Cairo

الاستقالات الوزارية في هولندا وتداعياتها على الموقف الأوروبي من إسرائيل

قائمة المحتويات

باحث مساعد في النظم و النظرية السياسية بمركز ترو للدراسات والتدريب

مع استمرار الأزمة الإنسانية في غزة وتصاعد وتيرة الحرب فيها، بدأت العديد من الدول الأوروبية بمراجعة مواقفها السياسية تجاه إسرائيل. كما بدأ قطاع من الرأي العام الأوروبي في التحول إزاء سياسات تل أبيب في الحرب، بسبب قتل المدنين وإنتهاك حقوق الإنسان بشكل مستمر، إذ برز اتجاه متنامٍ داخل الرأي العام الأوروبي انتقل من تأييد الحرب إلى معارضتها، وهو ما شكّل ضغطًا سياسيًا وأخلاقيًا متزايدًا على الحكومات الأوروبية من قِبل شعوبها، ودفع بعض هذه الحكومات إلى انتهاج مواقف أكثر تشددًا في التعامل مع إسرائيل.

وقد انعكس هذا التحول بوضوح في المشهد السياسي الهولندي، حيث دفعت الضغوط الشعبية والاعتبارات الإنسانية عددًا من الوزراء، وعلى رأسهم وزير الخارجية الهولندي كاسبار فيلدكامب، إلى تقديم استقالاتهم في 22 أغسطس 2025 احتجاجًا على رفض الحكومة الهولندية فرض إجراءات أو عقوبات إضافية على إسرائيل. وفي خضم هذه الأزمة، برزت الاستقالات الهولندية كجزء من مشهد سياسي أوسع لتغيّر الموقف الأوروبي، وتحول سياساتها الخارجية تجاه إسرائيل من دعم غير محدود إلى مقاربة أكثر حذرًا واشتراطًا، تقوم على ربط استمرار التعاون السياسي والاقتصادي بمدى التزام إسرائيل بالقانون الدولي واحترام حقوق الإنسان وتجنب انتهاكه.

وانطلاقًا مما سبق، يسعى هذا المقال إلى تحليل الأزمة السياسية الأخيرة، الخاصة بالاستقالات الوزارية في هولندا، من خلال رصد انعكاسات هذا الأمر على المشهد السياسي الهولندي بشكل عام والسياسة الخارجية الهولندية تجاه إسرائيل بشكل خاص، ومن ثم استشراف مستقبل العلاقات الأوروبية – الاسرائيلية.

أولًا: دوافع الاستقالات في الحكومة الهولندية

في 22 أغسطس 2025، قدّم وزير الخارجية الهولندي كاسبار فيلدكامب استقالته بعد فشله في إقناع الحكومة بفرض عقوبات إضافية على إسرائيل، واستمرار الحرب الإسرائيلية على غزة. وتبِع استقالته في ذات اليوم عددًا من الوزراء الآخرين المنتمين إلى حزب “العقد الاجتماعي الجديد”، وهو الحزب ذاته الذي ينتمي إليه وزير الخارجية. وقد شملت قائمة المستقيلين: وزير الخارجية كاسبار فيلدكامب، ونائب رئيس الوزراء ووزير الشؤون الاجتماعية والتوظيف إيدي فان هيخيم، ووزيرة الداخلية والعلاقات مع المملكة جوديث أوترمارك، ووزير التعليم والثقافة والعلوم إيبو بروينز، ووزيرة الصحة والرعاية والرياضة دانييل يانسن، بالإضافة إلى أربعة وزراء دولة. وبذلك يكون حزب “العقد الاجتماعي الجديد”، المعروف بتوجهه الوسطي – المحافظ أو يمين الوسط وحرصه على العدالة الاجتماعية والشفافية السياسية، قد انسحب كليًا من الائتلاف الحزبي الذي يشكّل حكومة تصريف الأعمال، في خطوة عكست تمسّكه بمبادئه الأخلاقية والإنسانية ورفضه الاستمرار في سياسة تتعارض مع قناعاته.[1]

عانت الحكومة الهولندية من أزمة أخرى سبقت هذه الأزمة الحالية؛ إذ انهارت في 3 يونيو 2025 عقب انسحاب حزب “من أجل الحرية” وهو حزب يميني متطرف، بقيادة خيرت فيلدرز من الائتلاف الحاكم، على خلفية خلافات حول سياسة اللجوء والهجرة. وبعد هذا الانسحاب بدقائق، قدّم رئيس الوزراء الهولندي آنذاك ديك شوف استقالته، وهو ما أدى إلى انهيار الحكومة الهولندية وانتقالها إلى وضعية “تصريف الأعمال” مع بقاء بعض الوزراء في مناصبهم من بينهم وزير الخارجية كاسبر فيلدمكامب، الذي استمر في منصبه حتى تقديم استقالته في 22  أغسطس 2025، وذلك إلى حين إجراء انتخابات برلمانية مبكرة في أكتوبر 2025.[2]

    ومما سبق يتضح أن الحكومة الهولندية تعاني من أزمات داخلية حادة نتيجة لتباين الآراء والسياسات بين الأحزاب المختلفة المكوِّنة لها، إذ إن النظام السياسي في هولندا برلماني يقوم على تشكيل الحكومات عبر الائتلافات الحزبية. وبحكم وجود اختلاف في وجهات النظر بين الأحزاب، فإن ذلك قد يؤدي إلى هشاشة الحكومة، والتي غالبًا ما تنتهي بالانهيار نتيجة هذه الخلافات.

وما حدث في الحكومة الهولندية من استقالات وزارية نتيجة لرفضها فرض عقوبات إضافية على إسرائيل يُعَدّ حدثًا فريدًا من نوعه، ويُثبت أن الموقف الأوروبي عمومًا بدأ يشهد بعض التحولات في بعض الدول الأوروبية نحو الاحتجاج على الموقف الإسرائيلي الوحشي، وانحرافًا عن مساره الداعم غير المحدود لإسرائيل إلى موقفٍ مقيَّد لهذا الدعم، بل والداعي إلى وقفه إلى حين إنتهاء الحرب. ويتّضح ذلك من خلال تصريحات وزير الخارجية الهولندي كاسبار فيلدكامب، عندما فشل في إقناع الحكومة والبرلمان بفرض إجراءات وعقوبات إضافية ضد إسرائيل، قائلًا: “أرى أنني لست في موقع يخولني اتخاذ إجراءات إضافية ذات أهمية أو ذات معنى”؛  حيث يرى أن الحكومة الهولندية يجب أن تتخذ إجراءات أكثر تشددًا تجاه إسرائيل، الأمر الذي دفعه إلى تقديم استقالته من الحكومة، ثم تبعه في ذلك الوزراء الثمانية الآخرون.[3]

وقد يكون جزء من دوافع الاستقالات الوزارية الأخيرة مرتبطًا بالاعتبارات السياسية والانتخابية. حيث يشير بعض المراقبين إلى أن أن استقالة وزير الخارجية الهولندي وزملائه من حزب “العقد الاجتماعي الجديد” جاءت في توقيت حساس قبل الانتخابات البرلمانية المقررة في أكتوبر 2025، في ظل تصاعد الرأي العام الأوروبي ضد السياسات الإسرائيلية في غزة. وبهذه الخطوة، يمكن للحزب أن يظهر بمظهر مدافع عن القيم الإنسانية ويستثمر غضب الشارع ضد الحرب على غزة لكسب تأييد الناخبين. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن إنكار أن هناك بعدًا أخلاقيًا وسياسيًا حقيقيًا لهذا الفعل، حيث عبّر المستقيلون عن رفضهم استمرار العدوان على المدنيين في غزة. وقد يؤدي هذا الفعل أيضًا إلى أرتفاع شعبية الأحزاب المناهضة لسياسات تل أبيب في غزة، وهو ما يزيد من أحتمالية فوز هذه الأحزاب في الأنتخابات القادمة.[4]

ومع ذلك، ليست هذه هي المرة الأولى التي تناقش فيها هولندا فرض عقوبات أو اتخاذ إجراءات ضد إسرائيل؛ إذ باتت هولندا في الآونة الأخيرة تنتهج سياسات أكثر تشددًا من الناحية السياسية تجاه تل أبيب. فبعد أن كانت تُعد من أكثر الحلفاء الأوروبيين ثباتًا لإسرائيل لعقود طويلة، بدأت تشهد مواقفها تحولًا واضحًا من الدعم المطلق إلى المعارضة. وشرعت قطاعات واسعة من الرأي العام الهولندي في التغير إزاء سياسات تل أبيب. وهو ما أوصل هولندا إلى أزمة الاستقالات الوزارية الأخيرة.

ثانيًا: تحولات السياسية الخارجية الهولندية تجاه إسرائيل وتداعيات الاستقالات الحكومية على السياسة الخارجية لهولندا

شهدت السياسة الخارجية الهولندية تحولات ملحوظة في مواقفها تجاه إسرائيل؛ ولطالما كانت هولندا تُعَدّ من أبرز الداعمين لإسرائيل على الساحة الأوروبية بل والدولية أيضًا. غير أن الموقف الهولندي تغيّر بصورة واضحة بعد أحداث السابع من أكتوبر، حيث انتقلت هولندا من موقع أحد أكبر الداعمين لإسرائيل إلى موقع المعارض الأبرز لسياساتها في قطاع غزة خلال الحرب. وقد انعكس هذا التحول في الاستقالات الوزارية التي جاءت احتجاجًا على ما تقوم به إسرائيل في غزة. وفيما يلي سنستعرض أهم المحطات التاريخية التي تجسّد الدعم الهولندي لإسرائيل، ثم التحولات التي أعقبت السابع من أكتوبر 2023، وصولًا إلى أزمة الاستقالات الوزارية وما تلاها من تطورات.

أ-السياسية الخارجية الهولندية تجاه إسرائيل وتحولاتها قبل الاستقالات الوزارية

لطالما اعتُبرت هولندا من أكثر الحلفاء الأوروبيين ثباتًا لإسرائيل، حيث تُعد هولندا من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل رسميًا عام 1949، وأقامت معها علاقات دبلوماسية. وقد ارتكز هذا الدعم تاريخيًا، بحسب موقع Europrospects، على مشاعر الذنب تجاه المحرقة (الهولوكوست)، التي راح ضحيتها، بحسب تقدير بعض المصادر، أكثر من 75% من يهود هولندا خلال الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى القيم الديمقراطية المشتركة المعلنة بين البلدين. كما مثّلت هولندا مركزًا قويًا للضغط المؤيد لإسرائيل داخل المؤسسات الأوروبية، وهو ما انعكس في دعم ما تدعيه إسرائيل من حقها في الدفاع عن نفسها، والاكتفاء بانتقادات حذرة لممارساتها في الأراضي الفلسطينية، مع الأخذ في الاعتبار أنه ليس للمحتل حق الدفاع عن النفس. وقد بلغت قيمة الصادرات الهولندية إلى إسرائيل عام 2022 نحو 2.44 مليار دولار، فيما تجاوزت الاستثمارات المتبادلة عام 2023 حاجز 49 مليار يورو من الجانب الهولندي و47 مليار يورو من الإسرائيلي، وهو ما يعكس متانة ووثاقة العلاقات الاقتصادية بين الدولتين. وقد امتد هذا التعاون إلى مجالات التكنولوجيا المتقدمة والطاقة النظيفة والرعاية الصحية والزراعة الدقيقة، مدعومًا بإطار مؤسسي من الشراكات الثنائية والزيارات الرسمية المنتظمة.[5]

وعلى الرغم من الدعم الكبير الذي قدمته هولندا لإسرائيل والعلاقات الثنائية الوثيقة بين البلدين، فإن الموقف الهولندي تجاه تل أبيب بدأ يتغير تدريجيًا بعد أحداث السابع من أكتوبر. حيث شهدت الساحة الداخلية الهولندية تحولات كبيرة في العديد من قطاعات الرأي العام الهولندية تجاه إسرائيل ، وهو ما انعكس بشكل مباشر على سياسات الحكومة. فبينما كانت هولندا تُعدّ من أكثر الدول الأوروبية ثباتًا في دعم تل أبيب، أظهرت استطلاعات حديثة أجرتها مؤسسة “Ipsos I&O” في أبريل 2025 تراجعًا غير مسبوقًا في التأييد الشعبي؛ إذ انخفضت نسبة الدعم للسياسة الهولندية المؤيدة لإسرائيل إلى نحو 15% فقط في أبريل 2025، مقارنة بـ 29% في أكتوبر 2023. في المقابل، ارتفعت نسبة المعارضين الذين يرفضون الموقف الرسمي إلى 27%، بينما طالب أكثر من 54% من الهولنديين بأن تتبنى حكومتهم موقفًا أكثر تشددًا تجاه إسرائيل، بعدما كانت هذه النسبة لا تتجاوز 47% في الاستطلاعات السابقة.[6]

هذه التحولات الداخلية لم تبقَ محصورة في الرأي العام فقط، بل امتدت إلى المشهد السياسي وصناعة القرار داخل الحكومة الهولندية. فقد خرجت مظاهرات واسعة في هولندا، أبرزها في 20 أبريل 2025 بمدينة روتردام بمشاركة أكثر من 10 آلاف متظاهر طالبوا بوقف إطلاق النار ومراجعة الموقف الرسمي تجاه الصراع.  كما شهدت لاهاي في 18 مايو 2025 مظاهرة ضخمة تحت شعار “الخط الأحمر” شارك فيها أكثر من 100 ألف محتجّ، تبعها أكبر احتجاج منذ عقود في 15 يونيو 2025 بمشاركة نحو 150 ألف متظاهر. وتحت هذا الضغط الشعبي، بدأنا نرى تغيرًا في خطاب الحكومة وظهور مواقف وزارية أكثر انتقادًا للسياسات الإسرائيلية في غزة.[7]

ويُعتبر أول تحول حقيقي حدث في مسار العلاقات الهولندية – الإسرائيلية هو قرار محكمة الاستئناف في لاهاي في 12 فبراير 2024، الذي قضى بوقف تصدير جميع أجزاء مقاتلاتF-35  من هولندا إلى إسرائيل، مستندًا إلى وجود “خطر واضح بانتهاك إسرائيل للقانون الإنساني الدولي” في عملياتها العسكرية بقطاع غزة. وألزمت المحكمة الحكومة الهولندية بتنفيذ القرار خلال سبعة أيام، في خطوة شكلت منعطفًا بارزًا أدخل البعد القانوني والإنساني بقوة إلى صلب السياسة الهولندية تجاه إسرائيل، ومثّل بداية التراجع عن الدعم التقليدي الثابت الذي ميّز العلاقات الثنائية لعقود. [8] وإلى جانب قرار محكمة الاستئناف الهولندية، شكّلت الإدانات الصادرة عن محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد إسرائيل تطورًا بالغ الأهمية بالنسبة لهولندا. فالمحكمة – باعتبارها أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة – أصدرت منذ 26 يناير 2024 أوامر مؤقتة لإسرائيل بضرورة اتخاذ إجراءات لمنع ارتكاب أعمال إبادة جماعية في غزة، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وهو ما اعتُبر خطوة تاريخية.[9]  كما شهد يوم 20 مايو 2024 تطورًا لافتًا حين تقدّم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، بطلب لإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وقد أصدرت المحكمة بالفعل استجابةً لهذه الدعوه في 21 نوفمبر 2024 قرارًا بحق إعتقال كل من بنيامين نتنياهو (رئيس الحكومة الإسرائيلية) ويوآف غالانت (وزير الدفاع الإسرائيلي السابق). [10]

وتزداد أهمية هذه القرارات بالنسبة لهولندا لكون مقري المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية يقعان في مدينة لاهاي على أراضيها، ما يضع الحكومة الهولندية تحت أنظار المجتمع الدولي، ويحملها مسؤولية مضاعفة في احترام وتنفيذ الأحكام الصادرة عن المؤسستين القضائيتين الأمميتين اللتين تستضيفهما. ومن ثم، فإن تزامن هذه التطورات القضائية مع التحولات في الرأي العام الهولندي منحها وزنًا سياسيًا وأخلاقيًا كبيرًا، وأثر بشكل مباشر على صورة العلاقات الهولندية – الإسرائيلية.[11]

غير أن هولندا، في 7 مايو 2025، دعت إلى إعادة النظر في اتفاقيات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل الموقعة عام 1995، نظرًا لأن بنود تلك الاتفاقيات تتضمن احترامًا لحقوق الإنسان، وهو ما تخالفه إسرائيل في حربها على غزة. وقد أدت هذه الدعوة إلى إعادة فتح الملف ومناقشته رسميًا خلال اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في 20  مايو 2025.[12] كما أعلنت هولندا، في 29 يوليو 2025، منع وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير من دخول أراضيها، واعتبرتهما شخصين غير مرغوب فيهما. وجاء هذا القرار نتيجة لتحريض هذين الوزيرين المستمر على العنف ضد الفلسطينيين، ودعوتهما إلى توسيع المستوطنات غير القانونية وإلى التطهير العرقي في قطاع غزة.[13]

أدرجت هولندا إسرائيل، ولأول مرة في تاريخها، ضمن قائمة الدول التي تُشكّل تهديدًا رسميًا لأمنها القومي في 17 يوليو 2025، وجاء هذا القرار على خلفية الضغوط التي تمارسها إسرائيل على مؤسسات دولية، لاسيما المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، بالإضافة إلى حملات التضليل التي تقوم بها عبر نشر أكاذيب تؤثر في الرأي العام العالمي، والهولندي على وجه الخصوص، وهو ما اعتبرته هولندا تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. وأشارت التقارير الأمنية في هولندا إلى أن إسرائيل قامت بتوزيع وثيقة صادرة عن وزارة شؤون الشتات ومكافحة معاداة السامية مباشرة إلى عدد من الصحافيين والبرلمانيين الهولنديين، متجاوزة بذلك القنوات الدبلوماسية الرسمية. وقد اعتبرت الحكومة الهولندية هذه الخطوة “غير معتادة وغير مرغوب فيها”، محذِّرة من أنّها قد تعرّض الأفراد الواردة أسماؤهم في الوثيقة لمضايقات أو حتى تهديدات فعلية.[14]

وبناءً على ذلك، نجد أن النتيجة الواضحة لسلوك الحكومة الهولندية تجاه إسرائيل تتمثل في تصعيد موقفها الرسمي وزيادة الإجراءات الدبلوماسية والاقتصادية، بما في ذلك الدعوة إلى فرض عقوبات إضافية على إسرائيل. وقد أدى هذا الموقف الصارم إلى أزمة الاستقالات الوزراية الأخيرة، بعد رفض الحكومة والبرلمان الحالي زيادة العقوبات، وهو ما عمّق الانقسامات داخل الائتلاف الحاكم وأضعف قدرته على اتخاذ قرارات حاسمة.

ب-السياسة الخارجية الهولندية تجاه إسرائيل بعد الاستقالات الحكومية

  لم تتغير السياسة الخارجية الهولندية تجاه إسرائيل بعد الاستقالات الوزارية، إذ استمرت على نفس النهج المعارض لسياسات تل أبيب في حربها على غزة. حيث يتضح من الجزء السابق أن الحكومة الهولندية تسعى باستمرار إلى الحد من السياسات الإسرائيلية الوحشية، من خلال فرض إجراءات وعقوبات والضغط دبلوماسيًا على تل أبيب. وتأتي مواقف الوزراء المستقيلين امتدادًا لهذه السياسات، إذ تعكس حالة من الرفض الداخلي المتنامي لأي تهاون مع الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين. ويشير ذلك إلى أن الاستقالات لم تكن مجرد حدث سياسي عابر، بل تمثل جزءًا من مسار متصاعد في السياسة الهولندية يتجه نحو مزيد من التشدد والصرامة في التعامل مع إسرائيل، انسجامًا مع التحولات الأوسع داخل الاتحاد الأوروبي تجاه هذه القضية.

ويتمثل الأثر العميق لهذه الاستقالات في البعد الرمزي والسياسي، كونها أظهرت للرأي العام الأوروبي والدولي أن الخلاف حول إسرائيل لم يعد مقتصرًا على الشارع أو المجتمع المدني، بل وصل إلى قلب المؤسسات الحاكمة، وبذلك نجد أن الخلاف حول دعم إسرائيل لم يعد مجرد اختلاف داخلي فقط، بل امتد ليؤثر في استقرار الحكومات ومؤسساتها. وهذا التطور يفتح الباب أمام إعادة صياغة السياسة الخارجية الهولندية على المدى المتوسط، بحيث تصبح أكثر انسجامًا مع الضغوط الشعبية والأوروبية المتزايدة لوقف الانتهاكات الإسرائيلية، وربما الدفع باتجاه مواقف أوروبية موحدة أكثر صرامة.

وعلى الرغم من استمرار الجدل السياسي الداخلي في هولندا، لم يتمكن البرلمان الهولندي من تمرير حزمة عقوبات إضافية على إسرائيل، مثل حظر شراء الأسلحة أو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، اقتصر في قراراته الأخيرة على الدعوة إلى السماح بدخول مراقبين دوليين إلى قطاع غزة لمتابعة الأوضاع الإنسانية هناك. ومع ذلك، يبقى حدث الاستقالات الوزارية الهولندية تحولًا هامًا في مسار العلاقات الهولندية – الإسرائيلية، ومؤشرًا هامًا على تحولات أوروبية كبرى تجاه إسرائيل.

ثالثًا: ارتدادات الأزمة في الحكومة الهولندية على الموقف الأوروبي من إسرائيل

أثارت الاستقالات الوزارية في هولندا ارتدادات واسعة داخل الاتحاد الأوروبي، حيث شكّلت مؤشرًا على تصاعد الانقسام داخل النخب السياسية الأوروبية بشأن كيفية التعامل مع السياسات الإسرائيلية في غزة. فقد عكست استقالات الوزراء الهولنديين حجم الضغوط الشعبية والأخلاقية التي لم تعد بعض الحكومات قادرة على تجاهلها، الأمر الذي عزّز من مصداقية التيارات الأوروبية الناقدة لإسرائيل. هذا الانقسام تخطى نطاق الرأي العام داخل الدول الأعضاء، وأصبح جليًا في المواقف الرسمية المتباينة بين الدول الأوروبية نفسها.

برز هذا التباين بشكل واضح خلال اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في كوبنهاغن في 30 أغسطس 2025، حيث برز خلاف عميق حول كيفية الرد على الحرب في غزة. فقد دعت عدد من دول الاتحاد الأوروبي مثل هولندا وإيرلندا وإسبانيا إلى استخدام أدوات الضغط الاقتصادي، بما في ذلك تعليق اتفاقية الشراكة مع إسرائيل والتوقف عن تمويل البرامج البحثية، في حين أبدت دول أخرى، مثل ألمانيا والمجر، تحفظًا على هذه الإجراءات بدعوى الحفاظ على استقرار العلاقات الاستراتيجية مع تل أبيب. هذا الانقسام يعكس صراعًا بين تيار متنامٍ يطالب بالتحرك ضد الانتهاكات الإسرائيلية وتيار آخر يسعى إلى الحفاظ على الوضع القائم.[15]

إلى جانب ذلك، برزت تحولات عملية في مواقف بعض الدول الأوروبية قبل حدوث الاستقالات الوزارية الهولندية، وقد لاقت هذه التحولات صداها في الأوساط السياسية المختلفة. فمثلًا، أعلنت سلوفينيا في مطلع أغسطس 2025 أنها ستحظر استيراد وتصدير ونقل الأسلحة والمعدات العسكرية من وإلى إسرائيل بسبب الحرب على غزة.[16]  كما اتخذت ألمانيا، التي تُعد أبرز داعم عسكري وسياسي لإسرائيل تاريخيًا، قرارًا غير مسبوق في 8 أغسطس 2025 بوقف تصدير المعدات العسكرية التي قد تُستخدم في الحرب على القطاع، وذلك ردًا على خطة إسرائيل للسيطرة على مدينة غزة، هذا القرار يمثل تحولًا نوعيًا في السياسة الألمانية، ويعكس حجم تأثير الضغوط الشعبية والتحولات في الرأي العام الأوروبي.[17]

بالإضافة إلى ما سبق، أعلن رئيس الوزراء الأسباني، بيدرو سانشيز، في 8 سبتمبر 2025، عن إتخاذ عدة إجراءات تجاه إسرائيل لوقف الإبادة من بينهم: منع جميع الطائرات التي تنقل مواد دفاعية إلى إسرائيل من دخول المجال الجوي الإسباني، كذلك حظر دخول جميع الأفراد المشاركين بشكل مباشر في الإبادة الجماعية وجرائم الحرب إلى الأراضي الإسبانية، وحظر استيراد المنتجات من المستوطنات غير الشرعية في غزة والضفة الغربية. وتلك الإجراءات تعد من الأحداث البارزة التي تشير إلى تحولات هامة في الاتحاد الأوروبي. وبذلك يمكن القول إن استقالات الوزراء الهولنديين لم تكن حدثًا معزولًا، بل ساهمت في تسريع ديناميكيات أوسع داخل الاتحاد الأوروبي نحو إعادة النظر في العلاقة مع إسرائيل.

وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي لم يتبنى حتى الآن سياسة موحدة وحازمة تجاه إسرائيل، فإن استقالات الوزراء الهولنديين أسهمت في رفع مستوى الجدل السياسي داخل بروكسل. فقد تحوّل النقاش من مجرّد إدانة لفظية إلى طرح خطوات عملية مثل مراجعة اتفاقيات الشراكة أو فرض قيود على المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في التحريض والعنف. ومن ثمّ، يمكن القول إن هذه الاستقالات مثّلت نقطة انعطاف في مسار الموقف الأوروبي كخطوة إضافية نحو التشدد ضد السياسات الإسرائيلية العنيفة تجاه المدنيين في غزة، حتى وإن ظلّ التوجّه الغالب داخل الاتحاد الأوروبي الداعم لإسرائيل يشكّل عائقًا أمام بلورة موقف جماعي حاسم.[18]

وختامًا، يمكن القول إن الاستقالات الوزارية في هولندا لم تمضِ دون أثر، بل شكّلت عاملًا محفّزًا لإعادة التفكير في الموقف الأوروبي تجاه إسرائيل على مستويات متعددة؛ سواء داخل الحكومات أو في الأوساط البرلمانية والشعبية. ويبدو أن هذا الحدث لم يعد مجرد أزمة داخلية مرتبطة بهولندا، بل أصبح جزءًا من ديناميات أوسع تعيد رسم ملامح السياسة الأوروبية في الشرق الأوسط، ورمزًا سياسيًا لرفض كافة أشكال الحرب في غزة. وقد يتجه الاتحاد الأوروبي في الفترة القادمة إلى تعزيز أدوات الضغط الدبلوماسي عبر تكثيف الإدانات الرسمية وتوسيع دائرة المواقف المنسقة داخل المؤسسات الأوروبية. بالإضافة إلى أن هناك احتمال متزايد لتبنّي عقوبات اقتصادية أو قيود على صادرات السلاح في العديد من الدول الأوروبية، لا سيما في ظل تصاعد الضغوط الشعبية وتنامي دور محكمة العدل الدولية. ومع ذلك، يبقى الدعم الأوروبي لإسرائيل حاضرًا، مدفوعًا بجملة من الاعتبارات الاقتصادية والسياسية المرتبطة بالبنية الرأسمالية للنظم الأوروبية والغربية عمومًا، والذي يعد الرابطة الأساسية بين الدول الغربية وإسرائيل.

وهكذا، فإن ما بدأ كموجة استقالات داخلية في هولندا قد يتحول مستقبلًا إلى نقطة انطلاق لمسار أوروبي جديد، تتراوح مخرجاته بين إصلاح تدريجي في أدوات الضغط الدبلوماسي، وصولًا إلى إعادة صياغة، حتى ولو شكلية، للعلاقة مع إسرائيل، في ظل سياق دولي يتجه أكثر فأكثر نحو مساءلة تل أبيب والحد من استثنائيتها السياسية.


1 حسن رمضان، “أزمة سياسية تضرب هولندا.. استقالات وانسحابات من الحكومة بسبب إسرائيل“، جريدة الوطن، 23 أغسطس 2025. أزمة سياسية تضرب هولندا.. استقالات وانسحابات من الحكومة بسبب إسرائيل – الوطن

2 علي المخلافي، “انهيار الحكومة الهولندية نتيجة تمسك فيلدرز بسياسة هجرة صارمة”، جريدة Deutsche Welle، 3 يونيو 2025. انهيار الحكومة الهولندية نتيجة تمسك فيلدرز بسياسة هجرة صارمة – DW – 2025/6/3

3 وكالات أبو ظبي، “استقالة وزير خارجية هولندا بعد “عقوبات محتملة” على إسرائيل“، sky news  عربية، 23 أغسطس 2025. استقالة وزير خارجية هولندا بعد “عقوبات محتملة” على إسرائيل | سكاي نيوز عربية

4 “أزمة سياسية تضرب هولندا: استقالات وزراء بسبب خلافات حول غزة والاستيطان“، الدليل نيوز، 27 أغسطس 2025. أزمة هولندا السياسية: البرلمان في جلسة طارئة بعد استقالات 2025 مدوية بسبب غزة

5 خالد كريزم، “76 عاماً من الدعم والاعتراف.. لماذا غيرت هولندا موقفها من إسرائيل؟”، صحيفة الاستقلال،   أغسطس 2025. 76 عاما من الدعم والاعتراف.. لماذا غيرت هولندا موقفها من إسرائيل؟ – صحيفة الاستقلال

See also: López, : Ximena, “From Ally to Advocate: The Dutch Pivot on Israel”, Euro Prospects ,May 25, 2025. From Ally to Advocate: The Dutch Pivot on Israel – Euro Prospects

6 “انقلاب في الرأي العام الهولندي: تراجع غير مسبوق لدعم إسرائيل”، جريدة هنا هولندا، 22 أبريل 2025. انقلاب في الرأي العام الهولندي: تراجع غير مسبوق لدعم إسرائيل | هنا هولندا

[7]Tens of Thousands Protest in Netherlands over Israel’s Actions in Gaza,” Reuters, June 15, 2025. Tens of thousands protest in Netherlands over Israel’s actions in Gaza | Reuters

[8] QUELL, MOLLY, “Dutch appeals court orders Netherlands to stop exports of F-35 parts to Israel, citing war in Gaza”, AP News,  February 12, 2024. Dutch appeals court orders Netherlands to stop exports of F-35 parts to Israel, citing war in Gaza | AP News

[9]Gaza: World Court Orders Israel to Prevent Genocide,” Human Rights Watch, January 26, 2024.

10طلب إصدار مذكرة اعتقال في حق نتنياهو والسنوار وآخرين“، Deutsche Welle (DW)، 20 مايو 2025. طلب إصدار مذكرة اعتقال في حق نتنياهو والسنوار وآخرين – DW – 2024/5/20

[11]  QUELL, MOLLY and CASERT, RAF, “ICC condemns sanctions by Trump administration and pledges to continue its work,” AP News, February 7, 2025.

12 Lorne Cook, “The Netherlands Wants to Force a Review of EU Ties with Israel as Concerns Grow over Gaza,” AP News, May 8, 2025. The Netherlands wants to force a review of EU ties with Israel as concerns grow over Gaza | AP News

13هولندا تمنع وزيرين إسرائيليين من دخول أراضيها.. وسموتريتش وبن غفير يردان“، CNN بالعربي، 29 يوليو 2025. هولندا تمنع وزيرين إسرائيليين من دخول أراضيها.. وسموتريتش وبن غفير يردان – CNN Arabic

14هولندا تعلن إسرائيل تهديدًا لأمنها القومي … وتمنع وزيرين من دخول أراضيها“، جريدة مونت كارلو الدولية، 23 يوليو 2025. هولندا تعلن إسرائيل تهديدًا لأمنها القومي … وتمنع وزيرين من دخول أراضيها

[15] Andrew Gray, “EU ministers split over Gaza in Copenhagen meeting”, Reuters, August 30, 2025. EU ministers split over Gaza in Copenhagen meeting | Reuters

16سلوفينيا تعلن حظر عبور وتجارة الأسلحة مع إسرائيل بسبب الحرب في غزة“، فرانس 24، 1 أغسطس 2025.

سلوفينيا تعلن حظر عبور وتجارة الأسلحة مع إسرائيل بسبب الحرب في غزة

17ألمانيا تقرر تعليق تصدير الأسلحة المستخدمة في حرب غزة لإسرائيل“، جريدة النهار عربي، 8 أعسطس 2025. ألمانيا تقرر تعليق تصدير الأسلحة المستخدمة في حرب غزة لإسرائيل

[18] Gray, Andrew, “EU ministers split over Gaza in Copenhagen meeting”, Reuters, August 30, 2025. EU ministers split over Gaza in Copenhagen meeting | Reuters

باحث مساعد في النظم و النظرية السياسية بمركز ترو للدراسات والتدريب

الميتافيزيقا السياسية للسلطة في فلسطين
رؤية جون ميرشايمر لحربي إسرائيل وروسيا ومستقبل النظام الدولي
التكنولوجيا الحيوية كأداة للقوة التنافس السياسي والاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين في سباق الهيمنة العالمية
WhatsApp Image 2025-08-30 at 01.53
مخرجات قمة ألاسكا بين ترامب وبوتن
Scroll to Top