المقدمة
تظل قضية الهجرة قضية حيوية في الساحة السياسية البريطانية، حيث تلعب دورًا جوهريًا في تحديد الهوية الوطنية وتأثيرها على الاقتصاد والأمن، وقد تجلت أهمية هذه القضية واستخدامها كأداة سياسية فعّالة خلال الانتخابات في يوليو 2023، لا سيما في ظل نجاح حزب الإصلاح بقيادة “نايجل فاراج” في جذب دعم واسع من الشعب البريطاني من خلال رفع شعارات مثل “أوقفوا القوارب” والدعوة إلى ضرورة تشديد الرقابة على الحدود، مما أبرز تأثير هذه القضية على السياسات البريطانية. [i]
وفي هذا السياق، شهدت بلدة ساوثبورت البريطانية حادث طعن مروع على يد الشاب المهاجر البالغ من العمر 17 عامًا، يُدعى “أكسل روداكوبانا”، وقد أسفر هذا الحادث عن مقتل ثلاث فتيات لا يتجاوز عمرهن عشر سنوات، بالإضافة إلى إصابة آخرين. وقع هذا الحادث المأساوي في 29 يوليو 2024، خلال جلسة ترفيهية للأطفال مستوحاة من حفلة “تايلور سويفت”، وتم اعتقال روداكوبانا ووجهت إليه تهم ثلاثة جرائم قتل وعشر جرائم محاولة قتل، بالإضافة إلى حيازة سلاح حاد.[ii] فما هي تداعيات تصاعد الخطاب اليميني المتطرف على الساحة السياسية والاجتماعية وعلى قضية الهجرة في بريطانيا؟
رؤية تحليلية:
لتوفير رؤية تحليلية لهذا الحادث وتداعياته من أعمال شغب وعنف ضد المهاجرين، فلا يوجد أنسب من نظرية “الهوية الاجتماعية” التي أسسها عالم النفس الاجتماعي “هنري تاجفيل” في السبعينيات والتي تهدف إلى تفسير أثر الهوية الاجتماعية على سلوك الأفراد، وتعتمد النظرية في تفسيرها للصراعات على هذه الهوية والتي تشير إلي شعور الفرد بانتمائه إلى مجموعة اجتماعية معينة ومدى القيمة والأهمية التي يمنحها الفرد لهذا الانتماء، ووفقاً لتاجفيل فإن المجموعات الاجتماعية تمنح أعضاءها هوية مشتركة تميزهم عن المجموعات “الخارجية”.[iii]
ومن هذا المنطلق، فإن التفاعل بين المجموعات الاجتماعية يكون على أساس السعي لتحقيق تفوق إيجابي للمجموعة الذاتية على المجموعات الخارجية الأخرى وذلك يؤدي إلى سلوك منحاز وصراع حول المكانة والهيبة النسبية للمجموعة الذاتية. وعلى هذا النحو، يمثل اليمين المتطرف “المجموعة الذاتية” بينما يمثل المهاجرون “المجموعة الخارجية” حيث يسعي اليمين المتطرف للحفاظ على هيبته وتفوقه من خلال استغلال حادث الطعن لتأجيج الكراهية والعنف ضد المهاجرين وذلك لتعزيز الهوية الجماعية لأعضاء المجموعة الذاتية وهم في هذه الحالة البريطانيون الأصليون من خلال تصويرهم المهاجرين كمجموعة خارجية تشكل تهديداً. [iv]
استغلال اليمين المتطرف للحادث:
كان لقانون المملكة المتحدة دوراً أساسيا في انتشار الاحتجاجات وأعمال الشغب انتشاراً واسعاً من مدينة لأخري، حيث يقضي القانون بفرض قيود على نشر معلومات تخص مرتكبي الجرائم دون ال 18 عاماً وبالتالي سرعان ما انتشرت الشائعات حول هوية الجاني عبر وسائل التواصل الإجتماعي من خلال الإدعاء على الجاني أنه مسلماً مهاجراً، وذلك بالرغم أنه في الحقيقة ليس مسلم ولكن أدت هذه الشائعات إلى استغلال شخصيات يمينية متطرفة مثل “تومي روبنسون” للواقعة من خلال تأجيج الكراهية والعنف ضد المسلمين والمهاجرين.[v]
يبدو أن نشر المعلومات المغلوطة حول هوية الجاني هي حملة سياسية منهجية ومخططة من قبل اليمين المتطرف لاستهداف المسلمين المهاجرين، نظراً لأنه بمجرد انتشار الشائعات قامت جماعات من اليمين المتطرف بمظاهرات عنيفة وهجمات استهدفت المساجد في مناطق مختلفة من بريطانيا منها ساوثبورت، هارتلبول، وليفربول[vi]، بالإضافة إلى مهاجمة فنادق تأوي طالبي اللجوء في مدن أخرى مثل روثرهام وتامورث، أما عن الدور الإعلامي فيما يخص هذه القضية فقامت وسائل الإعلام اليمينية بدعم هذه الهجمات وتصعيد قضية الهجرة كمحور للصراع الإجتماعي في المملكة المتحدة ومثال على ذلك تصريح السياسي والمذيع اليميني “نايجل فاراج” حيث وصف هذه الهجمات ب “ردة فعل تعبيراً عن الخوف”.[vii] وبالتالي استخدم فاراج هذه المخاوف كأداة لتعزيز الموقف السياسي لليمين المتطرف عبر تصوير المهاجرين كتهديد مباشر للهوية الوطنية والاستقرار الاجتماعي.
احتجاجات مضادة ضد التمييز:
وفي مواجهة صريحة لليمين المتطرف، تم تنظيم احتجاجات شعبية مناهضة للتطرف في مدن مثل لندن وبلفاست والتي ترفض رفضا قاطعاً الخطاب اليميني العنصري المتطرف، حيث ردد المتظاهرون هتافات مثل “حاربوا العنصرية” و”أوقفوا اليمين المتطرف” مما يشير إلى رفض شريحة كبيرة من المجتمع البريطاني للعنصرية وخطاب الكراهية ضد المهاجرين، بالإضافة إلى ذلك استغل أفراد المجتمع المدني وسائل التواصل الإجتماعي لجمع الأموال والتبرعات لضحايا هجوم اليمين المتطرف.[viii]
في نفس الإطار، صرح وزير الخارجية ونائب حزب العمال “ديفيد لامي” بضرورة “العودة إلى البريطانية” في إشارة منه إلى ضرورة التمسك بالقيم الوطنية الأساسية التي تشكل الهوية الإنجليزية ومنها التسامح والعيش المشترك بين مختلف فئات المجتمع[ix]، مما يمثل انتقاداً مباشراً لقيم اليمين المتطرف من انعزالية ورفض الأخر والتي قد تؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي وإثارة الانقسامات داخل المجتمع.
الأبعاد القانونية والأمنية:
تمثل هذه الحادثة أول أزمة حقيقية يواجهها رئيس الوزراء البريطاني “كير ستارمر” منذ توليه المنصب، وفي تصريحاته أعرب ستارمرعن رفضه التام لأعمال العنف والشغب التي قام بها اليمين المتطرف كما أكد على ضرورة معاقبة مثيري الشغب ب “قوة القانون”، وبالفعل تم إصدار أحكام سجن سريعة على المتورطين في هذه الأعمال. من الجانب الأمني قامت الحكومة البريطانية بتكوين قوة أمنية دائمة مكونة من 6000 ضابط متخصص للتعامل مع أعمال العنف والمظاهرات، كما وفرت الحكومة وجهزت 500 مكان إضافي في السجون لإستقبال المعتقلين، الجدير بالذكر أن هذا التحرك السريع من قبل الحكومة يشير إلى الرغبة في تعزيز ثقة المواطنين في قدرة الحكومة على حماية الأمن الداخلي وخصوصاً أن مثل هذه الأحداث قد تؤدي إلى تعميق الاستقطاب في المجتمع البريطاني.[x]
ختاماً، يمثل ذلك الحادث مثالاً تطبيقياً على نظرية الهوية الاجتماعية وما تضمنته من مفاهيم مثل التمايز بين المجموعات بحيث يسعي الأفراد لتعزيز مكانة مجموعتهم من خلال إظهار التفوق على المجموعات الأخرى ومن خلال هذا الحادث سعى اليمين المتطرف إلى ترسيخ هوية جماعية قائمة على الخوف والعداء تجاه الأخر، وهو ما قد يهدد النسيج الاجتماعي ويقود إلى انقسامات داخلية، وقد يؤثر على مستقبل المهاجرين سلباً في بريطانيا، ولا ننسى أن التوجه اليميني كان سبباً في انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوربي.
[i] Kate Holton, Catarina Demony , and Suban Abdulla. Anti-racism protests sweep Britain after far-right riots | reuters, August 8, 2024. https://www.reuters.com/world/uk/british-police-brace-anti-muslim-riots-counter-protests-2024-08-07/.
[ii]Edna, Mohamed. “Southport Stabbing: What Led to the Spread of Disinformation?” Al Jazeera, August 2, 2024. https://www.aljazeera.com/news/2024/8/2/southport-stabbing-what-led-to-the-spread-of-disinformation.
[iii] M.A.,Hogg. (2016). Social Identity Theory. In: McKeown, S., Haji, R., Ferguson, N. (eds) Understanding Peace and Conflict Through Social Identity Theory. Peace Psychology Book Series. Springer, Cham. https://doi.org/10.1007/978-3-319-29869-6_1
[iv] Ibid.
[v] Edna, Mohamed. “Southport Stabbing: What Led to the Spread of Disinformation?” Al Jazeera, August 2, 2024. https://www.aljazeera.com/news/2024/8/2/southport-stabbing-what-led-to-the-spread-of-disinformation.
[vi] “Extreme-Right Activists Are Terrorising UK’s Muslims, Says Charity.” The Guardian, August 4, 2024. https://www.theguardian.com/society/article/2024/aug/04/extreme-right-activists-terrorising-uk-muslims-tell-mama.
[vii] “Far-Right Rioters Attack Asylum Seeker Hotels in UK’s Rotherham, Tamworth.” Al Jazeera, August 5, 2024. https://www.aljazeera.com/news/2024/8/4/far-right-rioters-attack-hotel-housing-asylum-seekers-in-uk.
[viii] Kate Holton, Catarina Demony , and Suban Abdulla. Anti-racism protests sweep Britain after far-right riots | reuters, August 8, 2024. https://www.reuters.com/world/uk/british-police-brace-anti-muslim-riots-counter-protests-2024-08-07/.
[ix] “Far-Right Rallies Abandoned amid Warnings of 10-Year Sentences.” The Guardian, August 11, 2024. https://www.theguardian.com/politics/article/2024/aug/11/far-right-demonstrations-abandoned-amid-warnings-of-10-year-sentences.
[x] Kate Holton, Catarina Demony , and Suban Abdulla. Anti-racism protests sweep Britain after far-right riots | reuters, August 8, 2024. https://www.reuters.com/world/uk/british-police-brace-anti-muslim-riots-counter-protests-2024-08-07/.