تُعد العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران من أكثر الملفات تعقيدًا في السياسة الدولية، خاصة فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني. وذلك منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق (JCPOA) الذي تم توقيعه بين مجموعة (5+1) وطهران في عام 2018، شهدت المنطقة تصعيدًا مستمرًا وتوترات متزايدة. مع تغير الإدارات الأمريكية وتطورات الملف النووي الإيراني، والأمر الغريب أن ترامب الذي انسحب من الاتفاق النووي عام 2018 هو نفسه الذي يرغب الآن في عقد اتفاق جديد مع إيران. لماذا غير موقفه؟ وهل سينجح في التوصل الى اتفاق جديد؟ هذا ما سيكشف عنه التقرير التالي.
أولاً: الخلفية التاريخية للاتفاق النووي:
في يوليو 2015، وفي عهد الرئيس الامريكي باراك اوباما، (المنتمي للحزب الديمقراطي)، توصلت إيران ومجموعة القوى الدولية المعروفة بـ(5+1) – والتي تضم الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، والمملكة المتحدة، وفرنسا، بالإضافة إلى ألمانيا – إلى اتفاق تاريخي عُرف رسميًا بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة” (JCPOA). وقد شكّل هذا الاتفاق ثمرةً لجهود دبلوماسية مكثفة استمرت لأكثر من عامين، وهدف إلى ضمان الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني، من خلال فرض قيود فنية صارمة على القدرات النووية الإيرانية، مقابل رفع تدريجي ومنظّم للعقوبات الدولية المفروضة على طهران.(1)
نصّ الاتفاق على تقليص عدد أجهزة الطرد المركزي الإيرانية إلى ما دون 5,000 جهاز من نوع IR-1، وخفض مخزون إيران من اليورانيوم منخفض التخصيب بنسبة 98%، وتقليص مستوى التخصيب إلى 3.67%، أي دون مستوى تصنيع السلاح النووي بكثير. كما التزمت إيران بتحويل مفاعل “آراك” العامل بالماء الثقيل إلى مفاعل غير قادر على إنتاج البلوتونيوم المستخدم في الأسلحة النووية، ووافقت على إخضاع منشآتها النووية لنظام رقابة وتفتيش مشدد من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بما في ذلك آلية التفتيش المفاجئ، وتقديم تقارير دورية عن أنشطتها.(2)
في المقابل، التزمت القوى الغربية برفع العقوبات الاقتصادية والمالية المفروضة على إيران، سواء من قبل مجلس الأمن الدولي أو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ما سمح لإيران بالعودة إلى الأسواق المالية الدولية وتصدير النفط بحرية. وقد ترتب على هذا الانفتاح تحسن نسبي في المؤشرات الاقتصادية الإيرانية بين عامي 2016 و2018، تمثّل في زيادة معدلات النمو، وارتفاع حجم التبادل التجاري، وعودة بعض الشركات الأجنبية إلى السوق الإيرانية.
غير أن الاتفاق لم يكن بمنأى عن الجدل، لا سيما في الداخل الأمريكي، حيث واجه انتقادات حادة من الجمهوريين الذين اعتبروه غير كافٍ لكبح طموحات إيران العسكرية، كما أبدت بعض الأطراف الإقليمية، مثل إسرائيل والسعودية، تحفظات شديدة عليه، معتبرةً أنه يغضّ الطرف عن نفوذ إيران الإقليمي المتنامي وبرنامجها الصاروخي الباليستي.
وفي مايو 2018، أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحابها أحاديًا من الاتفاق، متهمة إيران بانتهاك “روح الاتفاق”، رغم تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي أكدت في حينه التزام طهران ببنوده. ومن ثم أعادت واشنطن فرض حزمة من العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة، واستهدفت قطاعات حيوية في الاقتصاد الإيراني، مما أدّى إلى أزمة اقتصادية خانقة. وردّت إيران تدريجيًا بتقليص التزاماتها النووية، ورفعت مستويات التخصيب، وقلّصت تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ما أدّى إلى تصاعد التوترات الإقليمية والدولية مجددًا، وإعادة الملف النووي إلى واجهة الصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط.(3)
ثانيًا: تعقيدات ما بعد الانسحاب الأمريكي – حسابات الردع والتصعيد:
أدى انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو 2018 إلى خلق واقع جديد أكثر تعقيدًا في العلاقات الدولية والإقليمية المتصلة بإيران. فقد مثّل الانسحاب إعلانًا رسميًا بفشل الدبلوماسية المتعددة الأطراف في احتواء التهديدات النووية ضمن الإطار الذي أرسته خطة العمل الشاملة المشتركة، كما أعاد فرض العقوبات الاقتصادية الصارمة أحادية الجانب – والتي طالت قطاعات النفط، والمصارف، والصناعة – الاقتصاد الإيراني إلى مرحلة الحصار شبه الكامل، محدثًا اختلالًا حادًا في سعر العملة الوطنية ومعدلات التضخم والنمو.(4)
لم يكن رد إيران فوريًا أو متهورًا، بل اتسم بتدرج محسوب. ففي البداية، سعت طهران إلى الحفاظ على الاتفاق عبر التواصل مع الدول الأوروبية الضامنة، إلا أن عجز الأوروبيين عن تقديم ضمانات اقتصادية ملموسة نتيجة الضغوط الأمريكية أجبر إيران على تغيير نهجها. بدءًا من عام 2019، تبنّت القيادة الإيرانية سياسة “الرد بالمثل”، فقامت بزيادة نسبة التخصيب تدريجيًا، وتوسيع مخزون اليورانيوم، وتشغيل أجهزة طرد مركزي متقدمة من الجيلين الرابع والسادس، ما أدى إلى تجاوز سقوف الاتفاق بشكل متزايد.
في السياق نفسه، تراجعت إيران عن التزاماتها المتعلقة بالرقابة، وقلّصت من صلاحيات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وامتنعت عن تقديم تقارير شاملة بشأن أنشطتها النووية، ما أثار شكوكًا متزايدة في النوايا الإيرانية، وفتح المجال أمام تكهنات غربية بشأن اقتراب إيران من “العتبة النووية”، أي القدرة على إنتاج سلاح نووي خلال فترة زمنية قصيرة إذا ما تم اتخاذ القرار السياسي بذلك.(5)
على المستوى الإقليمي، غذّى هذا الوضع مشاعر القلق لدى دول الخليج العربي وإسرائيل، ودفع ببعضها نحو تعزيز التنسيق الأمني مع واشنطن، وشنّ حملات دبلوماسية لتحجيم إيران سياسيًا واقتصاديًا. أما على المستوى الدولي، فقد ساهمت الأزمة في تعميق الانقسام بين القوى الكبرى: ففي حين سعت روسيا والصين إلى الحفاظ على الاتفاق بوصفه إنجازًا دبلوماسيًا ومؤسسة قانونية دولية قائمة، أصرّت واشنطن على ضرورة إعادة التفاوض من جديد، بحيث يشمل الاتفاق المستقبلِي برنامج إيران الصاروخي، وسلوكها الإقليمي في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن.
وفي ظل هذا الانقسام البنيوي في المقاربة الدولية، بات من الصعب إعادة إحياء الاتفاق الأصلي دون إدخال تعديلات جوهرية على مضمونه ومحدداته الزمنية. وبذلك، أصبح الملف النووي الإيراني حقلًا لاختبار الإرادات الجيوسياسية، وحلبة لصراع أوسع بين قوى النظام الدولي حول قواعد الضبط الاستراتيجي وحدود القوة الدبلوماسية.(6)
وكانت قد شهدت فترة إدارة الرئيس الامريكي جو بايدن محاولات دبلوماسية حثيثة لإحياء الاتفاق النووي مع إيران، في إطار مسعى لإعادة الولايات المتحدة إلى المسار التفاوضي الذي انسحبت منه إدارة ترامب. ورغم انخراط واشنطن في عدة جولات غير مباشرة من المباحثات في فيينا، بدعم أوروبي وروسي، فإن هذه الجهود تعثّرت بسبب تمسك كل طرف بشروطه المسبقة، وغياب الثقة المتبادلة، فضلاً عن تطورات داخلية في طهران وواشنطن حدّت من قدرة الطرفين على تقديم تنازلات. وعلى الرغم من بعض التفاهمات الجزئية، مثل صفقة تبادل السجناء عام 2023، فإن إدارة بايدن لم تتمكن من تحقيق اختراق حقيقي في الملف، تاركة المفاوضات في حالة جمود استراتيجي حتى نهاية ولايته.
ثالثًا: مواقف الأطراف المعنية:
الولايات المتحدة:
مع عودة الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة في يناير 2025، تبنّت الإدارة الأمريكية موقفًا أكثر تشددًا تجاه إيران. حيث أعلن ترامب عن رغبته في التفاوض على “اتفاق سلام نووي مُتحقق منه” مع إيران، مؤكدًا على ضرورة منعها من امتلاك سلاح نووي. ومع ذلك، شددت الإدارة على أن أي اتفاق جديد يجب أن يشمل قيودًا على البرنامج الصاروخي الإيراني ونفوذها الإقليمي، وهي مطالب ترفضها طهران.
إيران:
تصر طهران على أن برنامجها النووي سلمي، وترفض إدراج برنامجها الصاروخي أو سياساتها الإقليمية في أي مفاوضات جديدة. وفي فبراير 2025، أعرب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان عن استعداد بلاده للتفاوض، لكنه شدد على ضرورة رفع العقوبات كشرط مسبق لأي محادثات. بالإضافة إلى ذلك، تواجه إيران تحديات اقتصادية داخلية وضغوطًا إقليمية بعد تراجع نفوذ بعض حلفائها في المنطقة، مما يزيد من تعقيد موقفها التفاوضي.
المجتمع الدولي:
يسعى الاتحاد الأوروبي للحفاظ على قنوات الحوار مفتوحة، مع التأكيد على أهمية منع انتشار الأسلحة النووية. ومن ناحية أخرى، تدعم روسيا والصين إيران في بعض الجوانب، لكنهما تدعوان إلى حل دبلوماسي يضمن الاستقرار الإقليمي. في هذا السياق، أعلنت روسيا في مارس 2025 عن تعزيز تعاونها الاستراتيجي مع إيران، بما في ذلك التعاون العسكري والتدريبات المشتركة، مما يشير إلى تعميق العلاقات بين البلدين في مواجهة الضغوط الغربية.(7)
رابعًا: الجهود الدبلوماسية الراهنة – تباين الرؤى التفاوضية ومحادثات مسقط:
مع عودة إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى الحكم في يناير 2025، دخل الملف النووي الإيراني مرحلة جديدة من التعقيد، ليس فقط بسبب استئناف سياسة “الضغط الأقصى”، بل أيضًا نتيجة اختلاف المقاربة الأمريكية مقارنة بإدارة بايدن السابقة. فعلى الرغم من أن إدارة ترامب الثانية لم تعلن رسميًا عن نيتها العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، فإنها أبدت استعدادًا مشروطًا للتفاوض على اتفاق بديل أكثر شمولًا، يتجاوز البرنامج النووي ليشمل القدرات الصاروخية الإيرانية وسياساتها الإقليمية، وهو ما قوبل برفض صريح من طهران، التي تصر على أن يكون أي تفاوض مقتصرًا على الملف النووي دون سواه.
في هذا السياق، برز تباين واضح في الرؤية بين الطرفين حول شكل وأسلوب التفاوض، فبينما تسعى واشنطن إلى مفاوضات مباشرة تتيح لها فرض شروطها على الطاولة وتعزيز صورتها كقوة حازمة في الداخل والخارج، ترفض طهران هذا الطرح، وتُفضّل المفاوضات غير المباشرة عبر وسطاء إقليميين ودوليين. ويُعزى هذا الرفض إلى اعتبارات داخلية ترتبط بتركيبة النظام السياسي الإيراني، إذ تخشى الدوائر المحافظة من أن يُنظر إلى الحوار المباشر على انه تنازلًا يهدد رمزية الخطاب الثوري، ويضعف موقع المؤسسة الحاكمة أمام جمهورها الداخلي.(8)
ورغم هذا الجمود الظاهري، شهدت المرحلة الأخيرة تحرّكًا دبلوماسيًا لافتًا تمثّل في استئناف الاتصالات غير المباشرة بين واشنطن وطهران عبر سلطنة عمان، التي استعادت دورها التقليدي كوسيط هادئ وموثوق. وقد احتضنت مسقط، خلال الربع الأول من عام 2025، سلسلة من اللقاءات السرية التي هدفت إلى استكشاف مداخل ممكنة لتفاهم أولي يوقف التدهور المستمر في مسار الأزمة النووية. وقد اكتسبت هذه الجولات زخمًا إضافيًا في 8 أبريل 2025، حين أعلنت الإدارة الأمريكية رسميًا عن تكليف الدبلوماسي الأمني ستيف ويتكوف بإدارة ملف المحادثات مع إيران، في خطوة تشير إلى رغبة واشنطن في إعادة هيكلة أدواتها التفاوضية وتوجيهها نحو نهج أكثر تقنيّة وتخصصًا.(9)
وقد شارك ويتكوف فعليًا في قيادة الوفد الأمريكي خلال جولة جديدة من المحادثات غير المباشرة في مسقط، في حين مثّل الجانب الإيراني نائب وزير الخارجية عباس عراقجي، بوساطة مباشرة من وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي. ورغم أن المحادثات لم تُسفر عن نتائج ملموسة حتى الآن، فإن مجرد انعقادها في ظل الأجواء المتوترة الراهنة يُعدّ مؤشرًا على إدراك متبادل بضرورة تجنّب التصعيد المفتوح، وتلمّس مداخل دبلوماسية قابلة للبناء عليها.
ومع ذلك، تظل معضلة الشكل التفاوضي قائمة: فـطهران تتمسك بالوساطات غير المباشرة كأداة لاحتواء الضغوط السياسية الداخلية، بينما تسعى واشنطن إلى فرض نمط تفاوضي مباشر يعزز موقفها التفاوضي والإعلامي، ما يجعل فرص التفاهم مرهونة بإرادة الطرفين في تجاوز الحسابات الشكلية، والانخراط في حوار موضوعي يأخذ في الحسبان تعقيدات الملف النووي وتشابكاته الإقليمية والدولية.
وقد صرّح ترامب يوم الأربعاء 9 ابريل 2025 في مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض، عقب توقيعه على عدة أوامر تنفيذية، بأن الولايات المتحدة لن تتردد في استخدام القوة العسكرية إذا رفضت طهران التخلي عن برنامجها النووي، مشدداً على أن إسرائيل تُعد طرفاً محورياً في أي سيناريو تصعيدي محتمل. وأكد في هذا السياق: “إذا تطلب الأمر تدخلاً عسكرياً فسنفعل ذلك ومن الواضح أن إسرائيل تريد أن تكون مشاركة بقوة في ذلك، وأن تقود هذه العملية، لكن لا أحد يقودنا”.(10)
تعكس هذه التصريحات تحوّلاً جذرياً في العقيدة الأمريكية حيال إيران، من احتواء دبلوماسي إلى تبني خيار الردع العسكري المعلن، مع دمج البُعد الإقليمي الإسرائيلي في مقاربة المواجهة، وهو ما ساهم في تعميق أزمة الثقة بين واشنطن وطهران، وكرّس مناخاً من الانعدام الاستراتيجي الذي لا يزال يلقي بظلاله على مستقبل المسار التفاوضي حتى اليوم.
خامسًا: الاعتبارات الداخلية وحدود القرار التفاوضي لدى طهران وواشنطن:
لا يمكن فهم تعثر المسار التفاوضي بين إيران والولايات المتحدة دون التطرق إلى البُعد الداخلي لدى الطرفين، والذي يشكل عاملًا حاسمًا في صياغة مواقفهما وسلوكهما تجاه أي مبادرة دبلوماسية. ففي الحالة الإيرانية، تتسم عملية اتخاذ القرار التفاوضي بدرجة عالية من التعقيد البنيوي، إذ لا تنفرد الحكومة التنفيذية بقرارها في هذا الملف، بل تتقاطع فيه مؤسسات متعددة على رأسها مكتب المرشد الأعلى، والحرس الثوري، ومجلس الأمن القومي الأعلى. هذا التداخل المؤسسي يفرض حدودًا على هامش المناورة المتاح أمام الفريق الدبلوماسي الإيراني، ويجعل أي انفتاح تفاوضي خاضعًا لمعادلة داخلية دقيقة تقوم على التوازن بين الحفاظ على الخطاب الثوري من جهة، والاستجابة للضغوط الاقتصادية المتزايدة من جهة أخرى.(11)
وتزداد هذه المعادلة حساسية في ظل استمرار العقوبات الأمريكية وتدهور المؤشرات الاقتصادية، ما يُعزز الحاجة لدى النخبة الحاكمة إلى تحقيق انفراجة ولو جزئية. لكن في المقابل، تسود داخل بنية النظام مخاوف من أن يُنظر إلى أي تنازل تفاوضي – خصوصًا في ظل إدارة أمريكية تُجسد عودة خطاب “الضغط الأقصى” – باعتباره تراجعًا سياسيًا وقيميًا. ولهذا، تميل طهران إلى اتباع سياسة “الخطوة مقابل الخطوة”، وتفضيل المفاوضات غير المباشرة، بما يسمح لها بالحفاظ على تماسك خطابها الداخلي، دون تحمل كلفة سياسية أمام الرأي العام المحافظ أو الحرس الثوري.
أما في الولايات المتحدة، فإن الاعتبارات الداخلية لا تقل تعقيدًا، خاصة في ظل عودة إدارة ترامب إلى الحكم. إذ ترتكز سياسة هذه الإدارة على رؤية أكثر صدامية تجاه إيران، وتحظى بدعم قوي من تيارات نافذة داخل الحزب الجمهوري، التي ترى في أي انخراط تفاوضي مرن مع طهران نوعًا من “الرضوخ الاستراتيجي”. وفي ظل اقتراب موعد الانتخابات النصفية للكونغرس، تسعى الإدارة إلى تجنب أي خطوة قد تُفهم كتنازل، أو تُستغل من قبل الخصوم السياسيين باعتبارها ضعفًا في مواجهة “الخطر الإيراني”.
كما أن مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية – خاصة وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي – أصبحت أكثر تقيدًا بحسابات الداخل السياسي، حيث تحوّل الملف الإيراني إلى ورقة داخلية بامتياز، تستخدم في معارك التموضع السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين. وفي هذا السياق، فإن أي تفاهم مع إيران لا بد أن يمر عبر اختبار قاسٍ في الإعلام، والكونغرس، ومراكز الضغط المؤثرة، وهو ما يدفع الإدارة إلى التشدد في شروطها، ورفع سقف مطالبها، بما يضمن لها تفوقًا سياسيًا في الداخل قبل الخارج.(12)
وبهذا، فإن مأزق التفاوض الحالي لا يرتبط فقط بالخلافات الموضوعية حول مضمون الاتفاق، بل يتجذر في معادلات داخلية معقدة على الجانبين، حيث يسعى كل طرف من الطرفين الامريكي والايراني إلى توظيف المسار التفاوضي بما يخدم استقراره الداخلي، ويجنب قياداته أي تكلفة سياسية غير محسوبة، وهو ما يجعل التقدم في هذا الملف مشروطًا بتقاطع نادر بين الإرادة السياسية والظروف الداخلية المواتية، التي لا تزال حتى اللحظة بعيدة عن التحقق الكامل.
سادسًا: السيناريوهات المستقبلية – بين الاستقطاب والمرونة المشروطة:
في ضوء السياق الراهن الذي يتسم بالتوتر الإقليمي، وتباين الحسابات الاستراتيجية بين طهران وواشنطن، وعودة إدارة الرئيس ترامب ذات المقاربة المتشددة، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية محتملة لمستقبل الملف النووي الإيراني خلال المرحلة المقبلة:
السيناريو الأول: الجمود (Stalemate)
يفترض هذا السيناريو استمرار الوضع الراهن دون تصعيد كبير أو انفراجة حقيقية. فالمحادثات غير المباشرة المتوقع عقدها في مسقط تُستأنف على فترات، ولكن دون تحقيق اختراقات جوهرية بسبب استمرار الخلاف حول طبيعة وشكل الاتفاق المطلوب. في هذا الإطار، تستمر إيران في تطوير برنامجها النووي بشكل محسوب – دون تجاوز العتبة النووية – بينما تواصل واشنطن فرض العقوبات، مع ضبط النفس العسكري. يتيح هذا النمط للطرفين كسب الوقت، والحفاظ على أوراق الضغط دون المغامرة بخسائر استراتيجية فادحة. ورغم هشاشته، فإن هذا السيناريو يبقى مرجحًا في ظل غياب الإرادة السياسية الكاملة على كلا الجانبين.(13)
السيناريو الثاني: التصعيد المتبادل (Mutual Escalation)
يُبنى هذا الاحتمال على انهيار المساعي الدبلوماسية، واستمرار إيران في رفع نسبة التخصيب إلى مستويات تتجاوز 60%، أو تقليص التعاون بشكل جذري مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مما قد يدفع إسرائيل أو الولايات المتحدة إلى تبني خيار عسكري “موضعي” يستهدف المنشآت النووية. ويرجح في هذا السياق أن يُقابل مثل هذا التصعيد الامريكي او الاسرائيلي بهجمات على مصالح واشنطن وتل أبيب في المنطقة، عبر وكلاء طهران في العراق وسوريا واليمن. ورغم خطورته، فإن هذا السيناريو يظل واردًا في حال فقدت القنوات الدبلوماسية فعاليتها، أو تبنّت واشنطن سياسة أمنية أكثر عدوانية تحت ضغط الداخل السياسي.(14)
السيناريو الثالث: التفاهم المرحلي (Interim Understanding)
يتضمن هذا السيناريو التوصل إلى تفاهم محدود وغير معلن، يهدف إلى “تجميد مؤقت” للأنشطة النووية الإيرانية مقابل تخفيف جزئي للعقوبات الاقتصادية، وربما تسهيلات مالية وإنسانية، وذلك بوساطة عُمانية أو أوروبية. مثل هذا الاتفاق قد لا يُعلن رسميًا، بل يُنفّذ عبر خطوات متبادلة تُسجّل كنجاحات تكتيكية لكل طرف. وقد يلقى هذا السيناريو قبولًا ضمنيًا في طهران، لأنه يُجنّبها التصعيد العسكري دون أن تُقدّم تنازلات كبرى، كما قد يخدم واشنطن في تمرير سياسة “الردع المرن” دون الدخول في اتفاق سياسي واسع يُثير معارضة داخلية.(15)
إن ترجيح أي من هذه السيناريوهات يظل مرهونًا بتطور البيئة السياسية في الداخلين الإيراني والأمريكي، وكذلك بمواقف الفاعلين الإقليميين – وعلى رأسهم إسرائيل ودول الخليج – الذين سيكون لهم دور حاسم في تحديد اتجاهات الضغط أو الدعم لأي مسار تفاوضي. كما ستبقى قدرة الوسطاء – مثل سلطنة عمان – على إدارة الخط الرمادي بين التصعيد والانفراج، عاملاً مهمًا في توجيه مسار الأحداث خلال الأشهر المقبلة.
ختامًا، يُظهر مسار الملف النووي الإيراني منذ توقيع اتفاق 2015 وحتى عام 2025، مدى تعقّد هذا الملف وتشابكه مع الاعتبارات الداخلية والدولية، وارتباطه الوثيق بتوازنات القوى الإقليمية والدولية، لا سيما بعد عودة إدارة الرئيس ترامب إلى السلطة. فقد أسهم انسحاب واشنطن من الاتفاق في 2018، وعودة نهج “الضغط الأقصى”، في تقويض الثقة المتبادلة، ودفع إيران إلى التصعيد التدريجي على المستويين النووي والإقليمي، في حين زادت حدة التوترات نتيجة لغياب إطار تفاوضي مستقر ومتفق عليه بين الجانبين.
وعلى الرغم من بعض التحركات الدبلوماسية – خصوصًا عبر الوساطة العُمانية – إلا أن التباين في الرؤى بين الطرفين حول شكل التفاوض ومضمونه، إلى جانب تعقيدات البيئة الداخلية لكلٍّ من طهران وواشنطن، حال دون تحقيق أي اختراق حقيقي حتى اللحظة. فطهران تُفضّل المفاوضات غير المباشرة، حرصًا على تماسك خطابها السياسي وتفادي الكلفة الداخلية، في حين تصرّ واشنطن على حوار مباشر وشامل، يضمن لها إعادة صياغة الاتفاق وفقًا لمصالحها وشروطها الأمنية.
وفي ظل هذا التوازن الحرج بين التصعيد والانفراج، يبقى مستقبل الاتفاق النووي مفتوحًا على سيناريوهات متعددة، تتراوح بين الجمود المُدار، والتصعيد المحسوب، والتفاهم المرحلي. ويُعد استمرار قنوات الاتصال – خصوصًا تلك التي ترعاها سلطنة عمان – عاملًا حيويًا في تجنب الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة، خاصة مع ازدياد مؤشرات تخصيب اليورانيوم في إيران، وتزايد الضغوط السياسية على إدارة ترامب من الداخل والخارج.
وعليه، فإن نجاح واشنطن في عقد اتفاق نووي جديد مع طهران، لا يتوقف فقط على إرادة الطرفين المباشرين، بل يتطلب أيضًا معالجة جذرية للملفات الشائكة المصاحبة – مثل الملف الصاروخي والدور الإقليمي – إلى جانب توفير مناخ سياسي داخلي داعم في كل من إيران والولايات المتحدة، وهو أمر لا يبدو متاحًا على المدى القريب دون تغيرات نوعية في معادلة القوة الإقليمية والتوازن السياسي الدولي.
المصادر:
- تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA)، حول التزام ايران بالاتفاق النووي.
https://www.iaea.org/newscenter/focus/iran/iaea-and-iran-iaea-board-reports
- وزارة الخارجية الأمريكية – الإحاطات الصحفية: تصريحات رسمية حول السياسة الخارجية، بما في ذلك الموقف من إيران.
https://www.state.gov/briefings/department-press-briefing-april-8-2025
- خدمة العمل الخارجي الأوروبي (EEAS): مقال حول جهود الاتحاد الأوروبي في إنقاذ الاتفاق النووي الإيراني.
https://www.eeas.europa.eu/eeas/saving-iran-nuclear-deal_und_en
- مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD): تقرير يدعو إلى نزع سلاح برنامج إيران النووي.
- مؤسسة بروكينغز: مقال تحليلي حول استئناف المحادثات النووية مع إيران.
- معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: تحليل حول السماح لإيران بامتلاك قدرات نووية.
https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/letting-iran-go-nuclear
- رويترز: تقرير حول الالتزامات المهددة في الاتفاق النووي الإيراني.
https://www.reuters.com/graphics/IRAN-NUCLEAR/0100B0660CC
- مجلة السياسة الدولية – الأهرام (القاهرة): تحليل حول مسارات تسوية الملف النووي الإيراني.
https://www.siyassa.org.eg/News/3639.aspx
- هل يمكن أن تتوصل أمريكا “الجريئة” و إيران “الضعيفة” إلى اتفاق نووي جديد؟، سي ان ان عربية.
- إذا أصرت على برنامجها النووي.. ترامب يهدد إيران بالقوة العسكرية، إرم نيوز.
https://www.eremnews.com/news/world/cjr8wj0
- طهران تتمسك بشروطها والبيت الأبيض يتوقع إبرام اتفاق، الجزيرة نت.
- طهران تعتبر أن المفاوضات المباشرة مع واشنطن حول برنامجها النووي “لا معنى لها”، فرانس 24.
- ما مستقبل العلاقة بين واشنطن وطهران في ظل الإدارة الأمريكية القادمة؟، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة.
https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/9504
- مفاوضات نووية مرتقبة بين واشنطن وطهران: آمال معلّقة وتحديات قائمة.. فهل تنجح، ملفات عربية.
https://arabefiles.com/arabefiles/17125
- واشنطن وطهران لاتفاق نووي جديد، صحيفة الشرق الأوسط.
باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب