Cairo

الولايات المتحدة واليابان: تطور استراتيجيات الأمن السيبراني في ظل التهديدات

قائمة المحتويات

باحث العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات

مقدمة:

مع تزايد الاهتمام العالمي بالفضاء السيبراني، أصبحت الهجمات الإلكترونية تمثل تهديداً كبيراً  للأمن القومي للدول، خاصة على البنية التحتية الحيوية مثل الكهرباء، المياه، النقل، والاتصالات والتي تشكل خطرًا بالغًا على استقرار الدول وأمنها. هذه الهجمات قد تستهدف أنظمة التحكم، مما يؤدي إلى تعطيل الخدمات الأساسية أو سرقة البيانات الحساسة مما يؤثر على الشركات والأفراد.

لذلك، أصبح الأمن السيبراني ركناً  أساسيًا من السياسات القومية للدول لحماية المعلومات والشبكات من الهجمات الإلكترونية التي قد تكون مدمرة، حيث يشمل مجموعة من التدابير الوقائية والتقنيات التي تضمن سلامة البيانات والأنظمة ضد التسلل أو التعديل أو التدمير من قبل المهاجمين. تسعى الدول من خلال هذه الإجراءات إلى بناء بيئة إلكترونية آمنة ومستقرة تضمن حماية مصالحها وتعزز من قدرتها على مواجهة التهديدات الرقمية المتزايدة.

في هذا السياق، تعرضت اليابان على مر السنوات للعديد من الهجمات السيبرانية ،مما جعلها تدرك أهمية تعزيز أمنها السيبراني في ظل تهديدات متزايدة من دول مثل كوريا الشمالية والصين. على سبيل المثال، في النصف الأول من عام 2022، سجلت وكالة الشرطة الوطنية اليابانية نحو 7,800 هجوم سيبراني من دول أجنبية. كما تعرضت اليابان لعدة هجمات على شركاتها ومؤسساتها الحكومية، مثل الهجمات التي استهدفت شركة “طوكيو إلكتريك باور” وحكومات محلية في أوساكا، آيتشي، وكوماموتو، وغيرها. بالإضافة إلى خسائر كبيرة في مجال العملات المشفرة بلغت 720 مليون دولار في هجمات مرتبطة بكوريا الشمالية، ما يمثل 30% من إجمالي الخسائر العالمية في هذا المجال.

دفعت هذه التحديات الحكومة اليابانية إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الأمنية السيبرانية. لذلك، بدأت اليابان في تعزيز التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الأمن السيبراني، حيث تبادلت الدولتان المعلومات والخبرات لتطوير القدرات الدفاعية اليابانية في مواجهة هذه التهديدات المتزايدة.

اولاً: استراتيجيات الأمن السيبراني الوطنية للبلدين:

اليابان:

شهدت اليابان تحولًا تدريجيًا نحو دمج الفضاء في سياساتها الأمنية مع بداية القرن الحادي والعشرين، مدفوعة بالتطورات الإقليمية والدولية. أحد أبرز الأحداث التي أثرت في هذا التحول كان أختبار الصين في عام 2007 لصواريخ مضادة للأقمار الصناعية(ASAT)، والذي أدى إلى تدمير قمر صناعي وإطلاق آلاف القطع من الحطام في المدار الأرضي المنخفض (LEO). أثار هذا الحادث مخاوف عالمية بشأن سلامة استخدام الفضاء، وكانت اليابان من أوائل الدول التي أدانت هذا التصرف، إلى جانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تبعتها إدانات من دول أخرى، وهو ما أثار نقاشًا داخلياً حول ضرورة تعزيز سياسة اليابان الأمنية لدمج الفضاء في خططها الأمنية لمواجهة المخاطر المتزايدة.

في عام 2008، اتخذت اليابان خطوة مفصلية في سياستها الفضائية، حيث أقر البرلمان الياباني قانون الفضاء الأساسي الذي يُعد أول وثيقة شاملة تحدد أهداف سياسة الفضاء اليابانية، مشيرًا بوضوح إلى أن الأمن القومي يجب أن يكون هدفًا رئيسيًا لأنشطة الفضاء، مما يمثل تغييراً جذرياً عن السياسة السابقة التي اقتصرت على استخدام الفضاء للأغراض السلمية وغير العسكرية فقط. هذا القرار عكس رؤية جديدة في نهج اليابان تجاه الفضاء، حيث أصبح المجال جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية الدفاعية للدولة. ومع استمرار تطور سياسات الفضاء اليابانية، أصدرت الحكومة في يناير 2013 النسخة الثانية من الخطة الأساسية للسياسة الفضائية. استجابت هذه الخطة للتغيرات السريعة في مجال الفضاء العالمي، ووضعت إطارًا للأنشطة التي ستقودها الحكومة، مما يعكس التزاو اليابان بتطوير قدرتها الفضائية لضمان أمنها القومي.

في يناير 2015، أطلقت اليابان النسخة الثالثة من استراتيجيتها الفضائية الوطنية والتي تُعد هي بمثابة تأكيد على أهمية الفضاء في سياستها الدفاعية والاقتصادية. في هذه المرحلة، طلب البرلمان الياباني اعتماد قانونين أساسيين في مجال الأنشطة الفضائية، وهما “قانون الأنشطة الفضائية (SAA)” و”قانون بيانات الاستشعار عن بعد”. بهدف تنظيم النشاط الفضائي وضمان الاستخدام السلمي والمستدام للمجال الفضائي، وهو ما يعكس تحولاً في توجهات الحكومة اليابانية نحو دعم الصناعة الفضائية الوطنية.

ومع مرور الوقت، أعادت اليابان في يونيو 2020 تقييم دور الفضاء في استراتيجياتها الأمنية والعسكرية. حيث أصدرت الحكومة اليابانية “خطة الفضاء الأساسية الرابعة”، تناولت هذه الوثيقة تحديات التوسع في استخدام الفضاء، مؤكدة أهمية تطوير الأصول الفضائية باعتبارها أحد الركائز الأساسية لتعزيز الأمن القومي الياباني. لأول مرة، تضمنت الخطة مناقشة التهديدات المحتملة التي قد تؤثر على الاستخدام المستدام للفضاء، كالهجمات الفضائية أو الاضطرابات التي قد تحدث بسبب تدخلات خارجية. كما أكدت الخطة على ضرورة تعزيز قدرة اليابان في تطوير واستخدام الأنظمة الفضائية الدفاعية، مع التركيز على أهمية هذه الأنظمة في تعزيز قوة الردع اليابانية في مواجهة التهديدات العسكرية من القوى الكبرى مثل الصين وكوريا الشمالية.

في ديسمبر 2022، شهدت اليابان تحولاً كبيراً في موقفها من السياسة الدفاعية والفضائية بإصدار ثلاث وثائق استراتيجية رئيسية: “استراتيجية الأمن القومي اليابانية”، و”استراتيجية الدفاع الوطني”، و”برنامج بناء الدفاع” أكدت هذه الوثائق أن الفضاء عنصر حيوي لضمان الأمن القومي مشددة علي أهمية دمج الأنظمة الفضائية في الدفاع الوطني.

في إطار ذلك، أصدرت اليابان خطتها الأساسية الخامسة بشأن سياسة الفضاء، والتي مثلت خطوة جديدة في تطور استراتيجيتها الفضائية، مركزة على الاستخدام المتسارع للفضاء لتحقيق أهداف الأمن القومي والاقتصادي. أدركت اليابان أهن الفضاء أصبح ساحة لا غنى عنها للتنافس الدولي، كوسيلة أساسية لتعزيز القدرات الدفاعية ودعم الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. ولهذا، ركزت الخطة على أهمية تطوير الأصول الفضائية بما يخدم الأمن القومي بشكل مباشر، خاصة في ظل الاعتماد المتزايد للجيوش والحكومات على الأنظمة الفضائية في العمليات الدفاعية والمراقبة والاتصالات.

الخطة لم تتوقف عند الجانب الأمني فقط، بل سلطت الضوء علي دور الأنشطة الفضائية في دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية. أصبحت الأنظمة الفضائية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، بدءًا من تحسين شبكات الاتصال ونقل البيانات، وصولًا إلى دعم أنظمة الملاحة الحديثة وجمع البيانات البيئية والزراعية. هذه الأنشطة لا تسهم فقط في تحسين جودة الحياة، بل تلعب دورًا أساسيًا في مواجهة التحديات العالمية مثل التغير المناخي وإدارة الموارد الطبيعية، الذي يعكس رؤية شاملة لاستخدام الفضاء كركيزة أساسية لتحسين جودة الحياة وتعزيز الاستدمة.

تتميز الخطة الخامسة بإبراز مفهوم “التحول الفضائي” الذي يعكس واقعًا جديدًا في عالم الفضاء. حيث أصبح الوصول إلى الفضاء أكثر ديمقراطية مع دخول الشركات الخاصة والمبادرات الصغيرة إلى هذا المجال الذي كان يُعتبر حكرًا على الدول الكبرى والمشاريع الحكومية الضخمة. هذا التحول أدى إلى فتح آفاق جديدة للتعاون بين القطاعين الحكومي والخاص، مما عزز من سرعة الابتكار وخفض التكاليف، وفتح المجال لليابان فرصة لتوسيع استثماراتها الفضائية.

لتنفيذ هذه الرؤية، أطلقت اليابان في نفس العام 2022 مبادرة أمن الفضاء، التي تهدف إلى وضع خطط واضحة لتطوير أنظمة فضائية متقدمة تخدم الأمن القومي. تشمل هذه الخطط تصميم بنية تحتية متطورة للاتصالات الفضائية والمراقبة، إلى جانب التعامل مع التهديدات المحتملة مثل الهجمات السيبرانية أو المخاطر الناتجة عن الحطام الفضائي. تعكس هذه المبادرة مدي إلتزام اليابان بالاستعداد الكامل لحماية مصالحها في الفضاء وضمان استخدامها بشكل مستدام وآمن.

في عام 2024، أصدرت اليابان استراتيجية شاملة لتكنولوجيا الفضاء، تسعى من خلالها إلى وضع إطاراً تنفيذياً لتطوير القطاعات المختلفة المتعلقة بالأنشطة الفضائية، سواء المدنية أو العسكرية. تمثل هذه الاستراتيجية خطوة جديدة نحو تعزيز موقع اليابان كلاعب رئيسي في مجال الفضاء، حيث تركز على مجالات متعددة تشمل الأقمار الاصطناعية، علوم الفضاء والاستكشاف، النقل الفضائي، والتقنيات متعددة الاستخدامات. وتهدف هذه الجهود إلى مواكبة التطورات العالمية وضمان تفوق اليابان في هذا المجال الحيوي.

أحد محاور الاستراتيجية الرئيسية هي إعطاء الأولوية لتخفيف المخاطر المرتبطة بسلسلة التوريد التي تؤثر على القدرات اليابانية في تكنولوجيا الفضاء. حيث تسعي اليابان، مثل العديد من الدول، إلي تقليل الاعتماد على الموردين الخارجيين في مجالات حساسة من خلال الاعتماد علي تعزيز الإنتاج المحلي، ودعم الصناعات الوطنية لتكون قادرة على توفير المكونات والأنظمة اللازمة بشكل مستقل. هذا التوجه لا يعزز فقط قدرة اليابان على الابتكار، بل يربط صناعة الفضاء اليابانية بشكل مباشر بالأمن القومي، مما يجعلها أكثر استعدادًا للتعامل مع التهديدات العالمية بشكل مستقل و فعال.

الولايات المتحدة:

بدأت الولايات المتحدة في إيلاء اهتمام كبير لأمن الفضاء السيبراني منذ أكثر من عقدين، حيث أصبح من الواضح أن هناك تهديدات متزايدة تؤثر على الأمن القومي في هذا المجال. في البداية، كان التركيز على تحديد نقاط الضعف التي قد تعرض البنية التحتية الرقمية للهجمات، ومن ثم البحث عن سبل لتقليص هذه المخاطر، سواء عبر تحسين الدفاعات السيبرانية أو تطوير استراتيجيات ردع فعّالة ضد الهجمات السيبرانية.

في الوقت نفسه، بدأت الولايات المتحدة في تطوير واستخدام العمليات السيبرانية الهجومية لأغراض عسكرية بشكل سري، بهدف تعطيل أو تدمير الشبكات والأنظمة الإلكترونية المعادية أو المساهمة في استخلاص المعلومات عبر الهجمات الإلكترونية التي تستهدف البنية التحتية للأعداء، سواء كانت حكومية أو عسكرية.

بالتزامن مع الانتشار السريع للإنترنت في تسعينيات القرن الماضي وأوائل الألفية، بدأت الولايات المتحدة تدرك أهمية الأمن السيبراني في ظل الاعتماد المتزايد في المؤسسات الحكومية والخاصة عليه في إدارة العمليات اليومية. في تلك الفترة، كانت الهجمات الإلكترونية تُعتبر تهديداً محدوداً، لكنها أظهرت بوادر تهديد كبير قد يؤثر على الاقتصاد والأمن القومي. في هذا السياق، عززت هذه التحديات دور وكالة الأمن القومي (NSA) في حماية البنية التحتية الرقمية وتطوير تقنيات وبرمجيات دفاعية تهدف إلى التصدي للتحديات الإلكترونية التي بدأت في الظهور.

شكلت هجمات 11 سبتمبر2001 نقطة تحول كبيرة في مفهوم الولايات المتحدة عن الأمن القومي حيث كشفت تلك الهجمات أن التهديدات لم تعد مقتصرة على الجوانب التقليدية مثل الإرهاب والهجمات العسكرية، بل تشمل أيضًا التهديدات التي قد تُشن عبر الإنترنت. نتيجة لذلك، أدركت الحكومة أن حماية البنية التحتية الرقمية أصبحت جزءًا أساسياً من الأمن القومي. وفي عام 2002، تم إنشاء وزارة الأمن الداخلي (DHS)، لتكون من أبرز مسؤوليتها تعزيز قدرات الدولة على حماية البنية التحتية الحيوية، مثل شبكات الطاقة، الاتصالات، والمرافق المالية، من الهجمات الإلكترونية.

بحلول عام 2003، وضعت الحكومة الأمريكية إطاراً استراتيجياً لحماية البنية التحتية الحيوية من مختلف التهديدات، بما في ذلك الهجمات السيبرانية. أصدرت الحكومة استراتيجية حماية البنية التحتية الحيوية، التي تضمنت لأول مرة مكونات مخصصة للأمن السيبراني. ركزت هذه الاستراتيجية على ضرورة تطوير أنظمة دفاع قوية، وتعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص لضمان حماية البيانات والشبكات من الاختراقات، بالإضافة إلى بناء قدرة استجابة سريعة لأي تهديد إلكتروني محتمل.

في نفس العام، أطلقت الولايات المتحدة أول استراتيجية وطنية للأمن السيبراني، وهي خطوة محورية جاءت استجابة للاعتماد المتزايد على التكنولوجيا الرقمية وتفاقم التهديدات السيبرانية التي تستهدف البنية التحتية الحيوية للدولة. هذا التحرك كان مدفوعًا بضرورة حماية الأنظمة الرقمية التي أصبحت تشكل عصب الاقتصاد الوطني وأساسًا للخدمات الحيوية مثل الطاقة، النقل، والرعاية الصحية.

مع بداية عهد إدارة الرئيس باراك أوباما في عام 2009، أصبحت التهديدات السيبرانية في صدارة الأولويات الأمنية للولايات المتحدة. أعلن أوباما أن الهجمات الإلكترونية تُعد من أخطر التحديات التي تواجه الأمن القومي الأمريكي، مما دفع إدارته إلى تبني نهج شامل ومنظم لمعالجة هذه القضية.

في إطار هذا النهج، تم إنشاء المكتب الوطني للأمن السيبراني داخل البيت الأبيض لتنسيق الجهود بين الوكالات الحكومية المختلفة. هذا المكتب كان مسؤولاً عن تطوير سياسات الأمن السيبراني الوطنية، تعزيز حماية الأنظمة الحكومية، وضمان استجابة موحدة وفعّالة للهجمات السيبرانية. كما ساعد في تحسين التعاون بين القطاعين العام والخاص، خاصة في ظل تزايد تعرض الشركات الكبرى لهجمات إلكترونية معقدة.

وفي عام 2011، أطلقت إدارة أوباما استراتيجية الأمن السيبراني الدولية، التي كانت تهدف إلى توسيع نطاق التعاون الدولي في هذا المجال. هذه الاستراتيجية سعت إلى بناء شراكات مع الدول الحليفة لمواجهة التهديدات الإلكترونية العابرة للحدود، وتطوير معايير دولية للأمن السيبراني، وتعزيز تبادل المعلومات حول التهديدات الناشئة. كما ركزت على أهمية احترام حقوق الإنسان والخصوصية في سياق الأمن السيبراني، مما يعكس التوازن الذي حاولت الإدارة تحقيقه بين الأمن والحريات المدنية.

مع تولي إدارة الرئيس جو بايدن في 2021، أصبحت الهجمات الإلكترونية أولويات الأمن القومي الأمريكي، خاصة بعد الهجمات البارزة مثل اختراق SolarWinds وهجوم Colonial Pipeline. كشفت هذه الهجمات نقاط الضعف في البنية التحتية الرقمية للولايات المتحدة، وأكدت على الحاجة الملحة إلى تعزيز قدرات الدفاع السيبراني. حيث أظهر اختراق SolarWinds، الذي استهدف عدة وكالات حكومية وشركات خاصة، أظهر مدى تعقيد التهديدات السيبرانية التي يمكن أن تنفذها جهات مدعومة من دول. بينما تسبب هجوم Colonial Pipeline، في أزمة إمداد الوقود للساحل الشرقي، مسببًا أزمات اقتصادية واجتماعية عميقة.

أستجابة لهذه التحديات، أطلقت إدارة بايدن الأمر التنفيذي للأمن السيبراني في مايو 2021، وهو خطة شاملة تهدف إلى تحسين مرونة النظام السيبراني الأمريكي. ركزت الخطة على تعزيز الأنظمة الحكومية عبر تبني تقنيات أمان متقدمة مثل التشفير القوي ونظام المصادقة متعددة العوامل، مما يعزز حماية البيانات الحساسة. كما تضمنت الخطة بناء شراكة أقوى بين الحكومة والقطاع الخاص، حيث إن الشركات الكبرى تمتلك وتدير جزءًا كبيرًا من البنية التحتية الحيوية للبلاد.

في مارس 2023، أصدرت إدارة الرئيس جو بايدن النسخة المحدثة من الاستراتيجية الأمريكية للأمن السيبراني، والتي جاءت استجابة لتزايد الهجمات الإلكترونية المعقدة وتأثيرها على الأمن القومي والاقتصاد والبنية التحتية الحيوية. هذه الاستراتيجية عكست تحولًا نوعيًا في التعامل مع التهديدات السيبرانية، حيث ركزت على تحسين الدفاعات الرقمية وتعزيز التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص، مع التركيز على الردع والمساءلة.

أحد الركائز الأساسية للاستراتيجية الجديدة كان تحميل الجهات الفاعلة المسؤولية عن الهجمات السيبرانية، بما في ذلك الدول الداعمة للهجمات الإلكترونية مثل روسيا والصين. تضمنت الخطة زيادة الضغط على هذه الدول من خلال العقوبات الاقتصادية و الدبلوماسية، إلى جانب تطوير قدرات هجومية دفاعية لضمان الردع الفعال. هذا النهج الاستباقي عكس رؤية الإدارة بأن الردع الفعال يجب أن يكون جزءًا من الدفاع السيبراني.

أما على الصعيد الدولي، فقد أكدت الاستراتيجية الأمريكية الأمن السيبراني 2023 علي أهمية التعاون الدولي لمواجهة التهديدات السيبرانية المتزايدة. دعت الاستراتيجية إلي وضع قواعد سلوك دولية لتنظيم الفضاء السيبراني ومنع استخدامه كأداة للعدوان. كما سعت إلى إنشاء تحالفات تقنية تعزز تبادل المعلومات وتطوير أدوات متقدمة لمكافحة الهجمات الإلكترونية.

انعكست هذه الجهود في الاستراتيجية المحدّثة التي اعتمدت نهجاً شاملاً يتجاوز الدفاع التقليدي ليشمل الردع الفعّال، الابتكار المستمر، والتعاون الدولي. هذه الاستراتيجية تمثل خطوة محورية نحو تحقيق الأمن الرقمي في عالم يعتمد بشكل متزايد على التكنولوجيا والاتصال.

 ثانيا: العلاقات اليابانية-الأمريكية في مجال الأمن السيبراني

تتمتع الولايات المتحدة واليابان بعلاقة تعاون طويلة الأمد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مبنية على التحالف الأمني الأمريكي-الياباني. يضمن هذا التحالف حماية أمن اليابان من التهديدات الخارجية، بالإضافة إلي التعاون بين البلدين في مجالات متعددة، من بينها الأمن السيبراني.

تعكس الشراكة في مجال الأمن السيبراني بين الولايات المتحدة واليابان القيم المشتركة المتمثلة في أهمية الحرية والانفتاح، خاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. من خلال هذه الشراكة يسعى الطرفان إلي مواجهة التحديات الإلكترونية المعقدة مما يجعل الشراكة في الأمن السيبراني أكثر قوة وتأثيرًا.

بدأت مناقشات الأمن السيبراني بين الولايات المتحدة واليابان في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حيث بدأت الهجمات السيبرانية بالازدياد على مستوى العالم. دفعت هذه التهديدات المتصاعدة كلا البلدين إلى إدراك أهمية حماية البنية التحتية الحيوية، خاصة مع الاعتماد المتزايد على الشبكات الرقمية في مجالات الدفاع والاقتصاد. وفي هذا السياق، أُدرج الأمن السيبراني كجزء من الحوارات الأمنية العامة بين البلدين، مما وضع الأساس لتعزيز التعاون في هذا المجال.

مع مرور الوقت، تطورت هذه المناقشات إلى مستوى ثنائي أكثر تركيزًا. ففي عام 2013، أنشأت الولايات المتحدة واليابان أول حوار رسمي مخصص للأمن السيبراني. كان الهدف من هذا الحوار مناقشة حماية البنية التحتية الحيوية، وتبادل المعلومات حول التهديدات السيبرانية، والتعاون في التحقيقات المرتبطة بالهجمات الإلكترونية. ورغم أهمية هذه الخطوة، لم تكن هناك اتفاقات ملموسة بين البلدين حتى تلك المرحلة، حيث اقتصرت الجهود على تعزيز التفاهم المشترك دون التزامات محددة.

جاء التحول الأكبر في عام 2015، عندما تم إدراج الأمن السيبراني رسميًا ضمن المبادئ التوجيهية للتحالف الدفاعي بين اليابان والولايات المتحدة. كان هذا الإدراج نقطة تحول، حيث اصبح الأمن السيبراني جزءًا لا يتجزأ من التعاون الدفاعي الشامل بين البلدين. ويعني ذلك أن أي تهديد سيبراني كبير يستهدف أحد البلدين يمكن اعتباره تهديدًا مشتركًا يتطلب استجابة منسقة. هذا التطور عزز تبادل المعلومات بين المؤسسات العسكرية والأمنية للبلدين، ووضع أسسًا أكثر وضوحًا للتعاون الدفاعي السيبراني.

أتت نتائج هذا التعاون الثنائي بإصدار بيان مشترك حول الأمن السيبراني خلال اجتماع اللجنة الأمنية الثنائية (“2+2”). اتفق الطرفان في هذا البيان على مواجهة التهديدات السيبرانية المتزايدة من خلال تعزيز تبادل المعلومات حول الهجمات السيبرانية، وتطوير خطط دفاعية مشتركة، وحماية البنية التحتية الحيوية لكلا البلدين. كما ركز البيان على بناء القدرات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مما يُبرز الأهمية الاستراتيجية للتعاون السيبراني في تعزيز الأمن الإقليمي والعالمي.

ركز هذا البيان على تعزيز التعاون في التصدي للتهديدات السيبرانية، ووضع آليات لتحسين أمان البنية التحتية الرقمية في كلا البلدين. كما وُقّعت مذكرة تفاهم بين وزارة الاقتصاد والتجارة والصناعة اليابانية ووزارة الأمن الداخلي الأمريكية، تهدف إلى زيادة التعاون التشغيلي، وتعزيز أمن أنظمة التحكم الصناعي، وتوسيع بناء القدرات السيبرانية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، إضافة إلى إنشاء حوار دائم لمتابعة تلك الجهود.

في سبتمبر 2023، صدر إعلان مشترك من قبل وكالات الأمن السيبراني في البلدين، بما في ذلك وكالة الأمن السيبراني والبنية التحتية الأمريكية (CISA)، ووكالة الأمن القومي الأمريكي (NSA)، والشرطة الوطنية اليابانية (NPA). ركز الإعلان على مواجهة التهديدات السيبرانية الصينية التي تستهدف قطاعات حيوية مثل الحكومة، التكنولوجيا، الإعلام، الصناعات الدفاعية، وقطاع الاتصالات. هذا التعاون أظهر التزام البلدين بمواجهة التحديات السيبرانية بطريقة متكاملة تشمل المجالات الاستراتيجية والتشغيلية.

التعاون السيبراني امتد أيضًا إلى القطاع الخاص، حيث انضمت شركة NTT Corporation، أكبر شركة اتصالات في اليابان، إلى الشراكة الدفاعية السيبرانية المشتركة التابعة لوزارة الأمن الداخلي الأمريكية (JCDC).  يمثل هذا الانضمام نموذجًا للتعاون بين القطاعين العام والخاص عبر المحيط الهادئ، ويُتوقع أن يُشرك المزيد من الشركات اليابانية في مثل هذه المبادرات لتعزيز الدفاع السيبراني وتبادل المعلومات.

تُظهر هذه التطورات التزامًا قويًا من الولايات المتحدة واليابان بمواجهة التهديدات السيبرانية بشكل استباقي، مع التركيز على تعزيز الاستقرار الإقليمي وحماية البنية التحتية الرقمية الحيوية.

ثالثا: الشراكات المتوقعة بين البلدين في المستقبل:

تركز الشراكة بين الولايات المتحدة و اليابان في مجال الأمن السيبراني على حماية البنية التحتية مثل الطاقة، النقل، والاتصالات، حيث تسهم في تعزيز استقرار اليابان الوطني ويضمن مرونة القواعد العسكرية الأمريكية هناك. هذه الجهود تُتيح لليابان الوصول إلى خبرات الولايات المتحدة، مما يدعم المصالح المشتركة للبلدين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. بالإضافة إلي ذلك، يسعى الطرفان إلي تنسيق السياسات السيبرانية، من خلال الاعتراف المتبادل بالمعايير، وتبسيط عمليات تبادل المعلومات. كما يشمل التعاون تطوير التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمّية والأجهزة الذكية الآمنة، حيث يُساعد ذلك اليابان على الابتكار ويدعم الولايات المتحدة بخبراتها التصنيعية، مما يضمن تحولاً رقمياً آمناً لكلا البلدين. علاوة علي ذلك، يُمثل بناء القدرات السيبرانية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ محوراً رئيسياً في تعزيز القيادة الإقليمية، حيث يدعم هذا التعاون الحلفاء الأقليميين ويواجه النفوذ المعادي. يُعزّز هذا التعاون دور اليابان كقائد إقليمي في الأمن السيبراني، ويُقوي تحالفات الولايات المتحدة لدعم أهدافها الاستراتيجية. وفي الإطار ذاته، يُسهم التنسيق العسكريين و المدنيين في تعزيز جاهزية الدفاع الياباني، مما يُعزز التحالف العسكري الأمريكي-الياباني ويدعم التعاون المشترك في مجال الدفاع السيبراني.

ينتهي هذا المقال الى ان التعاون الأمني السيبراني بين الولايات المتحدة واليابان ركيزة أساسية في مواجهة التحديات المتزايدة في منطقة شرق آسيا. في ظل التوترات الجيوسياسية الناتجة عن التحركات الصينية العدائية حول جزر سينكاكو ومضيق تايوان، وزيادة النشاط العسكري والهجمات السيبرانية من كوريا الشمالية، أصبح من الضروري تعميق الشراكة السيبرانية بين البلدين. ورغم التطورات الأخيرة، مثل إدراج الأمن السيبراني كأولوية في استراتيجية اليابان للأمن القومي لعام 2022 والإطار الجديد للتحالف بين البلدين، لا تزال هناك تحديات تتطلب حلولًا مبتكرة لتعزيز التعاون المشترك.

لتعزيز هذه الشراكة، يجب على اليابان العمل على تطوير قدراتها الوطنية في الكشف عن التهديدات ومعالجتها، مع إنشاء نظام أمني يتيح تبادل المعلومات بشكل أكثر فاعلية. كما أن تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص يُعد خطوة حاسمة لدعم البنية التحتية السيبرانية. ومع استمرار التحديات السيبرانية في النمو، يُصبح توحيد الجهود بين الولايات المتحدة واليابان ضرورة استراتيجية، لضمان الأمن والاستقرار في المنطقة، وتأمين المصالح المشتركة في عصر يزداد اعتمادًا على التكنولوجيا.

قائمة المراجع:

مصادر باللغة الانجليزية:

Basu, Pratnashree. “From Reactive to Proactive: Japan’s Advances in Cybersecurity and Cyber Defence Strategies.” orfonline.org, March 27, 2024. https://www.orfonline.org/expert-speak/from-reactive-to-proactive-japan-s-advances-in-cybersecurity-and-cyber-defence-strategies.

“Prospects for u.s.-Japan Cyber Cooperation: Critical Infrastructure Protection and Joint O.” Institute for National Strategic Studies, April 12, 2022. https://inss.ndu.edu/Media/News/Article/2997363/prospects-for-us-japan-cyber-cooperation-critical-infrastructure-protection-and/.

Hashimoto, Taro. “Operationalizing Japan-U.S. Cooperation on Critical Infrastructure Cybersecurity and Resilience.” CSIS, October 25, 2024. https://www.csis.org/analysis/operationalizing-japan-us-cooperation-critical-infrastructure-cybersecurity-and-resilience.

Lewis, James Andrew. “U.S.-Japan Cooperation in Cybersecurity.” CSIS, November 5, 2015. https://www.csis.org/analysis/us-japan-cooperation-cybersecurity.  

Temple-Raston, Dina. “A ‘worst Nightmare’ Cyberattack: The Untold Story of the Solarwinds Hack.” NPR, April 16, 2021. https://www.npr.org/2021/04/16/985439655/a-worst-nightmare-cyberattack-the-untold-story-of-the-solarwinds-hack.

U.S. Department of State. https://www.state.gov/united-states-international-cyberspace-and-digital-policy-strategy/.

“US-Japan Cyber Cooperation:” Weatherhead East Asian Institute, December 2023. https://weai.columbia.edu/sites/default/files/content/pics/JRP/Rattray_Lee_US_Japan_CyberCoop.pdf.

“Why Japan and the US Need Cyber and Data Security Cooperation for Their Economic Security < Sasakawa USA.” Sasakawa USA, January 12, 2023. https://spfusa.org/publications/why-japan-and-the-us-need-cyber-and-data-security-cooperation-for-their-economic-security/.

مصادر باللغة العربية:

“لمواجهة الصين.. أميركا واليابان توسعان معاهدة الدفاع المشترك: الشرق للأخبار.” Asharq News, January 12, 2023. https://asharq.com/politics/44846/%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D9%88%D8%B3%D8%B9%D8%A7%D9%86/

التصميم على استغلال الفضاء للدفاع عن الدولة وسياسات الفضاء اليابانية”.” nippon.com, July 1, 2023.

https://www.nippon.com/ar/japan-topics/c06508/.

“سعي استراتيجية الأمن القومي اليابانية لمواجهة تهديدات الصين.” الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين”

https://apa-inter.com/post.php?id=5546.

“الولايات المتحدة واليابان… من العداء إلى التحالف الوثيق.” الشرق الأوسط, April 8, 2024. https://aawsat.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85/%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%A9%E2%80%8B/4955231-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%A7%D8%A1-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D9%84%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82.

 “اليابان والولايات المتحدة توقعان مذكرة تعاون في مجال الدفاع السيبراني.” nippon.com, July 8, 2023. https://www.nippon.com/ar/news/yjj2023010700263/

باحث العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات

الاستقالات الوزارية في هولندا وتداعياتها على الموقف الأوروبي من إسرائيل
الميتافيزيقا السياسية للسلطة في فلسطين
رؤية جون ميرشايمر لحربي إسرائيل وروسيا ومستقبل النظام الدولي
التكنولوجيا الحيوية كأداة للقوة التنافس السياسي والاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين في سباق الهيمنة العالمية
تأتي الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ أكتوبر2023 لتشكل محطة فارقة في المشهدين السياسي والاقتصادي على المستويين المحلي والإقليمي، لما أفرزته من آثار عميقة تتجاوز الجانب الإنساني إلى إحداث تغييرات ملموسة في المؤشرات الاقتصادية في الاقتصاد الإسرائيلي. فعلى الرغم من استقرار الاقتصاد الإسرائيلي، إلا أن طول أمد الصراع واتساع نطاق العمليات العسكرية، إلى جانب الانعكاسات الأمنية والسياسية، أثر على قطاعات حيوية مثل السياحة، والاستثمار الأجنبي، وحركة الصادرات والواردات، فضلاً عن ارتفاع تكاليف الدفاع وتراجع ثقة الأسواق. ومن ثم، فإن دراسة التداعيات الاقتصادية لهذه الحرب تمثل مدخلاً مهماً لفهم طبيعة التأثيرات قصيرة وطويلة الأمد على الاقتصاد الإسرائيلي، ورصد مدى قدرته على الصمود أو التكيف في ظل هذه التحديات."
Scroll to Top