Cairo

العقيدة النووية الروسية الجديدة: رسالة ردع

قائمة المحتويات

باحث علاقات دولية بمركز ترو للدراسات

أعلن الكرملين في 19 نوفمبر 2024، أن الرئيس فلاديمير بوتين وافق على تحديث للعقيدة النووية الروسية، ويأتي هذا القرار بعد مرور ألف يوم على بدء الحرب الروسية-الأوكرانية، وكذلك بعد إطلاق أوكرانيا لستة صواريخ من منظومة ATACMS الصاروخية طويلة المدى التي سمحت لها الولايات المتحدة باستخدامها لضرب أهداف عسكرية داخل روسيا. وكان آخر تحديث قامت به روسيا لتلك العقيدة في عام 2020، أي قبل اندلاع الحرب. وفي الأشهر الأخيرة شهدت الحرب تصعيداً من قبل الجانبين كان أبرز ملامحه الغزو الأوكراني لمقاطعة كورسك، ووصول قوات من كوريا الشمالية للقتال بجانب الجيش الروسي، علاوة على الهجوم الجوي الروسي الواسع الذي شنته روسيا في 17 نوفمبر 2024، على شبكة الطاقة الأوكرانية قبل بداية الشتاء، والذي وصف بالأعنف منذ أشهر. وفي ضوء ذلك، يتناول هذا المقال تحديث العقيدة النووية الروسية عن طريق تقديم تحليل لأبرز الدلالات والانعكاسات لهذا القرار.[i]

أولاً: مقارنة بين العقيدة النووية الروسية 2020 وعقيدة 2024

ويمكن تعريف العقيدة النووية على أنها الشروط التي تنص عليها سياسة الدولة من أجل استخدام الأسلحة النووية. وكانت العقيدة النووية لروسيا في عام 2020، تحتوي على عدد من الشروط التي يمكن إجمالها في أن روسيا ستلجأ لاستخدام الأسلحة النووية في حال التهديد الوجودي أو استهداف روسيا بسلاح نووي. ونصت أيضا على أنه يمكن استخدام السلاح النووي للردع، بمعنى المبادرة بضربة نووية “استباقية” من دون التعرض لهجوم.

أما العقيدة الجديدة فتم إضفاء عليها طابع هجومي أكثر حيث خُفضت شروط استخدام السلاح النووي من “التهديد الوجودي” إلى “التهديد الخطير لسيادة روسيا وبيلاروسيا”. كما تضمنت العقيدة السماح باستخدام السلاح النووي في حال التعرض لهجوم من دولة غير نووية إذا كانت هذه الدولة مدعومة من دولة نووية. وهو ما يعني أن روسيا ستستخدم السلاح النووي للرد على الدول المعتدية حتى وإن كانت غير نووية.[ii]

ثانياً: الدلالات والانعكاسات للعقيدة النووية الروسية الجديدة

ينطوي هذا التحديث على عدد من الدلالات وأبرزها التوقيت؛ فهذا القرار جاء بعد سماح الولايات المتحدة لأوكرانيا باستخدام صواريخ طويلة المدى لاستهداف العمق الروسي، والتي بالفعل استخدمتها أوكرانيا في استهداف منشأة عسكرية في منطقة بريانسك الحدودية قبل ساعات من إعلان روسيا عن تحديث العقيدة النووية. بالإضافة إلى ذلك، يأتي ذلك القرار قبل فترة وجيزة من دخول ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2025، وهو بمثابة رسالة له ولبقية الحلفاء الأوروبيين بأن روسيا مستعدة لأي تصعيد، خاصة بعد سماح بايدن لأوكرانيا بضرب العمق الروسي ليعقد المشهد أكثر قبل مجيء ترامب.[iii]

وفيما يتعلق بالانعكاسات، فلا شك أن هذا القرار يعتبر تصعيداً غير مسبوق من قبل روسيا، لكنه يتوقف على مدى جدية روسيا في تنفيذ هذه التهديدات؛ فتحذيرات روسيا حول المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا مسألة روتينية تقريباً منذ الفترة التي سبقت الغزو واسع النطاق في فبراير 2022. ومثالاً على ذلك، حذر الكرملين من “مخاطر هائلة” حول تسليم طائرات مقاتلة من طرازF-16 ، و “عواقب وخيمة” لإرسال أنظمة الدفاع الجوي باتريوت، وكذلك من إرسال دبابات غربية إلى أوكرانيا. ولكن يبدو أن تحديث العقيدة النووية يهدف إلى إضافة مستوى جديد من المصداقية إلى التهديدات الروسية بالتصعيد، خاصة وأن الإدارة الجديدة تستعد لتولي السلطة في واشنطن. وحتى وإن لم تستعمل روسيا السلاح النووي ضد أوكرانيا وحلفائها، فنحن إزاء مستوى جديد من التصعيد، فعلى الأقل يمكن لروسيا أن ترد عن طريق ضرب أهداف عسكرية لحلف الناتو بأسلحة تقليدية أو استخدام عملائها في تخريب تلك المنشئات أو منشئات مدنية. بالإضافة إلى استهداف المصالح الغربية في أي مكان بالعالم.[iv] وظهر هذا المستوى الجديد من المصداقية في استخدام روسيا لأول مرة لصاروخ باليستي فرط صوتي متوسط المدى قادر على حمل رؤوس نووية  “MIRV”لضرب إحدى منشآت المجمع العسكري الصناعي في أوكرانيا البارحة، 21 نوفمبر 2024، ليعلق الكرملين بأن الرسالة “كانت شاملة وواضحة ومنطقية”.[v]

وما يزيد من خطورة ذلك التطور غير المسبوق هو مشاركة كوريا الشمالية في الحرب إلى جانب روسيا وهي كذلك دولة نووية، لذا؛ إذا شهدت الحرب مزيداً من التصعيد فمن الممكن أن تتحول إلى حرب عالمية ثالثة، ولكنها هذه المرة ستكون حرباً نووية وليست تقليدية.[vi] ومن المرجح أن يكون أطراف هذه الحرب دول نووية أخرى خارج حلف الناتو كالصين، فضلاً عن إيران وإسرائيل اللتان شهدت العلاقة بينهم تصعيداً غير مسبوق خصوصاً بعد الهجوم الإسرائيلي الأخير على بعض المنشآت النووية الإيرانية وإن كانت بعضها خارج الخدمة.[vii] ولكن استخدام السلاح النووي دائماً ما يدخل في إطار رسائل الردع بسبب تداعيات استخدامه التي لن تعود على أية طرف بالنفع.

ومع استلام ترامب للسلطة ستكون دول حلف الناتو في موقف أصعب بعد تحديث هذه العقيدة؛ فترامب معروف بمواقفه تجاه الناتو التي تثير مخاوف لدى بعض الدول الأعضاء. فمن الواضح أن روسيا بعد موافقة الولايات المتحدة على ضرب العمق الروسي أصبحت تعتبر الدول الداعمة لأوكرانيا أهدافاً مشروعة، ومن المتوقع أن تكون الدول الأوروبية في مقدمة الدول المعرضة لأي رد روسي محتمل.

يأتي كذلك تحديث العقيدة النووية في ظل انقسام بين دول حلف الناتو حول قرار الولايات المتحدة بالسماح لأوكرانيا باستهداف العمق الروسي؛ وهو ما يجعل الحلف أكثر انقساماً في مواجهة أية خطوات تصعيدية قد تتخذها روسيا. ومن مظاهر هذا الانقسام هو التأييد البريطاني لقرار الولايات المتحدة وهو ما ظهر من خلال استخدام أوكرانيا في 20 نوفمبر 2024، لصواريخ Storm Shadow”” البريطانية لضرب أهداف داخل روسيا.[viii] وعلى الجانب الأخر، أجرى المستشار الألماني اتصالاً هاتفياً ببوتين في 15 نوفمبر 2024، وهو أول اتصال بينهم منذ عامين من أجل حثه على إنهاء الحرب. وتعكس هذه المواقف المغايرة الانقسامات بين دول أوروبا والولايات المتحدة من جهة، ومن الجهة الأخرى بين الدول الأوروبية وبعضها البعض.[ix]

ختاماً، يحمل هذا التصعيد المتبادل رسالة مزدوجة؛ فمن جانب يعد ضغطاً من قبل كل طرف لإرغام الآخر على الدخول في تسوية، ومن الجانب الآخر يمكن اعتباره رسالة مفادها أن كلاهما مستعد لمجابهة التصعيد دفاعاً عن مصالحه. وبسبب هذا المشهد المعقد وغير المسبوق، وفي ظل استعداد الغرب للتصعيد بقيادة بايدن في الفترة المقبلة؛ قرر بوتين تحديث العقيدة النووية من أجل ردع الغرب وجعلهم يدركون “حتمية الرد الروسي” على أي هجوم يستهدفها أو يستهدف حلفائها والذي يمكن أن يدفعها لاستخدام الأسلحة النووية التكتيكية. ويظل الخيار النووي هو الخيار الصعب والملاذ الأخير؛ فالحرب النووية لا فائز فيها وكل الأطراف فيها خاسرة.


[i]  Anna Chernova, Nathan Hodge, Christian Edwards and Clare Sebastian,” Putin fine-tunes Russia’s nuclear doctrine after Biden’s arms decision on Ukraine, in clear signal to West,” CNN,  November 19, 2024. https://edition.cnn.com/2024/11/19/europe/putin-russia-update-nuclear-doctrine-ukraine-intl/index.html

[ii] Anton Troianovski, “Putin Lowers Russia’s Threshold for Using Nuclear Arms,” The New York Times, November 19, 2024. https://www.nytimes.com/2024/11/19/world/europe/putin-russia-nuclear-weapons-missiles.html

[iii] Kerry Breen, “When will Trump take office as president? Here’s when he’ll officially be sworn in,” CBS News, November 7, 2024. https://www.cbsnews.com/news/when-will-trump-be-sworn-in-2024-election/

[iv] Anton Troianovski, “Putin Lowers Russia’s Threshold for Using Nuclear Arms,” The New York Times, November 19, 2024. https://www.nytimes.com/2024/11/19/world/europe/putin-russia-nuclear-weapons-missiles.html

[v]  “الكرملين: أمريكا “فهمت” رسالة بوتين عبر الصاروخ أوريشنيك،” القاهرة الإخبارية، 22 نوفمبر 2024. الكرملين: أمريكا “فهمت” رسالة بوتين عبر الصاروخ أوريشنيك | القاهرة الاخبارية

[vi] إيليا أبيشيف، “ماذا يستعين بوتين بجنود من كوريا الشمالية وكيف يستفيد منهم في حرب أوكرانيا؟” BBC، 13 نوفمبر 2024. https://www.bbc.com/arabic/articles/c8dmygq24rro

[vii] Barak Ravid, “Scoop: Israel destroyed active nuclear weapons research facility in Iran, officials say,” Axios, November 15, 2024. https://www.axios.com/2024/11/15/iran-israel-destroyed-active-nuclear-weapons-research-facility

[viii] Anastasiia Malenko, Tom Balmforth and Max Hunder, “Ukraine fires UK Storm Shadow cruise missiles into Russia, a day after using US ATACMS,” Reuters, November 20, 2024. https://www.reuters.com/world/europe/ukraine-fires-uk-storm-shadow-cruise-missiles-into-russia-day-after-using-us-2024-11-20/

[ix]  Elena Giordano and Nicholas Vinocur, “Really strange strategy’: Senior European officials facepalm over Scholz’s Putin call,” Politico, November 18, 2024. https://www.politico.eu/article/senior-european-officials-facepalm-olaf-scholz-vladimir-putin-call-russia-ukraine-war-gabrielius-landsbergis-josep-borrell/

باحث علاقات دولية بمركز ترو للدراسات

الاستقالات الوزارية في هولندا وتداعياتها على الموقف الأوروبي من إسرائيل
الميتافيزيقا السياسية للسلطة في فلسطين
رؤية جون ميرشايمر لحربي إسرائيل وروسيا ومستقبل النظام الدولي
التكنولوجيا الحيوية كأداة للقوة التنافس السياسي والاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين في سباق الهيمنة العالمية
مخرجات قمة ألاسكا بين ترامب وبوتن
Scroll to Top