولايات والوحدات المحلية الأخرى للمشاركة في الفعاليات الدولية المختلفة أو حتى استضافتها بما يخدم أهداف ومصالح الحكومة الأمريكية ، بالإضافة إلي إلزام وزير الخارجية بتقديم المنح اللازمة للوحدات المحلية لتنفيذ مشاريع خاصة بالدبلوماسية العامة والدبلوماسية التجارية بما يتفق مع أهداف السياسة الخارجية الأمريكية. (iii)

وعلي الجانب الآخر ‘ سعت إدارة الرئيس بايدن إلى إعادة تفعيل الدبلوماسية  دون الوطنية في العلاقات الأمريكية- الصينية بعد التحديات التي واجهتها خلال فترة الرئيس دونالد ترامب. وفي سبيل ذلك‘ استضافت جمعية الصداقة الصينية للشعوب مع الدول الأجنبية (CPAFFC) ومؤسسة قادة الهيئات التشريعية الحكومية (SLLF) المنتدى الخامس للتعاون بين الهيئات التشريعية دون الوطنية في الصين والولايات المتحدة في 2 مارس 2021، والذي وُصف بأنه “أول نشاط مؤسسي لاستئناف التبادل والتعاون بين البلدين بعد تولي الإدارة الأمريكية الجديدة مهامها”، وكان هذا أول حوار على مستوى وطني يُعقد بين البلدين منذ عامين. وتوفر مثل هذه المنتديات مجالا حيويا لتعزيز علاقات التعاون والتفاهم بين البلدين في ظل وجود علاقات التنافس والصراع على المستوى المركزي12.

 في الوقت نفسه، تسعى بكين للتأثير في السياسة الأمريكية عن طريق الدبلوماسية دون الوطنية حيث تهدف إلى التأثير على الهيئات التشريعية الأمريكية على مستوى الولايات، من خلال دبلوماسيين صينيين يمارسون ضغوطاً ضد القرارات أو القوانين التي تتعارض مع مصالح الصين، عبر تكتيكات مثل الضغط المباشر على المشرعين، خاصة في قضايا مثل تايوان وحقوق الإنسان13.

في الختام ، يمكن القول بأن الدبلوماسية دون الوطنية توفر مجالا حيويا في العلاقات الخارجية الأمريكية يسمح للولايات بأن تملأ الفراغ السياسي الذي تخلفه الحكومة الفيدرالية في بعض الملفات خصوصا في ظل التحديات والصراعات المعقدة التي يشهدها العالم اليوم والتي تتطلب الاستجابة على عدة مستويات. بالإضافة إلى ذلك، تخلق الدبلوماسية  دون الوطنية للنظام الأمريكي مجالات للتعاون والتفاهم بين مع مختلف الحكومات والشعوب حتى في ظل تواجد علاقات الصراع والتنافس على المستوى الفيدرالي مثل العلاقات الأمريكية- الصينية.

وفي خلال فترة الرئيس دونالد ترامب الثانية ‘ من المتوقع أن يتزايد دور الدبلوماسية دون الوطنية في العلاقات الخارجية الأمريكية إذا ما اتخذ سياسات مشابهة لتلك التي اتخذها في الفترة الرئاسية الأولى فيما يخص قضايا التغير المناخي والهجرة. بالإضافة إلى ذلك ، تشهد الفترة الرئاسية الثانية لترامب تحديات غير مسبوقة خاصة فيما يخص وضع الاقتصاد العالمي ، الحرب الروسية- الأوكرانية ، وتصاعد الصراع في الشرق الأوسط مما قد يتطلب إشراك الدبلوماسية دون الوطية كأداة للتعامل مع هذه التعقيدات.

المصادر

1.  . Saifee, Maryum Subnational diplomacy: a national security imperative. (n.d.). https://afsa.org/subnational-diplomacy-national-security-imperative#:~:text=Subnational%20diplomacy%2C%20the%20act%20of,challenges%20of%20the%2021st%20century.

2.  . Max Bouchet, “The Influence of Strategic Subnational Diplomacy in International Relations”,

3.  . Agustí Fernández de Losada,Subnational diplomacy in the United States: a practice that is still expanding.02/2024. CIDOB. https://www.cidob.org/en/publications/subnational-diplomacy-united-states-practice-still-expanding

4.  . Ibid.

5.  . Ibid.

6.  . Leffel, Benjamin. “Subnational diplomacy, climate governance & Californian global leadership.” Center on Public Diplomacy (2018): 1-10.

7.  . Leffel, Benjamin, and Michele Acuto. “City diplomacy in the age of Brexit and Trump.” Public Diplomacy Magazine 18 (2017): 8-14.

8.  . Saifee, Maryum Subnational diplomacy: a national security imperative. (n.d.). https://afsa.org/subnational-diplomacy-national-security-imperative#:~:text=Subnational%20diplomacy%2C%20the%20act%20of,challenges%20of%20the%2021st%20century.

9.  . Leffel, Benjamin, and Michele Acuto. “City diplomacy in the age of Brexit and Trump.” Public Diplomacy Magazine 18 (2017): 8-14.

10.  . Leffel, Benjamin. “Subnational diplomacy, climate governance & Californian global leadership.” Center on Public Diplomacy (2018): 1-10.

11.  . Saifee, Maryum Subnational diplomacy: a national security imperative. (n.d.). https://afsa.org/subnational-diplomacy-national-security-imperative#:~:text=Subnational%20diplomacy%2C%20the%20act%20of,challenges%20of%20the%2021st%20century.

12.  Yan, F. (2022, January 4). China-US Subnational Exchanges Under the Biden Administration. The Diplomat. https://thediplomat.com/2022/01/china-us-subnational-exchanges-under-the-biden-administration/

13.  Ibid.

Iii:  Bill Text: US HB9524 | 2023-2024 | 118th Congress | Introduced. (n.d.). LegiScan. Retrieved November 10, 2024, from https://legiscan.com/US/text/HB9524/2023

Other Resources (not cited directly ) :

  1. Setzer, Joana. “Testing the boundaries of subnational diplomacy: the international climate action of local and regional governments.” Transnational Environmental Law 4, no. 2 (2015): 319-337.
  2. Subnational Diplomacy Unit – United States Department of State. (2024, March 1). United States Department of State. https://www.state.gov/bureaus-offices/under-secretary-for-economic-growth-energy-and-the-environment/the-special-representative-for-subnational-diplomacy/

باحث علاقات دولية بمركز ترو للدراسات

الاستقالات الوزارية في هولندا وتداعياتها على الموقف الأوروبي من إسرائيل
الميتافيزيقا السياسية للسلطة في فلسطين
رؤية جون ميرشايمر لحربي إسرائيل وروسيا ومستقبل النظام الدولي
التكنولوجيا الحيوية كأداة للقوة التنافس السياسي والاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين في سباق الهيمنة العالمية
تأتي الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ أكتوبر2023 لتشكل محطة فارقة في المشهدين السياسي والاقتصادي على المستويين المحلي والإقليمي، لما أفرزته من آثار عميقة تتجاوز الجانب الإنساني إلى إحداث تغييرات ملموسة في المؤشرات الاقتصادية في الاقتصاد الإسرائيلي. فعلى الرغم من استقرار الاقتصاد الإسرائيلي، إلا أن طول أمد الصراع واتساع نطاق العمليات العسكرية، إلى جانب الانعكاسات الأمنية والسياسية، أثر على قطاعات حيوية مثل السياحة، والاستثمار الأجنبي، وحركة الصادرات والواردات، فضلاً عن ارتفاع تكاليف الدفاع وتراجع ثقة الأسواق. ومن ثم، فإن دراسة التداعيات الاقتصادية لهذه الحرب تمثل مدخلاً مهماً لفهم طبيعة التأثيرات قصيرة وطويلة الأمد على الاقتصاد الإسرائيلي، ورصد مدى قدرته على الصمود أو التكيف في ظل هذه التحديات."
Scroll to Top