مقدمة
تتبع إسرائيل نهج الردع بالاغتيالات أو “التصفيات الجسدية” كجزء أساسي من استراتيجيتها الأمنية تجاه معارضيها وأعدائها سواء داخل حدودها أو خارجها، حيث تبرر إسرائيل هذا النهج بتأثيره الإيجابي على رفع الروح المعنوية في صفوف جيشها، خاصة وأن هذه الروح المعنوية في تراجع مستمر، بعد فترة طويلة من الحرب في غزة والهجمات التي يتعرض لها الجنود من تفجيرات للآليات وعمليات قنص والكمائن المفخخة التي أودت بحياة مئات الجنود وتعرض الآلاف منهم للإعاقة الجسدية أو الأمراض النفسية. ومن بين الاغتيالات البارزة التي نفذتها إسرائيل كانت اغتيال فؤاد شكر، القيادي الكبير في حزب الله الذي اتهمته إسرائيل بالتورط في هجوم صاروخي على الجولان في يوليو 2024، بالإضافة إلى اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في طهران. [1]
يعزز هذا النهج من تصاعد الأزمة وطول أمد الحرب ويؤدي إلى تصاعد الصراع في الشرق الأوسط، خاصة مع استمرار عمليات المقاومة والتصعيد في لبنان واليمن والعراق، رداً على التصعيد الإسرائيلي، لذلك تبقى هذه التطورات محورية في سياسة المنطقة وتعكس تعقيدات الصراعات والتوترات المستمرة في هذه المنطقة.
سياسة الاغتيالات “الشرعية”:
إن مثل هذه الاغتيالات المستهدفة هي شرعية بالدرجة الأولى داخل إسرائيل حيث أقرت المحكمة العليا الإسرائيلية في عام 2006 بالشرعية القانونية للاغتيالات المستهدفة ضد الأشخاص الذين يشكلون “تهديداً أمنياً” لإسرائيل وفق معايير محددة منها أن يكون الهدف يمثل تهديداً لأمن اسرائيل وذلك كأداة لمكافحة “الإرهاب”[2]، بالإضافة إلى ذلك فقد تزامنت هذه الاغتيالات مع زيارة نتنياهو للكونجرس فهل أعطته أمريكا الضوء الأخضر للشروع في التنفيذ؟[3]
وفي إطار تنفيذ عمليات الاغتيال يذكر أن إسرائيل قامت بإنشاء وحدة “نيلي” تحت إشراف الموساد والشاباك وذلك كردة فعل لأحداث 7 أكتوبر 2023 “عملية طوفان الأقصى”، وتهدف وحدة “نيلي” للقضاء على قادة حماس المسؤولين عن تنفيذ العمليات العسكرية داخل أو خارج الحدود الفلسطينية[4] والجدير بالذكر أن “نيلي” هي كلمة عبرية تعني “نصر إسرائيل لا يكذب” وتم تسمية الوحدة بذلك الاسم نسبة إلى منظمة سرية يهودية استخدمت في الحرب العالمية الأولى لتقديم معلومات استخبارية للبريطانيين.[5]
و الاغتيالات الإسرائيلية تكتسب شرعيتها ليس فقط بموجب قرار المحكمة، وإنما أيضا مدعومة شعبياً حيث أشارت نتائج استطلاع رأي نشرته صحيفة “معاريف” الإسرائيلية أن 69% من الشعب الإسرائيلي يدعم ويساند الاغتيالات التي قامت بها إسرائيل ضد المقاومة بغض النظر عن التأثير السلبي لتلك الاغتيالات على مسار محادثات وقف إطلاق النار[6] وذلك يمثل مفارقة بين الرغبة في الإفراج عن الأسري لدى حماس وبين دعم اغتيال القيادي الأساسي في مسار المفاوضات وهو “إسماعيل هنية”.
“مجدل شمس” نقطة تحول:
في 24 يوليو 2024، وصل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى واشنطن لإلقاء كلمته المرتقبة في الكونجرس، وقبل سفره كان قد اجتمع مع وفد التفاوض في ملف الأسرى ووافق على إرسالهم إلى الدوحة بعد أسبوع، كما أبلغ عائلات الأسرى أنه قد يتم التوصل إلى اتفاق قريبا. بالإضافة إلى ذلك، ذكر نتنياهو في لقائه مع بعض ممثلي عائلات الأسرى في واشنطن أن شروط إعادة الأسرى بدأت تنضج.
وقد تغيرت هذه الأمور بعد أن أعلن الجيش الإسرائيلي عن مقتل 12 شخصاً وإصابة أكثر من 30 آخرين إثر انفجار صاروخ في ملعب لكرة القدم في قرية مجدل شمس الدرزية في مرتفعات الجولان المحتل، وعلى إثر الحادث قطع نتنياهو زيارته لواشنطن عائداً لإسرائيل في 28 يوليو 2024، واتهمت إسرائيل حزب الله بتنفيذ هذا الهجوم والذي قد نفى اضطلاعه في هذا الحادث.[7]
وفي 30 يوليو 2024، أعلنت إسرائيل اغتيال أكبر قائد عسكري في حزب الله فؤاد شكر خلال غارة شنتها على ضاحية بيروت الجنوبية، وقال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أن هذه العملية جاءت رداً على حادث مجدل شمس، ولكن لهذه العملية أبعاد كثيرة تعدو كونها مجرد عملية رد من أجل الثأر كما صورتها إسرائيل، ومن أهم تلك الأبعاد هي رمزية الزمان والمكان لهذه العملية. فبالنظر للزمان وتوقيت العملية نجد أنها جاءت بعد يومين من زيارة نتنياهو لواشنطن حيث شهد دعماً غير مسبوقاً في الكونجرس. وفيما يخص مكان العملية، فقد نُفذت الغارة على بيروت عاصمة لبنان وهو ما يعد اختراقاً لقواعد الاشتباك بين الجانيين، وفوق ذلك، فإن الغارة نفذت على الضاحية الجنوبية والتي هي بمثابة عاصمة حزب الله – إن جاز التعبير – حيث توجد بها أهم مقراته، وكذلك لا يمكن إغفال أهمية الشخصية المستهدفة، فإن “القائد الجهادي الكبير” فؤاد شكر كما دعاه السيد حسن نصر الله يعد الرجل الثاني في الحزب ورئيس أركانه.[8]
وعند استشراف التداعيات المحتملة المترتبة على هذا الاغتيال يجب الأخذ في الاعتبار أن كلا الجانبين لا يريد حرباً شاملة، فبالنظر إلى إسرائيل نجد أنها لم تحقق بعد أهدافها في حرب غزة وتكبدت خسائر كبيرة، كذلك ذكر نتنياهو أن إسرائيل تحارب على 7 جبهات وهو ما يجعلها تتجنب إشعال حربا شاملة على إحدى تلك الجبهات، وهنا يجب ألا ننسى مبدأ وحدة الساحات لمحور المقاومة والذي من شأنه جعلها حرب كبرى على كل الجبهات ومن الممكن أن يجر المنطقة إلى حرب إقليمية واسعة، وفيما يخص حزب الله، فإن الحزب كذلك يتجنب حرباً شاملة مع إسرائيل حيث إن لبنان يمر بظروف اقتصادية وسياسية لا تسمح له بالدخول في حرب في الوقت الراهن، هذا بالإضافة إلى الحسابات العسكرية للحزب وتفاهماته مع باقي محور المقاومة بقيادة إيران.[9]
ومن هنا يمكن استخلاص أن نتنياهو قرر إتباع استراتيجية حافة الهاوية في محاولة منه لإعادة معادلة الردع مع حزب الله التي أصبحت أكثر هشاشة بعد السابع من أكتوبر وهو ما يتضح من خلال جبهة الإسناد الواسعة التي فتحها حزب الله نصرة لأهل غزة والمقاومة، وفي أسوء الفروض وفي حالة فشل هذه المحاولة وقيام حزب الله برد يتطلب من إسرائيل الدخول في حرب شاملة فإن إسرائيل لن تكون وحدها حيث ستدافع عنها الولايات المتحدة ودول غربية أخرى.[10]
اغتيال إسماعيل هنية يعقد المشهد:
أقدمت إسرائيل على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، يوم الأربعاء 31 يوليو 2024 في العاصمة طهران وبالتحديد في دار الضيافة حيث كان يقيم، كان هنية في طهران لحضور مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، “مسعود بزشكيان”، وقد تضاربت الأقاويل حول ماهية تنفيذ حادثة الاغتيال فمن ناحية أشارت بعض التحقيقات أن الاغتيال تم بواسطة عبوة ناسفة تم زرعها في غرفة هنية قبل وصوله بأكثر من شهر بواسطة الموساد[11]، ومن ناحية أخرى أعلن الحرس الثوري الإيراني أن الاغتيال تم بواسطة قذيفة قصيرة المدي وليس انفجار داخلي[12]، وفي كل الأحوال فإن هذه الحادثة تمثل تهديداً وتحدياً أمنياً للأجهزة الأمنية الإيرانية وبالأخص الحرس الثوري الإيراني والذي من المفترض أن يكون مسئولاً عن حماية دار الضيافة الذي كان هنية يقيم به.[13]
وبالرغم من أن إسرائيل لم تعلن بشكل رسمي مسؤوليتها وراء حادث اغتيال هنية إلا أن “آية الله علي خامنئي”، المرشد الأعلى الإيراني توعد بالرد على إسرائيل من خلال ضربة انتقامية رداً على مقتل هنية، واصفاً النظام الإسرائيلي “بالإرهابي” في حين ادعاء إسرائيل بأن مثل هذه الاغتيالات هدفها الأساسي مكافحة الإرهاب[14] فهل يستخدم مفهوم “الإرهاب” كوسيلة لتحقيق المصالح الخاصة؟
وفي إطار التصعيد العسكري قامت الولايات المتحدة الامريكية بصفتها حليف رئيسي لإسرائيل من خلال وزارة الدفاع بنشر قوات عسكرية إضافية في منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك من مدمرات، وحاملة الطائرات “يو إس إس ابراهام لينكولن” وطرادات أو سفن حربية مخصصة لصد الصواريخ الباليستية، وكأن أمريكا ترسل إشارة لإيران وحزب الله بأن أي تصعيد أو هجوم سيواجه برد فعل قوي. وبالتالي يعكس هذا التصعيد توترات متزايدة في المنطقة كما يعكس أيضاً قلقاً حقيقياً من رد الفعل الإيراني وحزب الله انتقاماً لاغتيال هنية وشكر وخصوصاً بعد تصريحات خامنئي ونصر الله بالانتقام القاسي من إسرائيل ومن يساندها.[15] وتأتي تلك التعزيزات العسكرية الأمريكية ضمن إطار تعهد أمريكا للدفاع عن إسرائيل منذ هجمات 7 أكتوبر 2014، وذلك ضمن استراتيجية ردع أعداء اسرائيل بما في ذلك إيران.[16]
سيناريوهات محتملة:
من المحتمل أن تكشف الأيام القليلة الماضية عن أحد السيناريوهين، أولهما: تصعيد عسكري مباشر، وفي هذا السيناريو ستستجيب إيران بشكل حازم لاغتيال هنية وتنفذ هجمات انتقامية ضد أهداف أو مصالح إسرائيلية في المنطقة، ويحمل هذا السيناريو بين طياته احتمالين، الاحتمال الأول، أن تكون ردة فعل إيران بشكل منفرد وعنيف حيث تقوم إيران بإطلاق هجمات تشمل صواريخ باليستية على قواعد عسكرية ومواقع استراتيجية في إسرائيل، أما الاحتمال الثاني هو احتمال رد متعدد الأطراف بالتنسيق مع حزب الله والحوثي وغيرهم من عناصر محور المقاومة لإسرائيل، حيث ينفذ الأطراف هجمات متزامنة على مناطق إسرائيلية مما يضعها تحت ضغط هائل من جبهات متعددة ويتحول النزاع إلي حرب شاملة. والجدير بالذكر أن اسرائيل أعلنت بشكل رسمي أنها علي تم استعداد للرد على أي هجوم ولأي سيناريو.[17]
أما السيناريو الثاني: فيتمثل في تصعيد محدود وضغوط دبلوماسية، وفي هذا السيناريو يتوقع أن تقوم إيران برد إنتقامي محدود النطاق حيث تقوم بهجمات محدودة ضد إسرائيل بهدف الحفاظ على هيبتها انتقاماً لهنية ولكن دون التسبب في حرب شاملة، وهذا السيناريو هو المرجح وخصوصاً بعدما قامت أمريكا بمضاعفة قواتها الحربية في المنطقة فقد يلعب ذلك دوراً محورياً في ردع إيران من التصعيد المباشر، وفي إطار هذا السيناريو قد تقوم الدول الكبرى والمجتمع الدولي بجهود دبلوماسية مكثفة لتهدئة التوترات ومنع احتمال قيام حرب اقليمية.
ختاماً، وبغض النظر عن السيناريو الذي سوف تختاره إيران، من الواضح أنها ستقوم بالرد على إسرائيل للحفاظ على هيبتها بين حلفائها ومواطنيها انتقاماً لهنية، ولكن من المتوقع أن يكون السيناريو الأقرب للواقع هو قيام طهران بشن هجمات محددة ذات طابع رمزي أو انتقامي تهدف إلى تجنب التصعيد الكبير فقد يكون هذا السيناريو مدفوعاً بالواقع السياسي الدولي والضغط الأمريكي الذي قد يمنع إيران من اتخاذ خطوات قد تؤدي إلى تأجيج النزاع، وكذلك يجب على القيادة الإيرانية التفكير ملياً قبل القيام بأي رد، لأن فشل الرد سيكون له تبعات وخيمة على صورتها بين حلفائها في النظام الدولي.
[1]Ron, Kampeas. Israel has long been good at assassinating enemies. does it make a difference? | The Times of Israel, August 2, 2024. https://www.timesofisrael.com/israel-has-long-been-good-at-assassinating-enemies-does-it-make-a-difference/.
[2] Ibid.
[3] Kristen E, Eichensehr. “On Target? The Israeli Supreme Court and the Expansion of Targeted Killings.” The Yale Law Journal 116, no. 8 (2007): 1873–81. https://doi.org/10.2307/20455778.
[4] Paul, Nuki. “Israeli Spies Form Unit to Hunt down Hamas Attack Planners in Munich-Style Campaign.” The Telegraph, November 4, 2023. https://www.telegraph.co.uk/world-news/2023/11/04/israeli-spies-form-unit-to-hunt-down-hamas-attack-planners/.
[5] “Hebrew Name for Nili.” Hebrew Name for nili. https://hebrewname.org/name/nili.
[6] Middle East Monitor. “69% of Israelis Support Assassinations Even If Ceasefire in Gaza Delayed: Poll.” Middle East Monitor, August 2, 2024. https://www.middleeastmonitor.com/20240802-69-of-israelis-support-assassinations-even-if-ceasefire-in-gaza-delayed-poll/.
[7] Carlstrom, Gregg. “The Middle East must step back from the brink.” The Economist, July 31, 2024. https://www.economist.com/leaders/2024/07/31/the-middle-east-must-step-back-from-the-brink?fbclid=IwZXh0bgNhZW0CMTEAAR0M6IzdQyOrYMaJJUldK4kAv_D-7lcALb8PAbYdpJzOGMZW9THuFMidhNk_aem_hOjoFyZ08C0PPCExXgnN5A.
[8] Ibid
[9] بولا أسطيح، لبنان الرسمي يسلّم مصير البلد لـ”حزب الله”، 24 أغسطس 2024، https://shorturl.at/Q3Zd0
[11] Ronen, Bergman, Mark Mazzetti, and Farnaz Fassihi. “Bomb Smuggled into Tehran Guesthouse Months Ago Killed Hamas Leader.” The New York Times, August 1, 2024. https://www.nytimes.com/2024/08/01/world/middleeast/how-hamas-leader-haniyeh-killed-iran-bomb.html.
[12] Iran says Hamas leader Haniyeh was killed by short-range projectile | reuters, August 3, 2024. https://www.reuters.com/world/middle-east/iran-says-hamas-leader-haniyeh-was-killed-by-short-range-projectile-2024-08-03/.
[13] Ronen, Bergman, Mark Mazzetti, and Farnaz Fassihi. “Bomb Smuggled into Tehran Guesthouse Months Ago Killed Hamas Leader.” The New York Times, August 1, 2024. https://www.nytimes.com/2024/08/01/world/middleeast/how-hamas-leader-haniyeh-killed-iran-bomb.html.
[14] Ibid.
[15] Liebermann, Oren. “US Sending Aircraft Carrier, Warships and Fighter Squadron to Middle East as Region Braces for Iranian Retaliation | CNN Politics.” CNN, August 3, 2024. https://edition.cnn.com/2024/08/02/politics/us-warships-middle-east-brace-iranian-retaliation/index.html.
[16] Jim, Garamone. “U.S. Will Send More Defensive Military Capabilities to Middle East.” U.S. Department of Defense, August 2, 2024. https://www.defense.gov/News/News-Stories/Article/Article/3860462/us-will-send-more-defensive-military-capabilities-to-middle-east/.
[17] Staff, ToI. Netanyahu warns Iran: We are ready, we’ll exact a heavy price for any aggression | The Times of Israel, August 4, 2024. https://www.timesofisrael.com/netanyahu-warns-iran-we-are-ready-well-exact-a-heavy-price-for-any-aggression/.
باحث علاقات دولية بمركز ترو للدراسات