شهدت منطقة البحر الأحمر ومضيق باب المندب تصعيدًا غير مسبوق عقب تنفيذ الولايات المتحدة وحلفائها سلسلة من الضربات العسكرية ضد مواقع الحوثيين في اليمن. التصعيد لم يكن وليد اللحظة، بل هو امتداد لمسار طويل من التوترات، تفاقمت منذ السابع من أكتوبر 2023، حينما بدأ الحوثيون استهداف السفن التجارية والعسكرية، مما عرّض أمن الملاحة الدولية للخطر. وقد كان لهذا التصعيد تداعيات اقتصادية واضحة على قناة السويس، أحد أهم الممرات البحرية في العالم، فضلاً عن آثاره الجيوسياسية في سياق التنافس الأمريكي-الإيراني في المنطقة.(1)
هذه التطورات تفرض تساؤلات جوهرية حول الدوافع الحقيقية للولايات المتحدة، ومدى قدرة هذه الضربات على تحقيق أهدافها الاستراتيجية، فضلاً عن انعكاساتها على التوازنات الإقليمية والمواقف الدولية.
أولًا: من 7 أكتوبر إلى الضربات الأمريكية: كيف بدأ التصعيد؟
مع اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، سارع الحوثيون إلى توظيف الصراع الإقليمي لصالحهم، معلنين استهداف السفن المرتبطة بإسرائيل والولايات المتحدة تحت غطاء “دعم المقاومة الفلسطينية”. ومع تصاعد هجماتهم خلال الأشهر التالية، تعثرت حركة التجارة في البحر الأحمر، ما دفع واشنطن إلى التدخل عسكريًا لحماية المصالح الغربية في المنطقة.
في 15 مارس 2025، نفذت الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات واسعة ضد أهداف حوثية، شملت منصات صاروخية وقادة ميدانيين بارزين، مما أسفر عن مقتل 53 شخصًا وإصابة العشرات. اللافت أن واشنطن لم تكتفِ بضرب القدرات العسكرية المباشرة للحوثيين، بل استهدفت أيضًا قياداتهم، في مؤشر على تبنيها استراتيجية ترامب “قطع الرأس” لتقويض القدرات العملياتية للجماعة. لكن يبقى السؤال: هل يمكن لهذه الضربات أن تحقق هدفها أم أنها ستفتح الباب لمزيد من التصعيد؟(2)
ثانيًا: الأهداف الأمريكية: بين حماية المصالح وردع إيران:
التدخل الأمريكي في اليمن ليس مجرد رد فعل على الهجمات الحوثية، بل يعكس استراتيجية أوسع تتجاوز حماية الملاحة البحرية إلى إعادة ضبط ميزان القوى الإقليمي. ويمكن تلخيص هذه الأهداف في أربعة محاور رئيسية:
حماية خطوط التجارة الدولية: يُعتبر البحر الأحمر شريانًا حيويًا للاقتصاد العالمي، حيث يمر عبره 12% من التجارة البحرية الدولية و30% من إمدادات النفط العالمية. تعطيل الحوثيين للملاحة أدى إلى ارتفاع تكاليف التأمين والشحن، ما دفع واشنطن إلى التدخل لضمان استقرار الأسواق.(3)
تقويض القدرات العسكرية للحوثيين: استهدفت الضربات القدرات الصاروخية والطائرات المسيّرة، وهي الأدوات الأساسية التي يستخدمها الحوثيون في استهداف السفن. الهدف هنا ليس فقط تقليل المخاطر المباشرة، بل أيضًا إرسال رسالة مفادها أن التصعيد له ثمن باهظ.(4)
تعزيز التحالفات الإقليمية: الضربات جاءت في توقيت حساس، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى طمأنة حلفائها الخليجيين، خاصة السعودية والإمارات، بأنها لا تزال شريكًا أمنيًا يمكن الاعتماد عليه في مواجهة التهديدات الإيرانية.(5)
ردع إيران: واشنطن تدرك أن الحوثيين ليسوا سوى أحد أذرع إيران في المنطقة، وبالتالي فإن الضربات تحمل أيضًا رسالة ردع إلى طهران بأن أي تصعيد سيواجه برد عسكري مباشر.(6)
لكن السؤال المحوري هنا: هل هذه الاستراتيجية قادرة على تحقيق أهدافها، أم أن الحوثيين يمتلكون القدرة على التكيف والرد؟
ثالثًا: قناة السويس والخسائر الاقتصادية: الثمن الذي تدفعه مصر:
تعد قناة السويس واحدة من أكبر المتضررين من الأزمة، حيث أدى التصعيد في البحر الأحمر إلى تراجع أعداد السفن العابرة بنسبة تتجاوز 40%، مع لجوء العديد من شركات الشحن إلى طريق رأس الرجاء الصالح، رغم تكاليفه المرتفعة.
• خسائر مصر من عائدات القناة قدرت بنحو 800 مليون دولار شهريًا، مما فاقم من التحديات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
• ارتفاع تكاليف التأمين والنقل زاد من الضغوط على الميزان التجاري المصري، وأثر بشكل غير مباشر على أسعار السلع المستوردة.
الأزمة لا تقتصر على الأرقام الاقتصادية فحسب، بل تعيد طرح تساؤلات حول التحديات التي تواجهها مصر لحماية أحد أهم مواردها السيادية، في ظل تصاعد التهديدات البحرية.(7)
رابعًا: إيران والبعد الإقليمي للتصعيد:
الضربات الأمريكية لا يمكن فهمها بمعزل عن الصراع الأوسع مع إيران، التي تعتبر الداعم الرئيسي للحوثيين. إيران تعتمد على “الحرب غير المباشرة”، مستخدمةً الحوثيين، وحزب الله، والفصائل العراقية كأدوات لإبقاء خصومها في حالة استنزاف مستمر دون الانجرار إلى مواجهة مفتوحة.
• الحوثيون يستخدمون تكنولوجيا عسكرية إيرانية متطورة، تشمل الطائرات المسيّرة والصواريخ المضادة للسفن.
• طهران قد ترد عبر تكثيف دعمها للحوثيين أو عبر تحريك جبهات أخرى، مثل مضيق هرمز، مما قد يؤدي إلى تصعيد واسع في المنطقة.
يبقى السيناريو الأخطر هو أن تؤدي الضربات الأمريكية إلى دفع إيران نحو رد أكثر جرأة، سواء بشكل مباشر أو من خلال وكلائها في المنطقة.(8)
خامسًا: الموقف الخليجي: بين الحذر والدعم الضمني:
هناك مخاوف من جانب السعودية والإمارات من أن يؤدي التصعيد إلى إفشال المحادثات الدبلوماسية التي كانت الرياض قد بدأتها مع الحوثيين، مما قد يعيد المنطقة إلى مربع الحرب المفتوحة.(9)
السعودية والإمارات تواجهان معضلة استراتيجية: هل يستمر نهج التهدئة، أم أن التصعيد سيجبرهما على الانخراط مجددًا في مواجهة عسكرية مباشرة؟
سادسًا: المواقف الدولية: بين الدعم والتحفظ:
المواقف الدولية من الضربات الأمريكية انقسمت إلى تيارين:
الداعمون:
• بريطانيا، التي شاركت في الضربات، أكدت أن “أمن الملاحة خط أحمر”.
• الاتحاد الأوروبي دعم العمليات لكنه دعا إلى تجنب التصعيد غير المحسوب.
• اليابان وكوريا الجنوبية أيدتا الضربات لحماية سفنهما التجارية.
المعارضون أو المتحفظون:
• الصين انتقدت التصعيد، داعية إلى حلول دبلوماسية.
• روسيا أدانت الضربات باعتبارها “انتهاكًا للسيادة اليمنية”، وحذرت من توسع النزاع.
• الأمم المتحدة حذرت من أن العمليات العسكرية قد تزيد من تعقيد الأزمة الإنسانية في اليمن.(10)
هذا التباين في المواقف يعكس الانقسامات العميقة داخل النظام الدولي حول كيفية التعامل مع الصراعات الإقليمية، وما إذا كان الخيار العسكري هو الحل الأمثل.
ختامًا، الضربات الأمريكية ضد الحوثيين تمثل نقطة تحول في المشهد الأمني للبحر الأحمر، لكنها تطرح تساؤلًا أكبر: هل هي مجرد رد فعل مؤقت، أم بداية لمرحلة جديدة من التصعيد العسكري؟
التاريخ أثبت أن الحروب غير المتكافئة تميل إلى الاستمرار، حيث يمتلك الحوثيون القدرة على امتصاص الضربات وإعادة بناء قدراتهم. وإذا لم تقترن الضربات بحلول دبلوماسية، فقد نشهد تصعيدًا أوسع، قد لا يقتصر على اليمن، بل يمتد ليشمل الخليج العربي ومضيق هرمز.
في النهاية، تبقى الخيارات مفتوحة، لكن المؤكد أن البحر الأحمر بات ساحة صراع مفتوح، وأن الأيام القادمة ستكشف ما إذا كانت هذه الضربات قد حققت أهدافها أم أنها مجرد حلقة جديدة في سلسلة طويلة من التوترات.
المصادر:
- US says airstrikes against Houthis in Yemen will continue indefinitely, 16, March, 2025, The Guardian.
- واشنطن تتحدث عن قتلها قادة حوثيين، نُشر في 16 مارس 2025، الجزيرة.
- أزمة تجارية عالمية وشيكة مع إشعال أمريكا الحرب ضد الحوثيين بباب المندب، نُشر في 17 مارس 2025، الجزيرة.
- الهجمات على الحوثيين: ما الممرات البحرية التي تسعى واشنطن لتأمينها، نُشر في 16 مارس 2025، الحرة.
- ضربات على صنعاء.. وترامب: أمرت بعمل عسكري “حاسم” ضد الحوثيين وهذه رسالتي لإيران، نُشر في 15 مارس 2025، سي ان ان عربية.
- هل دخلت المواجهة بين واشنطن والحوثيين طورًا جديدًا؟، نُشر في 16 مارس 2025، بي بي سي عربية.
https://www.bbc.com/arabic/articles/cy7x157y5ego
- مخاوف مصرية من تفاقم توترات البحر الأحمر عقب ضربات أميركا لـ«الحوثيين»، نُشر في 16 مارس 2025، صحيفة الشرق الأوسط.
- الاستراتيجية الإيرانية في البحر الأحمر.. الأهداف والتكتيكات، نُشر في 4 مايو 2024، مركز أبعاد للدراسات والبحوث.
https://www.abaadstudies.org/strategies/topic/60109
- لعبة امريكا الخطرة بين الحوثيين والسعودية، نُشر في 15 مارس 2025، مركز أبعاد للدراسات والبحوث.
https://abaadstudies.org/strategies/topic/59820
- Trump vows to hold Iran responsible for Houthi attacks, 17 March 2025, Reuters.
باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب