مقدمة
باتت الشركات العسكرية الخاصة لاعبًا مؤثرًا على الساحة الدولية، فهي تنخرط في أدوارٍ سرية وعلنية على حدٍ سواء، لتصبح واحدة من الفعالين الجدد من دون الدول، ويتجلى هذا الدور المؤثر بشكل واضح في الصراعات والحروب حول العالم. وتأتي شركة “فاغنر” الروسية على رأس هذه الشركات العسكرية الخاصة بوصفها وكيلاً لروسيا في حروبها وتدخلاتها في أوكرانيا وسوريا وأفريقيا.
فاغنر كانت بمثابة أداة استخدمتها روسيا لتحقيق أهداف سياساتها الخارجية. ولكن تمرد الشركة في 23 يوليو 2023، وبعدها مصرع زعيمها يفغيني بريغوجين في 23 أغسطس 2023، أثار العديد من التكهنات بشأن مستقبل الشركة وعملياتها في مختلف البلاد حول العالم.[1] وها قد مر عام على هذه الأحداث، وما زال مقاتلو فاغنر في مواقعهم، ولكن تحت مسمى جديد وهو الفيلق الأفريقي. كما تم فتح الباب أمام تجنيد عناصر أفريقية لخبرتها. هذا الفيلق هو مجرد إعادة هيكلية لشركة فاغنر لتكون تابعة بشكل مباشر فيما يتعلق بإصدار الأوامر والتمويل لوزارة الدفاع الروسية. والمسؤول الرئيس عن هذا الفيلق هو نائب وزير الدفاع الروسي “يونس بك يفكيروف”.[1]
تغيير الاسم واستمرار الدور:
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن شركة فاغنر ليست الشركة العسكرية الوحيدة التي قامت بتغيير اسمها، فبعد حدوث مأساة النسور التي نفذتها شركة “بلاك واتر” الأمريكية في العراق، والتي أسفرت عن سقوط عدد كبير من الضحايا المدنيين، وقد اجهت الشركة تداعيات قانونية وأصبحت معروفة بسمعتها السيئة، ونتيجة لذلك فقد قررت الشركة تغيير اسمها إلى شركة “أكاديمي”.
ومن ثم تظهر هذه الحالات، أن عمليات تغيير اسم الشركات العسكرية لا تعدو كونها إجراءً صورياً، ومجرد تغييراتٍ شكلية تُتخذ لتفادي الملاحقة القانونية، أو لإعادة هيكلة هذه الشركات وتعزيز السيطرة عليها، وذلك كما حدث تمامًا مع شركة فاغنر. ومع ذلك، يبقى مقاتلوها وعملياتها بلا تغيير ملموس، حيث تستمر في تنفيذ مهامها التي تخدم بشكل أساسي الأجندة السياسية الخارجية للدولة الراعية.[2]
مبررات الاستمرار:
تتعدد الأسباب التي تمنع روسيا من تفكيك شركة فاغنر والتخلي عن خدمات مقاتليها حول العالم، ويُستند ذلك في النظر إلى أدوارها وخدماتها على المستويين؛ الدولي والمحلي. فعلى المستوى الدولي، يتضح أن فاغنر هي وكيل روسيا في العديد من الصراعات حول العالم، وقد أثبتت فعاليتها في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الروسية. فعلى سبيل المثال، مكنت فاغنر روسيا من تحقيق مكاسب سياسية من خلال التدخل في العديد من الصراعات والحروب، دون التورط في أي مواجهة مباشرة مع الغرب ودون أن يقع عليها أي مسؤولية قانونية.[3] وكذا أصبحت روسيا لاعبًا محورياً في مختلف الصراعات. كما أنها اقتصاديًا سهلت عملية السيطرة على العديد من الموارد في الدول العاملة بها مثل مناجم الذهب وآبار البترول والغاز الطبيعي ومصادر اليورانيوم في العديد من الدول الأفريقية مثل السودان وليبيا والنيجر. وهو ما فتح الباب لعديد من الشركات الروسية العاملة في هذه المجالات للعمل في هذه الدول. أما عسكريا، فقد ساعدت فاغنر روسيا في تحقيق العديد من الانتصارات في معارك مختلفة في سوريا وأوكرانيا، علاوة على مشاركتها في تجهيز قواعد عسكرية لروسيا في أفريقيا، لذا فإنه سيكون من الصعب على روسيا التخلي عن هذا الوكيل، لأن بديل ذلك يعني أنها ستحتاج إلى استبدال وجود فاغنر في العديد من المناطق بتواجد عسكري روسي وهو ما سيكون مكلفًا سياسيًا واقتصاديًا.[4]
أثر فاغنر على الدول العاملة بها محليًا:
وعلى الصعيد المحلي بالنسبة للدول التي تعمل بها فاغنر، فإن الكثير من الدول الأفريقية تعتمد على شركة فاغنر للحصول على المساعدات الأمنية والتدريب العسكري وفي العمليات القتالية، ومن المؤكد أن خروج فاغنر من هذه الدول سيؤدي إلى أزمات سياسية وأمنية. ونذكر هنا أمثلة على هذا الدور الفاعل بالدول الأفريقية. ففي مالي من الممكن أن يؤدي انسحاب قوات فاغنر إلى تسريع وتيرة سيطرة المنظمات الإرهابية على مساحات شاسعة تم تحريريها مسبقًا. كما أن الدول الأفريقية أصبحت في حاجة ماسة إلى فاغنر، خاصة بعد انسحاب القوات الفرنسية وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة من مناطق مختلفة، وذلك مثل انسحاب بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد، لتحقيق الاستقرار في جمهورية أفريقيا الوسطى. علاوة على ذلك، طورت فاغنر علاقات وثيقة مع هذه الحكومات، وهو ما مكنها من بناء موارد مالية مستقلة إلى حد ما، الأمر الذي سيجعل من الصعب على روسيا استبدالها، علاوة على ذلك فقد أظهرت التطورات الحالية التي تشمل استمرار بناء فاغنر لقواعد عسكرية، أنها لن تغاد بل على العكس تعزز من مكانتها بإفريقيا. فعلى سبيل المثال، بالقرب من مطار باماكو، تقوم فاغنر ببناء قاعدة وهي علامة واضحة على أن فاغنر تعزز موقعها في أفريقيا.[5]
خاتمة:
وبناءً على ما تم ذكره، يتضح أن شركة فاغنر قدمت خدمات ملموسة لروسيا، ولذلك كان من الصعب عليها تفكيك الشركة أو التخلي عن مقاتليها، فقد أثبتت فكرة الشركات العسكرية الخاصة فاعليتها، وعلى الرغم من التحفظات التي أثيرت حول قانونيتها وانتهاكات حقوق الإنسان التي قد ترتكب، إلا أنه لا يمكن لأحد أن ينكر الأثر الكبير الذي تركته على حروب ومعارك العصر الحديث، لا سيما في ظل توفير هذه الشركات بديلاً أقل تكلفة وأكثر خبرة في تنفيذ عمليات حساسة.
وفي النهاية، يجب على المجتمع الدولي العمل على وضع إطار قانوني منظم لعمل هذه الشركات، وإلا ستصبح الأمور أكثر خطورة في المستقبل وستصعب السيطرة على عددها وعملياتها، ويجب أيضًا أن نشير إلى أن الأمن لن يكون سوى سلعة إذا لم يتم التعامل معه كقيمة وحق أساسي. ومع ذلك ولسوء الحظ، تعارض الدول الكبرى وجود إطار قانوني يحكم هذه الشركات، حيث إنها تعتبر المشغل الرئيسي والمستفيد الأكبر من هذه الشركات.[6]
المراجع
[1] Stephen Sestanovich, “Who Killed Yevgeny Prigozhin?” Council on Foreign Relations, August 24, 2023. https://www.cfr.org/in-brief/who-killed-yevgeny-prigozhin.
[1] “ما هو ‘فيلق أفريقيا الروسي’ الذي يتخذ من ليبيا مقرا له؟ BBC News “، 4 يوليو 2024،https://www.youtube.com/watch?v=dG7vFZSraeM.
[2] محمود مجدي عبد الظاهر على، دور الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في الشرق الأوسط دراسة حالة: شركتي فاغنر والبلاك ووتر، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2023.
[3] محمود مجدي، “الشركات العسكرية الخاصة: شبكات للمرتزقة تنتشر عبر الحدود،” في الفاعلون العابرون للحدود: شبكات ديناميكية، تحرير د. دلال محمود. القاهرة: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 2024. https://ecss.com.eg/product/transnational-actors-are-dynamic-networks/
[4] Robert Uniacke “Russia’s Wagner Group in Libya Pressures Europe on Oil.” Foreign Policy, July 8, 2022. https://foreignpolicy.com/2022/07/08/wagner-group-libya-oil-russia-war/.
[5] “Tracing Wagner Group’s footprint in Africa – Indian Council of World Affairs (Government of India),” n.d. https://www.icwa.in/show_content.php?lang=1&level=3&ls_id=10262&lid=6527.
[6] د. دلال محمود، “موقع الشركات العسكرية الخاصة في نظرية العلاقات الدولية،” في الشركات العسكرية الخاصة: تحدي جديد في العلاقات الدولية، تحرير د. دلال محمود. القاهرة: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 2021. كتاب الشركات العسكرية تحدي جديد في العلاقات الدولية – المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية (ecss.com.eg)
باحث علاقات دولية بمركز ترو للدراسات