يمر السودان بواحدة من أشد الأزمات السياسية والإنسانية في تاريخه الحديث، وذلك منذ اندلاع المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023. هذه الأزمة لم تقتصر على البعد العسكري فحسب، بل امتدت لتشمل أبعادًا سياسية، دبلوماسية، واقتصادية، بالإضافة إلى التداعيات الإنسانية الكارثية التي تهدد استقرار الدولة السودانية ووحدة أراضيها، وفي تطور ملحوظ في السودان بدأ الجيش يستعيد العديد من المواقع المحورية والاستراتيجية ويطرد منها قوات الدعم السريع بعد أن كانت تحت سيطرة الدعم لفترات طويلة وهو ما يعد تحولًا استراتيجيًا في ميدان المعركة لمصلحة الجيش السوداني.(1)
يهدف هذا التقرير إلى تقديم تحليل شامل للتطورات الراهنة في السودان، من خلال استعراض المشهد السياسي والأمني، ورصد التداعيات الاقتصادية والاجتماعية، وتحليل الأبعاد الإقليمية والدولية للأزمة، مع تقديم رؤية استشرافية لمستقبل السودان في ظل التحديات الراهنة.
أولًا: الخلفية التاريخية للصراع:
على الرغم من توقيع السودان لاتفاق السلام في جوبا عام 2020 بين الحكومة الانتقالية والجماعات المسلحة، إلا أن التوترات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لم تهدأ، بل تفاقمت مع تزايد الخلافات حول عملية دمج القوات وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية.
بدأت المواجهات المسلحة في 15 أبريل 2023 إثر خلاف بين قائد القوات المسلحة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي). ومع مرور الوقت، تحول النزاع إلى حرب أهلية واسعة النطاق، مع انقسام المشهد السياسي والعسكري بشكل حاد، وتدهور الأوضاع الإنسانية في معظم أنحاء البلاد.(2)
ثانيًا: التطورات السياسية والدبلوماسية:
- تشكيل حكومة موازية ودلالاتها السياسية:
في فبراير 2025، أعلنت قوات الدعم السريع، خلال اجتماع في العاصمة الكينية نيروبي، نيتها تشكيل “حكومة سلام ووحدة وطنية”، وهو ما اعتبره العديد من المراقبين محاولة لإضفاء شرعية سياسية على قوات الدعم السريع وتعزيز نفوذها على الساحة الدولية.
الأهداف المحتملة لهذه الخطوة تتمثل في كسب اعتراف دبلوماسي من بعض الدول الداعمة لقوات الدعم السريع، وتوفير غطاء سياسي للحصول على مزيد من الدعم العسكري والمالي، ومحاولة فرض واقع جديد على الأرض وإضعاف موقف الحكومة المركزية في المفاوضات المستقبلية.(3)
رد فعل الحكومة السودانية والمجتمع الدولي يتمثل في رفض الحكومة السودانية هذه الخطوة، واعتبراها “إعلان تمرد سياسي” يهدف إلى تقسيم السودان، كما استنكرت وزارة الخارجية السودانية دعم كينيا لهذه المبادرة، معتبرةً أنها تتجاوز دورها كوسيط محايد في الأزمة، ولم تصدر الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي موقفًا واضحًا حتى الآن، مما يعكس تعقيد المشهد الدبلوماسي.
- التوترات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع:
رغم مرور عامين على بدء النزاع، لم يتمكن أي من الطرفين من تحقيق نصر حاسم. ومع ذلك، شهدت الأسابيع الأخيرة تطورات مهمة، من أبرزها:
تقدم الجيش السوداني في الخرطوم في 21 مارس 2025، حيث تمكنت القوات المسلحة السودانية من السيطرة على القصر الرئاسي، كما واصل الجيش السوداني تقدمه في الخرطوم مستعيدًا السيطرة على مواقع استراتيجية أخرى بما في ذلك البنك المركزي وبعض الوزارات السيادية والمتحف القومي السوداني ومقر السفارة المصرية، كما سيطر الجيش السوداني على جزيرة توتي (غرب الخرطوم) التي تعتبر آخر المعاقل لقوات الدعم السريع في العاصمة، رغم ذلك، لا تزال قوات الدعم السريع تحتفظ بمواقع استراتيجية في الخرطوم وأم درمان، مما يجعل السيطرة الكاملة على العاصمة أمرًا معقدًا.(4)
تراجع قوات الدعم السريع في بعض المناطق، حيث فقدت قوات الدعم السريع السيطرة على عدة مدن في غرب السودان، نتيجة لتكثيف العمليات العسكرية للجيش السوداني، رغم ذلك، لا تزال تحتفظ بنفوذ قوي في دارفور، حيث تشهد المنطقة تصاعدًا في حدة الصراع العرقي.
بالإضافة إلى ذلك، تزداد المخاوف من تفاقم الأزمة الإنسانية، حيث يواجه السكان تحديات كبيرة في الحصول على المساعدات الإنسانية بسبب القيود المفروضة من قبل الأطراف المتنازعة.(5)
- المبادرات الإقليمية والدولية لحل الأزمة:
رغم الجهود الدولية لوقف إطلاق النار، إلا أن المبادرات السياسية لا تزال تواجه تحديات كبيرة، ومن أبرز هذه المبادرات:
المبادرة الأمريكية-السعودية (مسار جدة)، والتي ركزت على وقف إطلاق النار وفتح ممرات إنسانية، لكنها لم تحقق تقدمًا يذكر بسبب عدم التزام الأطراف المتنازعة.
جهود الاتحاد الإفريقي والإيقاد، حيث طرح الاتحاد الإفريقي خطة انتقالية تتضمن إشراك المجتمع المدني في العملية السياسية، لكن الخلافات بين الفرقاء السودانيين أعاقت تنفيذها، كما تحاول منظمة الإيقاد (الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا) لعب دور الوسيط، لكن تأثيرها لا يزال محدودًا بسبب الانقسامات الإقليمية.(6)
ثالثًا: قراءة استراتيجية للخريطة السياسية والعسكرية الجديدة في السودان:

تعكس الخريطة توزيع السيطرة الجغرافية بين الأطراف المتنازعة في السودان، حيث تُبرز مناطق نفوذ القوات المسلحة السودانية (اللون الأخضر) ومناطق سيطرة قوات الدعم السريع (اللون الأحمر)، إضافة إلى بعض الجيوب الخاضعة لسيطرة جماعات مسلحة أخرى (اللون البنفسجي).
تمثل هذه الخريطة مؤشرًا دقيقًا على التحولات العسكرية في البلاد، خصوصًا بعد إعلان الجيش السوداني استعادته السيطرة على القصر الرئاسي في الخرطوم والتقدم في عدد من المحاور الاستراتيجية.(8)
التوزيع الجغرافي:
- مناطق سيطرة القوات المسلحة السودانية (اللون الأخضر):
تسيطر القوات المسلحة السودانية على شمال وشرق البلاد، بما في ذلك العاصمة الخرطوم بعد التقدم الأخير في القصر الرئاسي، وتشمل هذه المناطق ولايات البحر الأحمر، نهر النيل، الشمالية، القضارف، وكسلا، ما يمنح الجيش سيطرة على المنافذ البحرية والمناطق الحدودية مع مصر وإريتريا، وتعتبر هذه السيطرة محورية في تأمين خطوط الإمداد الاستراتيجية والقدرة على تلقي دعم لوجستي عبر الموانئ والمنافذ البرية.
- مناطق سيطرة قوات الدعم السريع (اللون الأحمر):
تُظهر الخريطة سيطرة قوات الدعم السريع على مساحات واسعة في غرب البلاد، تشمل أجزاء كبيرة من ولايات دارفور وكردفان، وتعكس هذه السيطرة النفوذ التقليدي لقوات الدعم السريع في هذه المناطق، حيث تعتمد على تحالفاتها القبلية وقدرتها على المناورة في التضاريس الوعرة، كما يتيح هذا الانتشار إمكانية استمرار العمليات العسكرية وإطالة أمد النزاع، لا سيما مع الحدود المفتوحة مع تشاد وأفريقيا الوسطى التي قد توفر خطوط إمداد بديلة.
- الجيوب الخاضعة لجماعات مسلحة أخرى (اللون البنفسجي):
تُظهر الخريطة جيوبًا صغيرة تخضع لسيطرة جماعات متمردة أخرى، مثل الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال (SPLM-N) في جنوب كردفان والنيل الأزرق، ويعكس هذا الوضع الطبيعة المعقدة للمشهد الأمني في السودان، حيث تتداخل الفصائل المسلحة مع الصراع الرئيسي بين الجيش والدعم السريع.
رغم نجاح الجيش في استعادة بعض المواقع الاستراتيجية في الخرطوم، فإن قوات الدعم السريع لا تزال تتمتع بنفوذ واسع في الغرب، مما يفتح الباب أمام سيناريوهات حرب طويلة الأمد أو مفاوضات إجبارية قد تفرضها التوازنات العسكرية، وفي ظل غياب حل سياسي شامل، يُتوقع أن تستمر هذه الخريطة بالتغير في الأشهر المقبلة، بناءً على التطورات العسكرية والدبلوماسية.(9)
رابعًا: التداعيات الإنسانية والاجتماعية:
- كارثة إنسانية غير مسبوقة:
يواجه السودان واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، حيث يحتاج 25 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية عاجلة، اضطر أكثر من 14 مليون سوداني للنزوح داخليًا وخارجيًا، مما خلق ضغوطًا هائلة على دول الجوار (تشاد، جنوب السودان، مصر، وإثيوبيا)، وتفاقم أزمة المجاعة، خاصة في دارفور، حيث منعت قوات الدعم السريع وصول المساعدات إلى بعض المناطق المتضررة.(10)
- انتهاكات حقوق الإنسان:
وثقت منظمات دولية ارتكاب جرائم حرب، تشمل عمليات قتل جماعي وجرائم عنف جنسي، خصوصًا في مناطق النزاع، كما تشير التقارير إلى عمليات تطهير عرقي في دارفور، حيث تتهم قوات الدعم السريع باستهداف مجموعات عرقية محددة، وتعاني المؤسسات الحقوقية السودانية من قيود مشددة تمنعها من توثيق الانتهاكات بشكل مستقل.(11)
خامسًا: التداعيات الاقتصادية:
انكماش الاقتصاد السوداني بنسبة 20% منذ بدء الحرب، وفق تقديرات البنك الدولي، وانهيار العملة السودانية، حيث وصل سعر الصرف إلى 3000 جنيه سوداني مقابل الدولار، وشلل تام في القطاعات الزراعية والصناعية، مما زاد من معدلات البطالة والفقر، وتوقف الاستثمارات الأجنبية وانخفاض الاحتياطات النقدية، مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم.(12)
سادسًا: السيناريوهات المستقبلية للأزمة السودانية:
- استمرار النزاع لفترة طويلة: في حال عدم نجاح جهود الوساطة الدولية والاقليمية، قد يستمر الصراع لسنوات، مما قد يؤدي إلى تقسيم للبلاد بين مناطق تحت سيطرة الجيش وأخرى تحت سيطرة الدعم السريع.
- تسوية سياسية جزئية: قد يتم التوصل إلى هدنة يعقبها عمل اتفاق مؤقت بين الطرفين، لكن من غير المتوقع أن يكون حلًا شاملًا نظرًا لانعدام الثقة بينهما.
- انهيار الدولة ودخول السودان في مرحلة “الدولة الفاشلة”: في حال استمرار الحرب دون حل، قد يصبح السودان نموذجًا جديدًا للدولة الفاشلة، شبيهًا بما حدث في الصومال خلال التسعينيات.
ختامًا، يواجه السودان أزمة مركبة تتطلب حلولًا سياسية وأمنية وإنسانية شاملة. لا يمكن إنهاء الصراع عبر الحلول العسكرية وحدها، بل يجب العمل على مسار سياسي يضمن مشاركة كافة الأطراف الفاعلة. كما أن دور المجتمع الدولي يجب أن يكون أكثر حزمًا في فرض وقف إطلاق النار وفتح ممرات إنسانية دائمة.
المصادر:
- الجيش يستعيد مطار الخرطوم ويقترب من حسم المعركة، نُشر في 26 مارس 2025، الجزيرة نت.
- تاريخ السودان في مهب الريح.. الدعم السريع تدمر متحف القصر الجمهوري، نُشر في 25 مارس 2025، الجزيرة نت.
- الجيش السوداني يسيطر على مطار الخرطوم بالكامل، نُشر في 26 مارس 2025، سكاي نيوز عربية.
- حرب السودان.. ارتباك ميداني وحرائق في الخرطوم “المدمرة”، نُشر في 25 مارس 2025، سكاي نيوز عربية.
- Sudan’s RSF squeezing relief supplies as famine spreads, aid workers say, 25 March 2025, Reuters.
- Sudan’s RSF Delays Nairobi Unveiling of Parallel Government With Allies, 18 Feb 2025, allAffrica.
https://allafrica.com/stories/202502190024.html
- خريطة جديدة توضح مناطق سيطرة الجيش السوداني، نُشر في 25 مارس 2025، منصة السودان الإخبارية.
https://sudanplatform.net/97927
- الجيش السوداني يكشف خريطة مواقع السيطرة، نُشر في 25 مارس 2025، أخبار السودان.
https://www.sudanakhbar.com/1631940
- خريطة السيطرة في السودان.. الجيش يتقدم في ظل تراجع ميليشا الدعم السريع.. وبوادر أزمة بين الخرطوم ودولتين جارتين، نُشر في 25 مارس 2025، فيتو.
https://www.vetogate.com/5375511
- Sudan army says it has control of presidential palace in Khartoum, 22 March 2025, Reuters.
- Sudan rejects paramilitary attempts to form parallel government, 19 Feb 2025, Prensa Latina.
- Sudan Displacement Crisis Worsens As Fighting, Hunger, Sexual Violence Escalate, 29 Oct 2024, allAfrica.
https://allafrica.com/stories/202410300026.html
باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب