تشهد ليبيا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة أعقبت الإطاحة بنظام معمر القذافي، إلا أن هذه التحولات لم تصل إلى بناء دولة حديثة مستقرة، بل أسفرت عن فراغ سياسي مزمن وتفرق أمني أدى إلى حالة من الصراع المستمر بين قوى متنافسة على الشرعية والنفوذ. وفي ظل هذا السياق الهش، جاءت الاشتباكات المسلحة الأخيرة في العاصمة طرابلس لتؤكد مجددًا أن سلطة الدولة المركزية ما تزال ضعيفة وغير قادرة على احتكار أدوات القوة. وتفاقم الوضع باغتيال إحدى الشخصيات الأمنية المؤثرة، عبد الغني الككلي المعروف باسم “غنيوة”، ما اعتبره مراقبون تصعيدًا خطيرًا في صراع الميليشيات التي تحكم العاصمة. هذا الحدث يعكس عمق الأزمة البنيوية في النظام السياسي الليبي، ويطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل الدولة الليبية، ومدى قدرتها على استعادة سيادتها الداخلية ومؤسساتها.[1]
أولًا: من هو غنيوة؟ الخلفية والسياق
عبد الغني الككلي، المعروف بلقب “غنيوة”، هو أحد أبرز القادة الميدانيين في العاصمة طرابلس، وقائد ما يُعرف بـ”جهاز دعم الاستقرار”، وهو تشكيل أمني شبه رسمي أنشئ في 2021 بقرار من حكومة الوفاق الوطني آنذاك. اشتهر غنيوة بكونه شخصية محورية ضمن المعادلة الأمنية في العاصمة، حيث لعب دورًا مزدوجًا، من جهة تولى مهمات تتعلق بالأمن الداخلي ومكافحة الجريمة، ومن جهة أخرى كان يُتهم من قبل خصومه المحليين ومنظمات حقوقية دولية بتورطه في ممارسات خارجة عن القانون، مثل الاحتجاز التعسفي والتعذيب والابتزاز المالي.[2]
قبل سقوط نظام القذافي، لم يكن غنيوة شخصية معروفة على المستوى الوطني، لكنه وُصف لاحقًا بأنه كان جزءًا من “اللجان الثورية” في الحي الشعبي الذي ينتمي إليه. وبعد عام 2011، تمكن من توسيع نفوذه بسرعة في منطقة أبو سليم، وهي أحد أحياء طرابلس الكبرى، مستفيدًا من الفراغ الأمني والتفتت المؤسسي. وخلال سنوات الحرب الأهلية والانقسامات، حافظ غنيوة على موقعه من خلال تحالفات متقلبة مع قوى سياسية وعسكرية متعددة، وصولًا إلى حصوله على شرعية شبه رسمية حين تم تعيينه رئيسًا لجهاز دعم الاستقرار. بهذا، تحول من “قائد ميليشيا محلية ” إلى فاعل أمني يضطلع بأدوار سيادية في الدولة الموازية التي تشكلت في ليبيا بعد 2014.[3]
ثانيًا: الاشتباكات الأخيرة في طرابلس: تجليات صراع الدولة والميليشيا
شهدت طرابلس خلال الأسابيع الأخيرة اشتباكات عنيفة بين مجموعات مسلحة رئيسية أبرزها “جهاز دعم الاستقرار” بقيادة غنيوة و”جهاز الردع لمكافحة الجريمة والإرهاب” بقيادة عبد الرؤوف كارة. اندلع النزاع في إطار تنافس قديم على مناطق النفوذ داخل العاصمة، إذ يحاول كل طرف فرض سيطرته على مساحات استراتيجية من المدينة، مثل مداخلها ومخارجها، إضافة إلى مرافق حساسة مثل مطار معيتيقة، والمقار الحكومية، وحتى البنوك.[4]
الاشتباكات لم تكن حادثًا عرضيًا بقدر ما كانت تعبيرًا عن ديناميات عميقة في توازن القوى بين المجموعات المسلحة، والتي غالبًا ما ترتبط بتحالفات سياسية داخل الحكومة أو تحظى بدعم خفي من أطراف إقليمية. وساهم ضعف الحكومة المركزية في تغذية هذا الصراع، إذ فشلت في دمج الميليشيات داخل مؤسسة عسكرية موحدة، كما فشلت في احتكار استخدام القوة.[5]
وقد أسفرت هذه الاشتباكات عن سقوط ضحايا مدنيين وترويع سكان العاصمة، وأثارت مخاوف من انزلاق الوضع نحو جولة جديدة من الحرب الأهلية المصغرة، خاصة في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية في المنطقة، واستمرار الانقسام في الشرعية بين شرق البلاد وغربها.[6]
ثالثًا: اغتيال غنيوة: تداعيات سياسية وأمنية
شكل اغتيال غنيوة صدمة قوية للمعادلة الأمنية الهشة في طرابلس. فبالرغم من الجدل حول ممارساته، ظل غنيوة يمثل رقمًا صعبًا في ميزان التوازن غير المستقر بين الجماعات المسلحة. اغتياله، الذي تم في ظروف غامضة بحسب المصادر الأولية، أثار جملة من التساؤلات: هل كان تصفية ميدانية منظمة من قبل خصومه؟ أم نتاجًا لانشقاقات داخل جهازه؟ أم ربما رسالة سياسية من أطراف عليا في الدولة تمهيدًا لإعادة تشكيل المشهد الأمني؟[7]
تداعيات الاغتيال لم تقتصر على الجوانب الأمنية، بل امتدت لتشمل البنية السياسية نفسها. فقد أُضعفت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة التي كانت تعتمد على غنيوة كأحد أذرعها الأمنية، ما قد يفتح الباب أمام تحالفات جديدة تعيد رسم خريطة السيطرة داخل العاصمة. كما زادت هذه الحادثة من تعقيد مهمة التهدئة، وأربكت المساعي الأممية لإطلاق عملية سياسية مستقرة، إذ أصبحت طرابلس أمام واقع أكثر تفجرًا بعد غياب أحد أبرز ضامني توازن القوى.[8]
رابعًا: من يسيطر على الحكم في ليبيا اليوم؟ وتوجهاته السياسية
في ظل الانقسام المؤسساتي الحاد، تُعد حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة الجهة التي تدير السلطة التنفيذية فعليًا في غرب ليبيا، وهي تحظى باعتراف دولي جزئي منذ تشكيلها في إطار مخرجات ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف عام 2021. ومع ذلك، فإن شرعيتها تعرضت للطعن بعد تعيين البرلمان لحكومة موازية في الشرق برئاسة فتحي باشاغا ثم أسامة حماد، بدعم من المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي المتمركز في بنغازي.[9]
توجهات حكومة الدبيبة تعكس رغبة في تعزيز علاقات ليبيا مع تركيا وقطر، مع محاولة الاستفادة من العوائد النفطية لتثبيت سلطتها عبر توزيع المنافع. إلا أن غياب انتخابات شرعية وتمسكه بالسلطة رغم انتهاء التفويض الزمني له أضعف من شرعيته داخليًا، وزاد من حالة الانسداد السياسي، وعمق فقدان الثقة بين الفرقاء الليبيين.[10]
في المقابل، يسيطر حفتر على شرق وجنوب البلاد عبر قواته المسلحة، ويتبنى خطابًا قوميًا محافظًا مدعومًا من قوى إقليمية ودولية. هذا التوازن المزدوج يجعل ليبيا عمليًا تحت سلطتين، في ظل غياب مؤسسات موحدة أو دستور دائم، ويعقد من فرص الوصول إلى اتفاق شامل حول مسار المرحلة الانتقالية.[11]
خامسًا: التدخلات الدولية في ليبيا: صراع النفوذ على حساب السيادة
منذ اندلاع الثورة الليبية في عام 2011، لم تكن ليبيا ساحة صراع داخلي فحسب، بل تحولت تدريجيًا إلى ساحة تنازع جيوسياسي دولي، حيث لعبت قوى إقليمية ودولية دورًا أساسيًا في تشكيل مسار الأحداث، وأثرت بشكل مباشر على موازين القوى داخل البلاد، في ظل غياب منظومة وطنية قوية قادرة على احتكار القرار السيادي.[12]
يمكن تصنيف التدخلات الدولية في ليبيا إلى نوعين رئيسيين، تدخلات مباشرة عسكرية وأمنية، وتدخلات سياسية واقتصادية ناعمة. فعلى الصعيد العسكري، برزت تركيا كأبرز داعم لحكومة الوحدة الوطنية في الغرب، من خلال اتفاقيات أمنية وقواعد عسكرية ونقل للمرتزقة من سوريا، بالإضافة إلى دعم تقني واستخباراتي مكثف. في المقابل، دعمت قوى أخرى قوات المشير خليفة حفتر، خصوصًا خلال معركة طرابلس عام 2019–2020، حيث أمدته تلك الدول بالسلاح والطيران المسير والمستشارين العسكريين، مما كشف عن انقسام دولي عميق بشأن مستقبل ليبيا.[13]
أما على الصعيد السياسي، فقد فشلت جهود الأمم المتحدة والبعثة الأممية (UNSMIL) في فرض تسوية شاملة بسبب ازدواجية مواقف بعض القوى الدولية. ففي حين تدعو دول مثل الولايات المتحدة وألمانيا إلى وحدة ليبيا عبر العملية الانتخابية، فإن الواقع يظهر وجود مصالح اقتصادية ونفطية واستراتيجية تعيق هذا المسار. فالتحكم في موانئ النفط، والسيطرة على المصرف المركزي، وإدارة العقود الدولية، كلها ملفات تقع تحت تأثير هذه القوى الخارجية التي تتعامل مع ليبيا كساحة تنافس لا كمجتمع يحتاج إلى إعادة بناء.[14]
إضافة إلى ذلك، خلقت التدخلات الدولية شبكة معقدة من التحالفات المتضاربة، بحيث بات الفاعلون المحليون يراهنون على دعم خارجي أكثر من رهانهم على الشرعية الوطنية. وأدى هذا إلى تقويض السيادة الليبية، وأنتج نموذجًا هجينًا من الدولة، يجمع بين الطابع الرسمي المهتز وبين منظومات سلطوية موازية تتحكم فيها الميليشيات، وتدعمها قوى خارجية وفق أجنداتها الخاصة.[15]
إن استمرار هذا النمط من التدخل يعمق الانقسام ويجعل الحل الليبي رهينة لمعادلات إقليمية ودولية، ويزيد من هشاشة أي تسوية مستقبلية، ما لم يتم إعادة صياغة دور المجتمع الدولي كوسيط نزيه، وليس كفاعل منحاز يُعزز الاستقطاب القائم.
سادسًا: المسارات المحتملة: بين الفوضى المؤسسية والضغط الدولي
الوضع في ليبيا يسير حاليًا على حافة هاوية قابلة للاشتعال في أي لحظة. هناك ثلاثة مسارات محتملة قد يتخذها المشهد الليبي بعد اغتيال غنيوة:
أولًا، سيناريو الانفجار الأمني، حيث تتفاقم الصراعات بين المجموعات المسلحة في طرابلس، مما يؤدي إلى انهيار ما تبقى من السلطة المركزية، وعودة الفوضى الشاملة التي تُعيد البلاد إلى نقطة الصفر.
ثانيًا، سيناريو التهدئة المشروطة، الذي يقوم على تدخل إقليمي ودولي عاجل للضغط من أجل هدنة دائمة، مع رعاية إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية، وتفكيك المجموعات المسلحة أو دمجها داخل مؤسسات الدولة، وهو سيناريو ممكن لكنه هش.
ثالثًا، سيناريو التدويل الكامل، حيث تتولى الأمم المتحدة أو قوة دولية فرض خارطة طريق ملزمة على الفرقاء، بما في ذلك الإشراف على الانتخابات وتوحيد المؤسسات بالقوة الناعمة أو الصلبة، وهو خيار قد يثير حفيظة بعض الفاعلين المحليين والإقليميين، لكنه بدأ يُطرح مجددًا كحل أخير.
ختامًا، تكشف حادثة اغتيال غنيوة والاشتباكات التي سبقتها أن ليبيا لا تزال أسيرة لمنطق السلاح والشرعيات الموازية، وأن السلطة فيها لا تُمارس من خلال المؤسسات، بل عبر التحالفات المتغيرة بين أمراء الحرب وقادة الميليشيات. إن ما جرى يعيد التأكيد على أن غياب مشروع وطني موحد، وتراخي المجتمع الدولي، واستمرار التدخلات الخارجية، كلها عوامل تغذي الأزمة وتمنع البلاد من الخروج من نفقها التاريخي الطويل. لا يمكن لليبيا أن تستعيد عافيتها إلا من خلال عملية سياسية شاملة، تبدأ بإعادة الاعتبار لفكرة الدولة نفسها، وتُعيد دمج القوى المسلحة في مشروع وطني لا يقوم على الغنائم، بل على المواطنة والعدالة والمؤسسات.
المصادر
[1] مقتل الككلي في ليبيا ـ أزمة جديدة تعكس هشاشة الدولة، نُشر في 15 مايو 2025.
[2] كيف تغيرت خريطة القوى في طرابلس بعد مقتل الككلي؟، نُشر في 13 مايو 2025، صحيفة الشرق الأوسط.
[3] ليبيا: اشتباكات عنيفة في طرابلس لليلة الثانية على التوالي بعد مقتل غنيوة الككلي، نُشر في 14 مايو 2025، فرانس 24.
[4] إزفيستيا: أسباب التصعيد الجديد في ليبيا، نُشر في 14 مايو 2025، الجزيرة نت.
[5] عودة الهدوء إلى طرابلس بعد اشتباكات أودت بحياة عسكريين منهم ضابط كبير، نُشر في 13 مايو 2025، الجزيرة نت.
[6] من هو عبد الغني الككلي”صانع حكام طرابلس ورجل الظل”؟، نُشر في 13 مايو 2025، بي بي سي نيوز عربي.
https://www.bbc.com/arabic/articles/cd0lejlkj3jo
[7] اشتباكات ليبيا تشير إلى تنامي نفوذ الدبيبة، نُشر في 13 مايو 2025، صحيفة الشرق الأوسط.
[8] فوضى ومعارك وتحركات عسكرية بطرابلس الليبية، نُشر في 13 مايو 2025، اليوم السابع.
[9] ليبيا.. قراءة في تفاعل المعارك العسكرية مع الاستقطابات السياسية، مركز الجزيرة للدراسات.
https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2017/03/170309110422597.html
[10] اشتباكات مسلحة وفوضى أمنية فى ليبيا.. فرار أخطر السجناء من سجون طرابلس، نُشر في 14 مايو 2025، اليوم السابع.
[11] بعد عقد من الانقسام.. كيف تبدو خارطة النفوذ السياسي بليبيا؟، نُشر في 30 أغسطس 2023، الجزيرة نت.
[12] تأثير التدخلات الخارجية على مستقبل الاستقرار السياسي في ليبيا، مجلة الدراسات السياسية والاقتصادية.
https://psej.journals.ekb.eg/article_320201_f51055a26d24a121aedc7aa4964d24c6.pdf
[13] التدخل الدولي الإنساني في ليبيا دوافعه ومبرراته وتجاوزاته وانعکاس ذلک على السيادة الليبية، المجلة العلمية للدراسات التجارية والبيئية.
https://jces.journals.ekb.eg/article_51661_9de80d91578dc5139ee322d296f08c8f.pdf
[14] التدخل الدولي في ليبيا وانعكاسه على أمن واستقرار الدولة الوطنية، السياسة العالمية.
https://asjp.cerist.dz/en/article/237625
[15] التدخل الخارجي في ليبيا… طَرقٌ على باب مفتوح، نُشر في 15 يوليو 2023، المجلة.
باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب