مقدمة
منذ نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، شهدت بنغلاديش اضطرابات سياسية واجتماعية كبيرة، مما أدى إلى فوضى اقتصادية وانتفاضات شعبية ضد النظام الحاكم، وفي ظل هذه الظروف الصعبة، ظهرت شخصيات بارزة مثل الشيخة حسينة وخالدة ضياء، اللتان تصدتا للنظام بشجاعة وقيادة. وفي ديسمبر 1990، بلغت الأمور ذروتها بإسقاط الرئيس الاستبدادي حسين محمد إرشاد، وتشكيل حكومة انتقالية بقيادة القاضي شهاب الدين أحمد، وفي عام 1991 أجرت هذه الحكومة انتخابات حرة، أسفرت عن فوز الحزب الوطني البنغلاديشي بزعامة خالدة ضياء في حين قادت الشيخة حسينة حزب رابطة عوامي المعارض.[1]
ومن ذلك التاريخ شهدت بنغلادش استقراراً سياسياً وانتعاشاً اقتصادياً، وكان هناك تناوباً للسلطة وخاصة بين الأحزاب الكبرى، ومنهم حزبي؛ رابطة عوامي، والحزب الوطني البنغلاديشي، مما خلق مناخًا سياسيًا مليئًا بالتحديات والتوترات. يعكس هذا التسلسل التاريخي التعقيد الذي يميز الوضع السياسي الحالي في بنغلاديش وتأثيره المستمر على مستقبل البلاد.
فترة حكم الشيخة حسينة واجد:
شغلت الشيخة حسينة منصب رئيسة وزراء بنغلادش خمس فترات، وتولت رئاسة الحكومة للمرة الأولى خلال الفترة (1996- 2001)، وقد أولت اهتمامًا كبيرًا بتحقيق استقرار الاقتصاد الوطني وتعزيز البنية التحتية، وهو ما انعكس على تحسين البنية التحتية من خلال مشروعات تطويرية شملت تحسين الطرق والجسور، مما ساعد في تعزيز النشاط الاقتصادي. ولكن، على الرغم من هذه الجهود، كانت هناك تحديات اقتصادية عديدة، بما في ذلك التباطؤ في بعض المجالات والانتقادات المتعلقة بإدارة القضايا الاقتصادية والاجتماعية، مما أثر على فعالية بعض السياسات. ومنذ عودتها إلى السلطة في 2009، وقد أظهرت الشيخة حسينة قدرة ملحوظة على دفع النمو الاقتصادي في بنغلاديش، وقدمت استثمارات كبيرة في مشاريع تطويرية رئيسية مثل مشاريع الطاقة والبنية التحتية أبرزها محطة الطاقة النووية في روبور، التي تعد الأولى من نوعها في البلاد، وجسر بادما الذي يربط المناطق الجنوبية والغربية، مما يعزز التجارة والنقل. كما أطلقت مشاريع أخرى مثل محطات الطاقة العاملة بالفحم والطاقة الشمسية لتحسين إمدادات الكهرباء، وتطوير مطار شيتاغونغ الدولي ونظام المترو في دكا لتحسين النقل العام والبنية التحتية الأساسية في البلاد، مما ساعد في تحسين الوضع الاقتصادي وتعزيز مستوى المعيشة. تميزت الفترة بتحقيق تقدم اقتصادي ملحوظ، إلا أن التحديات الاقتصادية استمرت في الظهور، بما في ذلك الحاجة إلى تحسين التوازن بين النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة.
ولكن على الصعيد الاخر من ناحية الجانب السياسي، شهدت فترة حكم الشيخة حسينة من 1996 إلى 2001 أجواءً مليئة بالتوترات السياسية والمعارضة الشديدة، مما أثر على استقرار الحكومة وقدرتها على تنفيذ سياساتها بفعالية. كانت هناك تحديات كبيرة في مواجهة المعارضة والنقد المتزايد حول كيفية إدارة القضايا الاجتماعية والاقتصادية، مما ألقى بظلال من الشكوك على استقرار الحكم. ولكن عند عودتها إلى السلطة في 2009، تم تعزيز سلطتها بشكل كبير بسبب فوزها الساحق في الانتخابات، لكن هذه الفترة شهدت أيضًا تصاعد القمع السياسي وتقييد الحريات، وتزايدت الانتقادات بسبب استخدام أساليب قمعية ضد المعارضة وتقييد الحريات المدنية، مما أثار تساؤلات حول مدى احترام حقوق الإنسان والديمقراطية في البلاد، خلال فترة حكمها من 2014 إلى 2019، تميزت سياسة الحكومة بتزايد قمع المعارضة واستمرار الانتهاكات السياسية، مما أدى إلى انتقادات محلية ودولية واسعة. [2]
وفي منتصف عام 2024، خلال تواليها فترتها الخامسة على التوالي في رئاسة الحكومة، شهدت بنغلاديش تصاعداً درامياً في الاحتجاجات الشعبية التي أطلق عليها المتظاهرون “حصار بنغلاديش”. جاءت هذه الاحتجاجات نتيجة لمطالبة شعبية بتنحي رئيسة الوزراء الشيخة حسينة، والتي اتهمها المحتجون بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، حيث تم اتهام حسينة بالمسؤولية عن اعتقال حوالي 10 آلاف شخص، وشن حملات قمعية متكررة ضد المعارضة، بما في ذلك حظر حزب الجماعة الإسلامية وجناحه الطلابي “شيبير”، واعتقال العديد من القادة المعارضين.[3]
أدت هذه الاحتجاجات إلى مقتل المئات من المتظاهرين في أعمال عنف وتخريب اجتاحت البلاد، مما تسبب في اشتباكات عنيفة مع قوات الشرطة، ورداً على هذه الأوضاع المتدهورة، أعلنت الحكومة حظر تجول في 4 أغسطس 2024، بالإضافة إلى عطلة عامة لمدة ثلاثة أيام، وقد تسبب التصعيد في الاحتجاجات نتيجة الأزمات السياسية الحادة في دفع الشيخة حسينة إلى مغادرة بنغلادش إلى الهند واستقالتها من منصبها. [4]
الشيخة حسينة.. من الديمقراطية إلى الاستبداد
قادت الشيخة حسينة مظاهرات من أجل الديمقراطية وساهمت في اسقاط حكم حسين محمد إرشاد، ويبدو أن الشيخة حسينة لم تستوعب بعض دروس تلك الفترة كأحد أبرز قادة المعارضة وقتها وساعدت في الإطاحة بحسين محمد ارشاد من منصبه، حيث أنها استخدمت نفس أساليب الحكم الاستبدادي والتي اتبعتها خلال فترات حكمها المتعاقبة، فقد أدت إلى قمع المعارضة وتقييد الحريات السياسية والإعلامية حيث قامت اعتقال قادة المعارضة، بمن فيهم خالدة ضياء، بتهم يُعتقد أنها ذات دوافع سياسية، وتقييد وسائل الإعلام من خلال قانون الأمن الرقمي الذي استُخدم لاعتقال الصحفيين والنشطاء. كما وُجهت إليها اتهامات بالتلاعب في انتخابات 2018 باستخدام أجهزة الدولة لتخويف الناخبين ودعم مرشحي الحكومة، إلى جانب قمع المظاهرات الطلابية بالقوة وفرض قيود مشددة على نشاط المنظمات غير الحكومية، مما أثار قلقاً حول تراجع الديمقراطية في بنجلاديش.
وقد جاءت استقالة حسينة، التي قادت البلاد منذ عام 2009، تحت ضغط الاحتجاجات ضد نظام الحصص الذي يميز أقارب المحاربين القدامى بمنحهم نسبة من الوظائف الحكومية. المحتجون يرون أن هذا النظام يخدم مصالح رئيسة الوزراء وحزبها “رابطة عوامي”، الذي قاد حركة الاستقلال. على الرغم من دفاع حسينة عن النظام باعتباره تكريمًا للمحاربين القدامى، إلا أن الغضب الشعبي أجبرها على الهروب من البلاد.[5]
أثر هروب الشيخة حسينة إلى الهند على العلاقات الهندية الباكستانية
تمثل مغادرة الشيخة حسينة، رئيسة وزراء بنغلاديش، إلى الهند تطوراً بارزاً في العلاقات الإقليمية، خاصةً بين الهند وباكستان. إذ يعتبر توجهها إلى الهند بدلاً من دول الجوار الأخرى بمثابة خطوة لها دلالات سياسية وتاريخية مهمة. فالهند التي كانت شريكاً حيوياً في استقلال بنغلاديش عن باكستان عام [6]1971، قد تلعب دوراً بارزاً في هذه الأزمة، واختيارها للبنغال الغربية، التي تشترك في خلفية ثقافية ولغوية مع بنغلاديش، يعكس الارتباط التاريخي بين البلدين. هذا الاختيار يعزز أيضاً من الصورة التي كانت تسعى حسينة إلى الحفاظ عليها كحليف موثوق للهند.
لكن، في الوقت نفسه، قد تؤدي هذه الخطوة إلى تصعيد التوترات بين الهند وباكستان، ففي سياق التوترات الإقليمية التاريخية، من المحتمل أن يعتبر بعض المحللين أو المسؤولين الباكستانيين أن دعم الهند لحكومة الشيخة حسينة، والتدابير التي اتخذتها الحكومة الهندية تجاهها، تعكس تحالفات غير مريحة مع الأوضاع السياسية في بنغلاديش، فالتوترات بين الهند وباكستان قد تتصاعد بسبب تلك التداعيات السياسية، حيث يمكن أن يرى البعض في هذا التطور تجسيداً لدور الهند كطرف داعم للأنظمة التي تتسم بالاستبداد في المنطقة.[7]
كما يُحتمل أن يكون لباكستان دورًا في دعم الاحتجاجات التي أسفرت عن انهيار نظام الشيخة حسينة في بنغلاديش، مستفيدة من التذمر الشعبي والاضطرابات الداخلية في البلاد، وقد يكون الدعم الباكستاني نابعًا من رغبتها في زعزعة استقرار جارتها الإقليمية وتعزيز مصالحها الاستراتيجية، وهذا التدخل يمكن أن يزيد من تعقيد الأوضاع الإقليمية ويزيد من التوترات بين الهند وباكستان، حيث قد تعتبر الهند هذه الخطوة تهديدًا لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة.[8]
عودة الجماعات الإسلامية على الساحة السياسية مرة أخرى في بنغلاديش
عقب هروب الشيخة حسين، ظهر شفيق الرحمن، رئيس الجماعة الإسلامية، مجددًا في المشهد السياسي، حيث بكى فرحًا وسط مجموعة من مناصريه عقب إعادة فتح مقر الجماعة، احتفالًا برحيل الشيخة حسينة، فهذه اللحظة تعكس عودة قوية للجماعة إلى الساحة السياسية، بعد أن كانت الحكومة قد أعلنت في 29 يوليو 2024 حل الحزب والجناح الطلابي “شيبير”، إثر اتهامات بالمشاركة في الاحتجاجات. لذلك فإن استقالة الشيخة حسينة ومغادرتها البلاد شكلت تحولًا دراميًا، وأعادت الجماعة الإسلامية إلى الواجهة، وجاء ذلك في سياق اتهامات من حسينة، في مؤتمر صحفي سابق، بأن الجماعة استغلت الاحتجاجات لتحقيق مكاسب سياسية، ووصفها للمحتجين بـ “الرازاكار”، وهو تعبير يحمل دلالات تاريخية ثقيلة في بنغلادش، تشير إلى المتعاونين مع الجيش الباكستاني خلال حرب الاستقلال عام 1971.[9]
وفي الوقت الراهن، ومع تشكيل حكومة مؤقتة بقيادة الحائز على جائزة نوبل للسلام محمد يونس، يبدو أن الجماعة الإسلامية أمام فرصة لاستعادة نفوذها السياسي. [10] فالتاريخ الطويل والمثير للجدل للجماعة الإسلامية، والذي يعود إلى فترة ما قبل تقسيم الهند، يضيف بُعدًا معقدًا لهذه المرحلة الانتقالية في بنغلادش، فالجماعة التي عارضت استقلال بنغلادش في السابق، تجد نفسها اليوم أمام فرصة جديدة لإعادة تشكيل المشهد السياسي في البلاد، وسط تحديات وضغوط محلية ودولية.
تشكيل حكومة مؤقتة ومخاوف من الانقلاب
في 5 أغسطس 2024، هربت الشيخة حسينة إلى الهند، وتسبب هروبها في فراغاً سياسياً وتسبب ذلك في حالة من الفوضى، ولذلك اجتمع قادة الثورة الشباب مع الجيش في محاولة لتفادي سيطرة العسكريين على الحكومة المؤقتة. وقد تولى الثوار المسؤولية بأنفسهم بدلاً من السماح للجيش بتشكيل الحكومة، وقد عيّنوا محمد يونس، الحائز على جائزة نوبل، رئيسًا للحكومة المؤقتة. تهدف هذه الحكومة إلى محاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين وتعذيب المعارضين، وضمان تقديم العدالة.
على الرغم من التقدم الذي تحقق مع تشكيل الحكومة المؤقتة برئاسة يونس، فإن المخاوف لا تزال قائمة بسبب التحديات الاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى المظالم الاجتماعية والعرقية، وتبقى هناك مخاطر من حدوث انقلاب عسكري، حيث شهدت بنغلاديش العديد من الانقلابات منذ استقلالها، وتسعى الحكومة الجديدة إلى معالجة القضايا العاجلة وحفظ استقرار البلاد، في ظل حالة من القلق بشأن الحفاظ على المكتسبات السياسية وضمان استقرار الحكومة الجديدة.[11]
خاتمة:
إن مستقبل بنغلاديش يعتمد بشكل كبير على كيفية تعاملها مع هذه المرحلة الانتقالية، وقدرتها على بناء نظام سياسي قوي وشامل يعزز من الاستقرار والتنمية، ومن الضروري أن تسعى لتحقيق توازن بين تحقيق العدالة الاجتماعية والنمو الاقتصادي، بينما تواصل جهودها لبناء نظام ديمقراطي مستدام يحافظ على الحقوق والحريات السياسية.
في هذا السياق، يتعين على الحكومة المؤقتة العمل بجد لتحقيق الاستقرار وضمان تحقيق التنمية المستدامة، بينما تتعامل مع التحديات الداخلية والتوترات الإقليمية، كما أن دور المجتمع الدولي، بما في ذلك القوى الإقليمية مثل الهند، سيكون حاسمًا في دعم عملية التحول الديمقراطي وضمان احترام حقوق الإنسان.
[1] غوبتا, براكريتي. “الشيخة حسينة واجد «وارثة» زعامة بنغلاديش تودّع السلطة بعد حكم استمر 15 سنة متصلة,” August 9, 2024. https://shorturl.at/09w71
[2] إثيراجان, تيسا وونغ وأنباراسان. “من هي الشيخة حسينة التي تولت رئاسة وزراء بنغلاديش لأكثر من عشرين عاماً؟.” BBC News عربي, August 5, 2024. https://www.bbc.com/arabic/articles/c4gzzd1p526o.
[3] ———. “حسينة واجد رئيسة وزراء بنغلاديش لـ5 فترات.” الجزيرة نت, August 5, 2024. https://www.ajnet.me/encyclopedia/2014/12/6/%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D8%AC%D8%AF.
[4] France24. “مظاهرات حاشدة وعنف وقتلى واستقالة وهروب الشيخة حسينة… إلى أين تذهب بنغلادش؟,” August 5, 2024. https://www.france24.com/ar/%D8%A2%D8%B3%D9%8A%D8%A7/20240805-%D9%85%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D8%A7%D8%B4%D8%AF%D8%A9-%D9%88%D8%B9%D9%86%D9%81-%D9%88%D9%82%D8%AA%D9%84%D9%89-%D9%88%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D9%88%D9%87%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE%D8%A9-%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A3%D9%8A%D9%86-%D8%AA%D8%B0%D9%87%D8%A8-%D8%A8%D9%86%D8%BA%D9%84%D8%A7%D8%AF%D8%B4.
[5] نت, الجزيرة. “الشيخة حسينة تفرّ من بنغلاديش والجيش يبحث تشكيل حكومة مؤقتة.” الجزيرة نت, August 5, 2024. https://www.ajnet.me/news/2024/8/5/300-%D9%82%D8%AA%D9%8A%D9%84-%D9%85%D9%86%D8%B0-%D8%A8%D8%AF%D8%A1 %D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%AC%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A8%D9%86%D8%BA%D9%84%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%B4.
[6] ElArabiya. “الهند وبنجلاديش.. علاقات استراتيجية,” April 2017. https://shorturl.at/ON0NF
[7] المصدر. “ماذا اختارت رئيسة وزراء بنغلادش الشيخة حسينة الهند وجهة لها؟,” August 6, 2024. https://almasdaronline.com/articles/299750.
[8] امجد. “إلى أين تتجه بنغلادش بعد هروب الشيخة حسينة إلى الهند..؟.” عرب جورنال, August 10, 2024. https://arab-j.net/24615.
[9] عرفة, محمد جمال. “سقوط الدكتاتورة حسينة.. وانتصار «الجماعة الإسلامية» في بنغلاديش.” مجلة المجتمع الكويتية, August 6, 2024. https://mugtama.com/06/338181/.
[10] عربية, سكاي نيوز. “بنغلادش.. كيف أعاد رحيل حسينة الجماعة الإسلامية إلى المشهد؟.” سكاي نيوز عربية, August 8, 2024. https://shorturl.at/DmfyD
[11] ElKhabar. “بنغلاديش .. هروب رئيسة الوزراء والجيش يتولى المسؤولية,” n.d. https://shorturl.at/oyDz5
باحث نظم سياسية بمركز ترو للدراسات