مقال تحليلي, قضايا اقتصادية

العملات المشفرة: تطورات اقتصادية وتحديات عالمية

الاء أحمد محمد نصرالله

19/12/2024

ظهرت العملات المشفرة كبديل للعملات التقليدية والتي تعتمد على تكنولوجيا البلوك تشين لضمان الشفافية والأمان، ومن أبرز هذه العملات: البيتكوين والإيثريوم. تتميز العملات المشفرة بأنها عملات غير مركزية حيث لا تعتمد على الأنظمة المصرفية التقليدية أو الوسطاء، وتُستخدم هذه العُملات بشكل كبير في القطاعات التجارية والخدمية، ولها دور كبير متوقع في تعزيز الشمول المالي، والاستثمار، والتجارة العالمية، وتطوير بنية مالية على مستوي العالم لتحقيق كفاءة اقتصادية بجانب أنها ستقلل من الحواجز في الأنظمة المالية.
تُعد العملات المشفرة فرصة للدول التي تعاني من حصار اقتصادي من دول العالم الكبري مثل الولايات المتحدة وحلفاؤها للتغلب على العقوبات الاقتصادية التي فرضتها، والذي قيد وصولها للنظام المالي العالمي وأدى إلى تدهور اقتصادي حاد ومنهم إيران التي اعتمدت علي هذه التكنولوجيا لتتجاوز القيود المالية وتعزيز التجارة، خاصة مع الدول التي تواجه ظروفًا مشابهة. لذا يستعرض هذا المقال دور العملات المشفرة في تشكيل الاقتصاد العالمي الحديث، مع التركيز على أبرز خصائصها وتأثيرها على الشمول المالي والتجارة الدولية. كما يناقش التحديات المرتبطة بها واستخدامها كأداة للتغلب على العقوبات الاقتصادية، مع إشارة خاصة إلى تجربة إيران.

أولاً: أهمية العملات المشفرة و خصائصها

ماهي العملات المشفرة ؟

العملة المشفرة هي عملة رقمية تُستخدم كوسيط للتبادل ونظام دفع بديل، وتعمل بشكل مستقل عن وسطاء البنوك ومعالجات الدفع. تسهم العملات الرقمية المشفرة في نمو الأموال، وتعمل كبديل للعملات التقليدية، حيث يسمح هيكلها اللامركزي بإجراء معاملات مباشرة بين الأفراد بدلاً من الاعتماد على الحسابات المصرفية أو أي كيان موثوق تابع لجهة خارجية.

كذلك تمثل العملات المشفرة أدوات دفع وبنى تحتية جديدة تهدف إلى تشكيل نظام بديل لأنظمة الدفع الحالية. كما أنها قد تكمّل النقود الحالية أو تحل محلها، وتشكل جزءًا من التنويع في حيازات الأصول. تُدار هذه العملات عبر شبكة موزعة من الحواسيب والعُقد التي تسجل المعاملات في دفتر عام يُعرف باسم سلسلة الكتل (Blockchain).

وفي السنوات الأخيرة، شهدت العملات المشفرة استخدامًا واسعًا في مجموعة متنوعة من الأعمال التجارية، مما يقلل من التكاليف المرتبطة بالطباعة والتوزيع وتخزين الأموال. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم لتسعير قيمة الأصول الأخرى. ولضمان الأمان، تعتمد العملات المشفرة على تقنيات التشفير لحماية المعاملات ومنع التلاعب بالتوقيعات الخاصة أو سرقتها.

أنواع العملات المشفرة الرائدة:

يوجد عدد كبير من العملات الرقمية، ولكن الأكثر شهرة يشمل البيتكوين، والإيثريوم، وBNB، والتيثر، وسولانا. وقد أحدثت العملات المشفرة ثورة في المشهد الاقتصادي العالمي، حيث يتميز كل نوع بدوره الفريد في تعزيز الابتكار والشمول المالي.

فمثلًا تُعد البيتكوين (BTC) العملة الرقمية الرائدة، وغالباً ما يُطلق عليها ”الذهب الرقمي“ بسبب دورها كمخزن للقيمة. وتُستخدم البيتكوين بشكل أساسي لتخزين الثروة وإجراء المدفوعات دون الحاجة إلى البنوك، مما يجعلها من الحلول المناسبة في المناطق التي تعاني من عملات غير مستقرة. وبفضل محدودية المعروض منها عند 21 مليون وحدة فقط، تُعد البيتكوين أداة جذب للمستثمرين الباحثين عن التحوط ضد التضخم والأنظمة المالية التقليدية، مما يجعلها مؤهلة لإحداث ثورة في المدفوعات الدولية ويزيد من دورها في تحديد أسعار السوق. فكلما تساوت العوامل الأخرى، زادت قيمة العملة بزيادة ندرتها.

أما الإيثريوم (ETH)، وهو الرمز المميز الأصلي لسلسلة بلوك تشين الإيثيريوم، فهو يسهل العقود الذكية والتطبيقات اللامركزية، ويعزز النمو في التمويل اللامركزي (DeFi) وأنظمة سلسلة التوريد من خلال تقليل تكاليف المعاملات والقضاء على الوسطاء. إنها ليست مجرد أموال؛ بل أداة للمطورين. يمكن أن يساهم نظامها المتنامي وإمكانات تطبيقاتها في العالم الحقيقي بشكل كبير في النمو الاقتصادي والكفاءة.

على الجانب الاخر، تُساهم BNB (عملة Binance) في تحقيق الكفاءة الاقتصادية من خلال خفض تكاليف التداول وتمكين المشروعات التي تعمل بسلسلة البلوكتشين على سلسلة Binance الذكية، مما يُعزز من تبني التقنيات اللامركزية.

بينما عملة تيثر (USDT) هي أكبر عملة مستقرة، حيث تحاول ربط سعرها بالدولار الأمريكي. واستقرارها يجعلها الخيار المفضل للمتداولين الراغبين في تقليل تقلبات الأسعار، وتعزيز السيولة، وتوفير وسيلة تبادل موثوقة للمعاملات عبر الحدود، مما يفيد الاقتصادات التي تواجه ضغوطًا تضخمية. وتعد تيثر أداة أساسية للعديد من مستثمري العملات الرقمية والمتداولين، بالإضافة إلى كونها وسيلة موثوقة للتعامل في سوق العملات الرقمية لكونها عملة رقمية مركزية.

في المقابل، تعالج سولانا (Solana – SOL) تحديات قابلية التوسع والكفاءة من خلال تمكين المعاملات عالية السرعة ومنخفضة التكلفة، مما جعلها تُلقب بـ”قاتل الإيثيريوم” نظرًا لقدرتها على معالجة آلاف المعاملات في الثانية. كما تضع سولانا نفسها كمحفز للابتكارات في مجالات الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)، والألعاب، والخدمات المالية.

وتؤدي كفاءة سولانا إلى خفض التكاليف، مما يجعل تقنية البلوك تشين في متناول الشركات والمستخدمين حول العالم. وتعمل كل من تيثر وسولانا معًا على إعادة تشكيل التمويل التقليدي من خلال تقليل أوجه القصور، وتعزيز التجارة العالمية، وتمكين المتعاملين، مما يسهم في دفع عجلة التقدم التكنولوجي والاقتصادي.

ثانياً: دور العملات المشفرة في الاقتصاد العالمي

يساعد اقتصاد العملات المشفرة في بناء بنية تكنولوجية ومالية بديلة تتميز بكونها عالمية، مفتوحة المصدر، ومتاحة للجميع ممن لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت، بغض النظر عن الجنسية، العرق، أو الطبقة الاجتماعية والاقتصادية. يوفر هذا الاقتصاد فرصًا واسعة لدعم الشمول المالي من خلال إتاحة الوصول إلى منتجات وخدمات مالية مثل المدفوعات، الادخار، الائتمان، والتأمين، مما يعزز من فرص أكثر من 1.7 مليار شخص يفتقرون للخدمات المصرفية. من المتوقع أن يُسهم ذلك في زيادة الناتج المحلي الإجمالي للاقتصادات الناشئة بنحو3.7 تريليون دولار.

يُقدم سوق العملات الرقمية فرصًا استثمارية قد تُحقق عوائد كبيرة للمستثمرين. وتتيح صناديق العملات المشفرة للمستثمرين الانخراط في سوق الأصول الرقمية من خلال مزايا مثل التنويع، الإدارة الاحترافية، تقليل المخاطر، وتحسين السيولة. ومع العمل ضمن إطار تنظيمي واضح، يحصل المستثمرون على شعور بالأمان والضمان. علاوة على ذلك، ساهم ظهور العملات المشفرة في التغلب علي العقوبات الاقتصادية خاصة من الولايات المتحدة التي تستخدم العقوبات لردع الدول التي تتبني سياسات معارضة للمصالح الأمريكية. لذا بدأت الدول التي تواجه عقوبات، مثل إيران و كوريا الشمالية، في استخدام هذه العملات للالتفاف علي أثار العقوبات.

العملات المشفرة: فرصة إيران للتغلب على العقوبات الاقتصادية

لعل ما تم استعراضه سابقاً شجع الدول التي تعاني من عقوبات اقتصادية مثل إيران للاعتماد على العملات المشفرة لزيادة تمثيلها في الاقتصاد العالمي برغم العقوبات الأمريكية المفروضة عليها. جدير بالذكر أن اقتصاد إيران يعتمد على قطاعات النفط والغاز، والزراعة، والخدمات، والتصنيع، حيث تمتلك ثاني أكبر احتياطي للغاز الطبيعي ورابع أكبر احتياطي للنفط الخام في العالم. ونتيجة تعرض إيران لعقوبات اقتصادية مشددة فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لسنوات عديدة فإن علاقة إيران بالعملات المشفرة معقدة ومتشابكة نتيجة لوضعها الجيوسياسي والاقتصادي الفريد.

أدت هذه العقوبات إلى تقييد وصول إيران للنظام المالي العالمي، مما جعل التجارة الدولية وجذب الاستثمارات الأجنبية والحصول على السلع والخدمات الأساسية أمرًا صعبًا. كما أن البنوك الإيرانية تفتقر إلى الوصول لنظام SWIFT العالمي، مما يجعل المعاملات الدولية مكلفة ومعقدة. ونتيجة لذلك، تقلصت فرص المستثمرين الأجانب في التعامل مع إيران، مما حد من النمو الاقتصادي وزاد من عدم الاستقرار الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم وتدهور قيمة الريال الإيراني، مما أثر سلبًا على القدرة الشرائية للمواطنين الإيرانيين وأدى إلى دم القدرة على توفير الاحتياجات الأساسية.

ففي فبراير 2020، كانت إيران واحدة من الدولتين الوحيدتين المدرجتين في القائمة السوداء من قبل مجموعة العمل المالي (FATF)و معها كوريا الشمالية، وهي جهة رقابية عالمية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وأدت العقوبات الاقتصادية إلى تقليص صادرات إيران النفطية، المصدر الرئيسي للإيرادات، مما تسبب في ركود اقتصادي، وفقدان الوظائف، وزيادة معدلات الفقر. واستجابة لهذه التحديات، تبنت إيران العملات المشفرة، نظرًا لإمكاناتها الاقتصادية وقدرتها على الالتفاف على العقوبات الاقتصادية والقيود المصرفية والعوائق القانونية.

وقد سمحت هذه العملات لإيران بالوصول إلى الاقتصاد العالمي، وزيادة الاحتياطيات، وتعزيز التجارة، خاصة مع الدول التي تواجه ظروفًا مشابهة من العقوبات والعزلة ومنها روسيا، التي خضعت لعقوبات مشابهة من قِبل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، سعت إلى تعزيز التعاون مع إيران في هذا المجال. وفي هذا السياق، وقّعت إيران وروسيا اتفاقية ثنائية للتعاون في مجال العملات المشفرة في نوفمبر 2018. وبعد شهرين، في يناير 2019، أجرت منظمة تنمية التجارة الإيرانية مفاوضات حول استخدام العملات المشفرة للمعاملات المالية مع روسيا وسبع دول أخرى، بما في ذلك النمسا، والبوسنة والهرسك، وإنجلترا، وفرنسا، وألمانيا، وسويسرا، وجنوب إفريقيا.

ويهدف هذا النهج إلى تسهيل المعاملات المالية والتجارية من خلال التهرب من العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة وتجاوز النظام المالي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار. كما أن تنظيم سوق العملات المشفرة يمكن أن يساهم في خلق فرص جديدة للتوظيف وخلق بيئة تشجع الابتكار في مجال التكنولوجيا المالية وتشجيع الشركات الناشئة في هذا المجال مع زيادة الإيرادات في قطاع التكنولوجيا. بالإضافة إلي أن العملات المشفرة تخضع لإشراف البنك المركزي الإيراني حيث بلغت قيمة التداول اليومي للعملات المشفرة 143 مليون دولار ما يعادل 100 تريليون ريال مما يجعلها أصل مالي رئيسي في إيران ويعكس عزم السلطات علي تعزيز دورها ضمن الاقتصاد المحلي مما يساهم في فتح آفاق جديدة لتعزيز الاقتصاد الوطني.

وفي أغسطس 2019، أصدرت إيران لوائح تعترف بتعدين العملات المشفرة كقطاع اقتصادي قانوني، وأصبحت أول دولة تستخدم العملات المشفرة كاحتياطي لدفع ثمن الواردات والصادرات كما اعتمد عليه المواطنون الإيرانيون بشكل متزايد في كسب المال وتحويله إلى خارج البلاد. ولكن، ورغم هذا التبني المتزايد، تواجه إيران تحديات كبيرة، مثل تقلب الأسعار، واستهلاك الطاقة الكبير، والتهديدات السيبرانية. فتعدين العملات المشفرة يتطلب كميات هائلة من الطاقة الكهربائية، غالبًا ما تُولد باستخدام الوقود الأحفوري الذي تمتلكه إيران بكثرة، ومع ذلك يمكن أن يؤدي ذلك إلى ضغط على البنية التحتية للطاقة. كما تدرك إيران المخاطر المرتبطة بالعملات المشفرة مثل غسل الأموال وتمويل الإرهاب لذا تسعي إلي وضع إطار تنظيمي يحد من هذه المخاطر.

وأخيرًا، يظل تأثير العملات المشفرة واضحًا وقويًا على الأنظمة الاقتصادية العالمية، حيث تعزز الشمول المالي، وتتيح فرصًا استثمارية، وتوفر وسيلة لحفظ القيمة، مع تسهيل المعاملات عبر الحدود لتعزيز النمو الاقتصادي وتقديم حلول مبتكرة في المعاملات المالية. تُبرز دراسة الحالة، مثل الاستخدام الاستراتيجي للعملات المشفرة من قبل إيران، فرصة للتهرب من العقوبات، زيادة الاحتياطات، وتعزيز التجارة خاصة مع الدول التي تواجه عقوبات وعزلة مماثلة. ومع ذلك ذلك، تواجه إيران تحديات مثل تقلبات الأسعار مما يجعلها محفوفة بالمخاطر، وعدم اليقين التنظيمي، والمخاطر التقنية، واستهلاك الطاقة الهائل المرتبط بتعدين العملات المشفرة بالرغم من احتياط إيران الكبير من الوقود الأحفوري، مما يعكس مزيجًا من الفرص الواعدة والحذر المطلوب في التعامل مع العملات المشفرة.

References:
Binance Academy. “What Is Cryptocurrency and How Does It Work?” Binance Academy, November 4, 2024. https://academy.binance.com/en/articles/what-is-a-cryptocurrency#What-Is-a-Cryptocurrency.
Karimi, Abbas, and Hojjat Salimi Turkamani. “U.S.-Imposed Economic Sanctions on Iran in the COVID-19 Crisis from the Human Rights Perspective.” International journal of health services: planning, administration, evaluation, June 9, 2021. https://pmc.ncbi.nlm.nih.gov/articles/PMC8442125/.

Kidder, Claudia, Volunteer, Business Reference Specialist, and Science & Business Reading Room. “Research Guides: Fintech: Financial Technology Research Guide: Cryptocurrency & Blockchain Technology.” Edited by Lynn Weinstein. Cryptocurrency & Blockchain Technology – Fintech: Financial Technology Research Guide – Research Guides at Library of Congress, January 6, 2021. https://guides.loc.gov/fintech/21st-century/cryptocurrency-blockchain.
Lob, Eric. “Iran and Cryptocurrency: Opportunities and Obstacles for the Regime.” Middle East Institute, December 27, 2022. https://www.mei.edu/publications/iran-and-cryptocurrency-opportunities-and-obstacles-regime.
Moy, Christine, and Jill Carlson. “Cryptocurrencies Can Enable Global Financial Inclusion. Will You Participate?” World Economic Forum, June 9, 2021. https://www.weforum.org/stories/2021/06/cryptocurrencies-financial-inclusion-help-shape-it/.
Patel, Edul. “Role of Cryptocurrencies in Simplifying & Speeding up Cross-Border Transactions.” The Economic Times, December 9, 2023. https://economictimes.indiatimes.com/markets/cryptocurrency/role-of-cryptocurrencies-in-simplifying-speeding-up-cross-border-transactions/articleshow/105856609.cms?from=mdr#goog_rewarded.
Siripurapu, Anshu, and Noah Berman. “Cryptocurrencies, Digital Dollars, and the Future of Money.” Council on Foreign Relations, January 17, 2024. https://www.cfr.org/backgrounder/crypto-question-bitcoin-digital-dollars-and-future-money.
TRM. “Iran’s Crypto Economy: Trm Insights.” RSS, April 17, 2023. https://www.trmlabs.com/post/iran-crypto-economy.
U.S. Department of the Treasury. “Treasury Expands Targeted Sanctions on Iranian Petroleum and Petrochemical Sectors in Response to Attack on Israel.” U.S. Department of the Treasury, October 11, 2024. https://home.treasury.gov/news/press-releases/jy2644.
White, Kathryn. “The Macroeconomic Impact of Cryptocurrency and Stablecoin Economics.” World Economic Forum, November 4, 2022. https://www.weforum.org/stories/2022/11/the-macroeconomic-impact-of-cryptocurrency-and-stablecoin-economics/.