تشهد العلاقات بين الولايات المتحدة وكندا توترًا ملحوظًا بسبب زيادة التعريفات الجمركية من كلا الجانبين، بالإضافة إلى تصريحات ترامب وكشفه عن رغبته في أن تصبح كندا الولاية الأمريكية الـ 51 مبررًا أن كندا تعتمد على الولايات المتحدة لحمايتها. وفي ضوء ذلك، تسعى كندا إلى تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الصناعات الدفاعية، من خلال زيادة التعاون مع الاتحاد الأوروبي الذي فطن كذلك لخطورة الاعتماد على الولايات المتحدة وبشكل خاص في مجال الأمن والدفاع. ولذلك أعرب رئيس الوزراء الكندي مارك كارني في 27 مايو 2025، عن “أمله في انضمام بلاده إلى مبادرة دفاعية أوروبية كبرى بحلول الأول من يوليو المقبل”، في خطوة تسعى كندا من خلالها إلى تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة في مجال الأسلحة والذخيرة. يسعى هذا المقال إلى تحليل انعكاسات انضمام كندا المحتمل إلى مبادرة إعادة تسليح أوروبا. ومن هذا المنطلق، سيتضمن هذا المقال أولًا عرض نبذة عن العلاقات التجارية بين البلدين بالتركيز على الشق الدفاعي، وثانيًا ركائز خطة إعادة تسليح أوروبا “Rearm Europe”، وفي الأخير الانعكاسات المحتملة لانضمام كندا للمبادرة.
أولًا: خلفية العلاقات التجارية بين البلدين
تعتبر الولايات المتحدة هي الشريك التجاري الأكثر أهمية لكندا في عدة مجالات، كما تعد كندا ثاني أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، إذ تمثل ما يقارب 14% من إجمالي التجارة الأمريكية اعتبارا من سبتمبر2024. وتجاوزت القيمة الإجمالية لواردات وصادرات كندا من السلع مع الولايات المتحدة تريليون دولار في 2024، وللعام الثالث على التوالي. ووفقا لبيانات مكتب الإحصاء الأمريكي، فإن الولايات المتحدة هي الوجهة لـ 75.9% من إجمالي صادرات كندا، وعلى الجانب الآخر، كانت مصدرا لـ62.2% من إجمالي وارداتها.[1]
وفي مجال الأمن والدفاع، قال رئيس الوزراء الكندي كارني في حديثه لهيئة الإذاعة الكندية إن “نحو 75 سنتا من كل دولار يتم إنفاقه على الدفاع يذهب إلى الولايات المتحدة. هذا ليس أمرا ذكيا”. وأضاف أن المحادثات بين كندا والاتحاد الأوروبي بشأن الانضمام إلى مبادرة “إعادة تسليح أوروبا” تحرز تقدما كبيرا، وأنه يرغب في التوصل إلى “أمر ملموس” بحلول يوم كندا في الأول من يوليو القادم.[2]
تنتج المصانع الكندية الذخائر والدبابات والطائرات وأنظمة الدفاع التكنولوجية والسفن البحرية. ولا تعتبر قاعدة الصناعات الدفاعية الكندية كبيرة مقارنة بدول أخرى؛ حيث تُستخدم لإنتاج معدات للجيش الكندي، ولكنها تسهم بشكل منتظم في تصنيع معدات أو أجزاء عسكرية يتم تصديرها للولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، كشف تقرير كندي أنه في عام 2022، تم تصدير نصف المعدات العسكرية المصنعة في كندا والوجه الأولى لتلك الصادرات كانت الولايات المتحدة الأمريكية، والنصف الآخر تم الإبقاء عليه للجيش الكندي.[3]
ثانيًا: ركائز خطة إعادة تسليح أوروبا “Rearm Europe”
قدمت المفوضية الأوروبية في 19 مارس 2025، “ورقة بيضاء” بشأن مستقبل الدفاع في أوروبا ومساعدة الدول الأعضاء على تعزيز قدراتها الدفاعية وبناء قاعدة صناعية دفاعية في ضوء الحرب الروسية – الأوكرانية وتبدل النهج الأمريكي؛ حيث تصف مسؤولة السياسة الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي كايا كالاس هذه اللحظة بأنها “لحظة حاسمة للأمن الأوروبي”. وفي السياق نفسه، قال المفوض الأوروبي لشؤون الدفاع أندريوس كوبيليوس إن “سكان الاتحاد الأوروبي البالغ عددهم 450 مليونا ينبغي ألا يعوّلوا على الأمريكيين المقدر عددهم بحوالي 340 مليونا في مواجهة 140 مليون روسي يعجزون عن هزيمة 38 مليون أوكراني”.[4]
وتقوم خطة إعادة التسلح في أوروبا على خمسة ركائز، أولها زيادة الإنفاق الوطني لكل دولة عضو، وهو ما تسعى المفوضية الأوروبية لتسهيله من خلال تفعيل بند الهروب من “ميثاق الاستقرار والنمو” للاتحاد الأوروبي، من أجل تحرير الدول من شرط الالتزام بالحفاظ على عجز الميزانية العامة بحيث لا يتجاوز 3 % من الناتج المحلي الإجمالي. وبهذا ستكون الدول الأعضاء قادرة على زيادة إنفاقها الدفاعي إلى مبلغ إجمالي قدره 650 مليار يورو على مدى أربع سنوات.[5]
تقوم ثاني ركيزة على توفير نحو 150 مليار يورو، في صورة قروض للدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لشراء الأسلحة أو للاستثمارات المشتركة في مجال تصنيع السلاح. بينما تضمن الركيزة الثالثة استخدام أموال المساعدات للمناطق الأكثر حرماناً في الاتحاد الأوروبي، والتي تسمى “صناديق التماسك”، لتمويل مشاريع الدفاع. أما الركيزة الرابعة فتشمل إدماج البنك الأوروبي للاستثمار في عملية تمويل مشاريع الدفاع. كما تنص الركيزة الخامسة على حشد رأس المال والمهارات التي يمتلكها القطاع الخاص لتمويل المشاريع الدفاعية في أوروبا.[6]
ويرى البعض أن تلك الخطة تواجه عدة صعوبات، أبرزها أن عبء التمويل ما زال يقع على عاتق الدول الأعضاء وإن كان الاتحاد الأوروبي سيقدم بعض التسهيلات، ولكنها تشترط أن تشتري الدول الأسلحة بهذه الأموال بشكل مشترك وهو ما يضع عائق إضافي حيث تختلف احتياجات الدول وتتباين قدراتها. وفي المجمل، تأتي تلك الخطة في اتساق مع أهداف الناتو التي تشمل زيادة الإنفاق الدفاعي وتنمية القدرات العسكرية للحلف الذي تشكل الدول الأوروبية قوامه الأساسي من حيث العدد وليس التمويل؛ فالولايات المتحدة قبل مجيء ترامب كانت تتحمل النصيب الأكبر من تكاليف توفير الحماية للقارة الأوروبية، فضلا عن العبء الذي تحملته بعد نشوب الحرب الروسية الأوكرانية. وفي ضوء قرارات وتصريحات ترامب التي تثير حالة من عدم اليقين، تسعى دول الاتحاد الأوروبي، ومعها كندا والمملكة المتحدة، إلى تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة في عدة مجالات أهمها مجال الأمن والدفاع. ولذلك أتت الورقة البيضاء على ذكر عدد من الدول الشريكة من خارج الاتحاد الأوروبي التي يسعى الاتحاد إلى إشراكها معه في تلك المشاريع الدفاعية.[7]
ثالثًا: الانعكاسات المحتملة لانضمام كندا للمبادرة
في البداية يجب التنويه إلى أن كندا لم تعلن بعد انضمامها بشكل رسمي؛ فرئيس الوزراء الكندي أعلن فقط نية بلاده الانضمام بحلول الأول من يوليو القادم. كما أن تلك الخطة تعد بمثابة مبادرة لم تتحول بعد لواقع على الأرض؛ ولذلك فإن إعلان كندا انضمامها رسميا سيكون مجرد تضامن مع الرؤية الأوروبية. فلا يجب أن نغفل أنه منذ نشوب الحرب بين روسيا وأوكرانيا والعديد من المبادرات يتم الدعوة لها من أطراف عديدة في البداية، لكنها لا ترى طريقها للتحقق على الأرض في النهاية.
وإذا انضمت كندا بالفعل فمن الانعكاسات المحتملة لهذا القرار أن يزداد مستوى التوتر مع الولايات المتحدة أو بشكل خاص مع ترامب الذي تسببت تعريفاته الجمركية وتصريحاته بشأن كندا في انزعاج الجانب الكندي. ولكن من الممكن تفادي ذلك التوتر إذا ما انخرط الطرفان في محادثات تحفظ للجانبين مصالحهما في مسألة الصناعات الدفاعية. كما أنه من الممكن أن تنجح كندا في الحفاظ على التبادل التجاري في مجال الصناعات الدفاعية مع الولايات المتحدة، إلى جانب اندماجها مع الاتحاد الأوروبي في خطته التي تسعى في طياتها لزيادة القدرات الدفاعية والإنفاق العسكري للدول الأعضاء. ويتماشى ذلك مع ما يريده ترامب في الأساس من حلفائه الأوروبيين؛ فإذا ما نجحوا في ذلك دون الإضرار بمصالح الولايات المتحدة ومجمعها الصناعي العسكري؛ فإن الولايات المتحدة لن تقابل خطواتهم بأي نوع من الضغوطات.
وبالنظر إلى الانعكاسات الإيجابية، من المرجح أن تساعد هذه المبادرة – إذا تحققت – في تقليل الاعتماد الكندي على السلاح الأمريكي وتنويع الواردات والصادرات مع السوق الأوروبي الأكثر تنوعًا، كما أنها ستساعد المصانع الكندية في استقبال المزيد من الاستثمارات وعقود التصنيع. على سبيل المثال، من الممكن أن تنضم كندا لمشروع تصنيع المقاتلة الأوروبية Saab Gripen التي تعتبر بديلًا للـ F-35 الأمريكية التي تصنعها شركة Lockheed Martin.[8]
كما تهدف المبادرة الأوروبية إلى إعطاء الأولوية للمنتجات المصنعة أوروبيا، حيث يجب أن تأتي 65% من تكاليف المكونات إما من داخل الاتحاد الأوروبي أو من الشركاء الذين وقعوا اتفاقيات معه. ولذلك من الممكن أن تسهم كندا في توفير النسبة المتبقية البالغة 35% من خلال مصانعها التي كانت تصدر أغلب إنتاجها للولايات المتحدة الأمريكية.[9]
ختامًا، ستحتاج تلك المبادرة إلى سنوات حتى تؤتي ثمارها سواء في أوروبا أو بالنسبة للدول التي ستنضم لها. ويعتبر العامل المحرك لها هو تراجع القدرات الدفاعية للاتحاد الأوروبي بسبب الهيمنة الأمريكية ونقص الاستثمارات، كما أن الحرب الروسية الأوكرانية استنزفت مخزونات الدول الأعضاء التي سارعت في تقديم الدعم لأوكرانيا. ولكن في الوقت عينه من المتوقع أن تواجه المبادرة عقبات مثل صعوبة التوصل لاتفاق بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وكذلك الاتفاقات القائمة بين الأوروبيين والكنديين من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى؛ حيث يتسم مجال التصنيع العسكري بينهم بالترابط والاعتماد الشديد ويصعب فصله في فترة وجيزة، فضلًا عن كون الكثير من المصانع تابعة للقطاع الخاص؛ مما يضيف اعتبارات أخرى.
[1] محمد سناجلة، “تعرف على حجم التجارة بين أميركا واقتصادات كبرى طالتها رسوم ترامب،” الجزيرة، 10 فبراير 2025، تعرف على حجم التجارة بين أميركا واقتصادات كبرى طالتها رسوم ترامب | اقتصاد | الجزيرة نت
[2] “كندا تأمل الانضمام إلى مبادرة «إعادة تسليح أوروبا» لتقليل الاعتماد على أميركا،” الشرق الأوسط، 28 مايو 2025، كندا تأمل الانضمام إلى مبادرة «إعادة تسليح أوروبا» لتقليل الاعتماد على أميركا
[3] Matina Stevis-Gridneff, “Menaced by Trump, Canada Prepares to Join E.U. Military Industry Buildup,” The New York Times, March 19, 2025. https://www.nytimes.com/2025/03/19/world/canada/canada-eu-military-industry-trump.html
[4] “”ورقة بيضاء” أوروبية لإعادة تسليح القارة،” الجزيرة، 19 مارس 2025، “ورقة بيضاء” أوروبية لإعادة تسليح القارة | أخبار | الجزيرة نت
[5] جيسيكا مورفي، “خمس نقاط بارزة في خطاب الملك تشارلز أمام البرلمان الكندي،” BBC، 28 مايو 2025، https://www.bbc.com/arabic/articles/cvgqwppd5yro
[6] “White Paper for European Defence – Readiness 2030,” The European Union, 19 March 2025, https://ec.europa.eu/commission/presscorner/api/files/document/print/en/qanda_25_794/QANDA_25_794_EN.pdf
[7] “White Paper for European Defence – Readiness 2030,” The European Union, 19 March 2025, https://ec.europa.eu/commission/presscorner/api/files/document/print/en/qanda_25_794/QANDA_25_794_EN.pdf
[8] Matina Stevis-Gridneff, “Menaced by Trump, Canada Prepares to Join E.U. Military Industry Buildup,” The New York Times, March 19, 2025. https://www.nytimes.com/2025/03/19/world/canada/canada-eu-military-industry-trump.html
[9] Ibid
باحث علاقات دولية بمركز ترو للدراسات