المقدمة
لا تتفق الأدبيات والدراسات عن ماهية الشركات العسكرية الخاصة وما إذا كانت شكل أكثر تنظيميا للمرتزقة أم أنها شيء آخر. وفي كل الأحوال، فإن هذه الشركات بالفعل تتصف بكثير من سمات المرتزقة، حتى وإن رفضت أدبيات القانون إطلاق عليهم صفة المرتزقة لعدم توافر بعض الشروط. ومن هنا، يتناول هذا المقال تحليل لأفكار عدد من المفكرين وكيف نظروا لظاهرة الارتزاق.
فمفكرو الفكر السياسي عادة ما يبنون كتابتهم على الخبرات والتجارب السابقة بالإضافة لبيئتهم وما عاصروه من أحداث. ويأتي على رأس هؤلاء الذين تناولوا في كتابتهم فكرة الاعتماد على المرتزقة؛ مكيافيلي والمؤرخ الأثيني ثوسيديدس، فضلا عن القائد العسكري أنطوان هنري جوميني. فبالنسبة لمكيافيلي، يقول في كتابه “الأمير” أن خراب إيطاليا ” لم يحدث إلا بسبب الاعتماد لسنوات عديدة على القوات المرتزقة”.[i] ويسهب مكيافيلي في ذكر أمثلة أخري عن ممالك وإمارات أوروبية تعرضت لما لا يحمد عقباه بسبب اعتمادها على المرتزقة. جوميني أيضا في كتابه “فن الحرب” يؤكد على مخاطر الاعتماد على المرتزقة. حيث يشير إلى أن من ضمن الأسباب التي أدت إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية هو الاعتماد على المرتزقة وما تبعه من إضعاف للروح العسكرية بين صفوف مواطنيها. وانطلاقا من أن علينا الاستفادة من كتابات وخبرات من سبقونا وربطها بواقعنا، فإننا أحوج ما نكون اليوم أن ننظر فيما قالوه عمن يعتمد على المرتزقة كبديل للجيوش الوطنية. وظاهرة الارتزاق هي قديمة قدم التاريخ، ولكن في وقتنا الحالي أصبحت تأخذ أشكالا أكثر مؤسسية وتأطيرا. وتمثل الشركات العسكرية الخاصة في وقتنا الحاضر نموذجا لظاهرة الارتزاق التي أصبحت تأخذ شكلا منظما أكثر.
وبعد الحرب العالمية الثانية، دأبت الكثير من الدول على الاعتماد على الشركات العسكرية الخاصة كبديل عن الجيوش الوطنية من أجل تحقيق بعض الأهداف على المستويين المحلي والدولي. ولكل منها أسبابها في الاستعاضة عن الجيوش الوطنية. ففي حالة الدول العظمى يكون من ضمن الأهداف هو توفير مساحة أكبر للقيام بعمليات منافية للقانون والأعراف الدولية. فالشركات العسكرية في الأغلب ليست كيانات تابعة بشكل رسمي للدولة وهو ما يجعل التنصل من أي مسؤولية قانونية أمرا أسهل على الدولة الراعية. أما بالنسبة للدول الصغيرة، والتي عادتا ما تعاني من صعوبة في تكوين جيوش وقوات نظامية، فإنها تفضل الاعتماد على الشركات العسكرية التي تعتبر بديلا أقل تكلفة وأسرع تجهيزا. ولكن في نفس الوقت، فإن تلك الشركات لها تداعيات سلبية مثل التأثير على معنويات القوات الوطنية وهو الجانب الذي اهتم به جوميني في كتاباته. ويؤثر الاعتماد على المرتزقة سلبا على القوات الوطنية بسبب شعورهم بأن دولتهم قررت الاعتماد على غيرهم. ونتيجتا لذلك تضعف روحهم القتالية مثل ما حدث في الإمبراطورية الرومانية كما ذكر جوميني.[ii] كما أن قلة الاعتماد على القوات الوطنية تضعف من خبراتهم الميدانية. وكذلك فإن التكلفة الأقل التي تقدمها تلك الشركات من الممكن أن تجعل بعض الدول عازفة عن تنظيم وتدريب قوات وطنية.[iii]
وكما يقول مكيافيلي فإن دعائم أي دولة هما “القوانين الجيدة والأسلحة الجيدة”، وعليه يجب التعرف على الشروط المنطوية لتمتلك الدولة تلك الأسلحة الجيدة. فمكيافيلي يصنف الجيوش إلى أربعة أنواع. فإما أن يكون جيش مكون من المواطنين، أو من المرتزقة، أو من المعاونين الذين يأتون من دولة حليفة، أو مزيج من هؤلاء. ويجادل بأن أسوأ الأنواع هم المرتزقة والمعانون، وعلى حد تعبيره “كلاهما عديم الفائدة وخطير”. ومن وجهة نظره، فإن الاعتماد على المرتزقة لن يجعل الدولة آمنة أو مستقرة أبدا. ويرجع ذلك إلى سمات المرتزقة مثل الطموح وعدم الولاء وعدم الانضباط. بالإضافة إلى ذلك، فهم لا عهد لهم ولا يخشون الله على حد تعبيره. إنهم يقاتلون فقط من أجل المكاسب المادية ومطامعهم الخاصة. ويردف قائلا إنهم ينهبون راعيهم وقت السلم، وينهبون العدو وقت الحرب.
ويضيف مكيافيلي أنهم في العادة غير اكفاء، لذلك فالاعتماد عليهم يعرض الحاكم لخطر الهزيمة. وفي السياق نفسه، فإنه لا ينكر أنه من الممكن تحقيق الكثير من المكاسب من خلالهم، لكن الخسائر التي تأتي بسبب خيانتهم وتطلعاتهم تأتي بشكل مفاجئ وغريب. وعطفا على ذلك، وكما جاء في كتاب ثوسيديدس “تاريخ الحرب البيلوبونيسية”، فإن إسبرطة رأت أن أحد العوامل التي تعطيها أفضلية على الأثينيين هو وجود قوات مرتزقة في صفوف قوات أثينا. وهو ما يسهل من عملية إغرائهم وإحداث انشقاقات في صفوف قواتهم.[iv] ويذكرنا هذا بالتكهنات التي كانت تشير لضلوع الغرب في تحريض فاجنر للتمرد ضد القيادات الروسية.
ويتابع مكيافيلي مشيرا إلى أنه إذا ما كانوا أولى خبرة وكفاءة فإن الحاكم سيواجه خطر الوقوع تحت رحمتهم وسيبقى أسيرا لتلك القوات بعد أن يساعدوه في تحقيق النصر. ومثال على ذلك هو الدول الأفريقية التي استعانت بالشركات العسكرية لمواجهة الإرهاب والفوضى، ولكنها ما لبثت أن واجهت النفوذ المتنامي لهذه الشركات. فالكثير منها أصبح يسيطر على موارد اقتصادية في المناطق التي ساهموا في فرض الأمن بها، كما أن نفوذهم الاقتصادي والسياسي يتنامى بشكل يدعو للقلق.
وفي حالة أراد الأمير التخلص منهم، فإن الأمر ليس بهذه السهولة. حيث يشير مكيافيلي أن الحل هو إما إعدامهم أو تقسيمهم إلى وحدات أصغر وتقطيع أوصالهم وهو ما من شأنه إضعاف قوتهم. ولكن أي محاولة للتخلص منهم بشكل أخر سيكون لها تبعات لا يحمد عقباها. فالتخلص منهم ليس سهلا ويضع الراعي الذي أعتمد عليهم في وضع خطر يهدد بخسارة ما ساعدوه في تحقيقه. ومن الواضح أن بوتين قد اتبع تلك النصائح مع فاجنر بعد تمردهم. فبدأ بوتين بالتخلص أولا من قائد المجموعة، بريغوجين، ومن ثم عكف على إعادة هيكلية المجموعة وتقسيمها لوحدات تابعة لوزارة الدفاع بشكل مباشر.
ختاما، في ظل الدور المتزايد للشركات العسكرية وما تحققه لبعض الدول من نجاحات، فإن علينا ألا نتغافل عن مخاطرها التي ما هي إلا مسألة وقت وستعاني منها تلك الدول. والجدير بالذكر أن تحذيرات مكيافيلي من مخاطرهم مبنية على صورتهم الأولى التي كانوا فيها أقل تنظيما وليس بشكلهم الحالي الأكثر مؤسسيتا.
وفي السياق نفسه، فإن مكيافيلي رأى أن القوات المعاونة هي أكثر خطورة من المرتزقة بسبب أنهم أكثر تنظيما. فهو يرى أن تلك الميزة التنظيمية تجعلهم أخطر بالإضافة لإنهم أكثر استقلالية، حيث لا يتقاضون أموالا مثل المرتزقة. ولكن من الواضح أن المرتزقة في ثوبهم الجديد كشركات عسكرية أصبحوا أكثر خطورة من هؤلاء الذين تحدث عنهم مكيافيلي. ويرجع ذلك إلى أنهم أصبحوا أكثر تنظيما، كما أنهم باتت لهم مواردهم المالية الخاصة بسبب سيطرتهم على بعض الموارد الطبيعية في الكثير من الدول العاملين بها، وهو ما يجعلهم أكثر استقلالية وبالتبعية أكثر خطورة. وفي النهاية، غني عن القول إنه لا يوجد جيش أفضل من ذلك الذي يشكله مواطنو الدولة، فوجود جيش كذلك يجنب الدولة ما وصفه مكيافيلي بالانحدار إلى غياهب العبودية.
[i] Niccolo Machiavelli, The Prince. London: Harper Press, 2011.
[ii] Antoine-Henri Jomini, The Art of War. Massachusetts: Courier Corporation, 2007.https://books.google.com.eg/books/about/The_Art_of_War.html?id=mdI6AwAAQBAJ&redir_esc=y
[iii] مجدي كامل “بلاك وتر جيوش الظلام – المرتزقة الجدد وفن خصخصة الحرب بزنس الموت على الطريقة الأمريكية”، القاهرة، دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع، يناير 2008.
[iv] Thucydides, The History of the Peloponnesian War. Great Britain: Penguin Books, 1972.https://www.goodreads.com/book/show/261243.History_of_the_Peloponnesian_War?ref=rae_1
باحث علاقات دولية بمركز ترو للدراسات