تنادي العديد من الدول بتطبيق حل الدولتين كسبيل لإنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولكن منذ التوقيع على اتفاقية أوسلو وإسرائيل تنتهكها ولا تتوقف عن زيادة الاستيطان في الضفة الغربية في ظل صمت دولي؛ مما يجعل حل الدولتين غير قابل للتحقق على الأرض. وفي ضوء ذلك، يحلل هذا المقال التحليلي واقع الضفة الغربية في ظل زيادة الاستيطان ووصوله لمستويات تجعل من المناداة بتطبيق حل الدولتين مجرد شعارات تصطدم بسؤال “أين ستقام الدولة الفلسطينية؟”.
أولًا: الزيادة في عدد المستوطنين والمستوطنات في الضفة الغربية
تضاعف عدد المستوطنين عدة مرات منذ نهاية القرن الماضي في الضفة الغربية، حيث قُدر عددهم بنحو 105 آلاف عام 1991، ونحو 210 آلاف عام 2000، و340 ألفا عام 2012. وحاليًا، يقيم 770 ألف مستوطن في 180 مستوطنة و356 بؤرة استيطانية، فضلًا عن السيطرة على 136 بؤرة زراعية رعوية استيطانية تمتد على أكثر من 480 ألف دونم[1] من أراضي فلسطين، وفوق ذلك، تم إصدار 939 إخطار بالهدم ووقف بناء لمنازل ولمنشآت فلسطينية. كما تقيم إسرائيل ما يقارب الـ 900 حاجز عسكري وبوابة تقيد حركة الفلسطينيين في الضفة الغربية.[2]
ويشير تقرير هيئة مقاومة الجدار إلى أن الاحتلال الإسرائيلي قد استولى على 46 ألف دونم خلال 2024، فضلا عن إقامة 60 بؤرة استيطانية جديدة منذ عام 2023.[3] كما تسيطر إسرائيل على نحو 2382 كيلومترا مربعا؛ أي ما يعادل 42% من مجمل أراضي الضفة الغربية، و70% من مجمل المناطق “ج”، وتخضعها لإجراءات احتلالية. وتمضي إسرائيل في هذا النهج بلا توقف حيث أصدرت 13 أمرا عسكريا لإنشاء مناطق عازلة حول مستوطنات الضفة لمنع وصول الفلسطينيين لآلاف الدونمات من أراضيهم تمهيدًا لعملية الاستيلاء عليها. وعلاوة على ذلك، يقبع أكثر من 10 آلاف أسير فلسطيني من سكان الضفة الغربية في سجون الاحتلال.[4]
ثانيًا: نمط الاستيطان وتآكل أراضي الضفة الغربية
ولا تكمن أزمة القضية الفلسطينية فقط في زيادة نسبة الاستيطان في الضفة الغربية، بل في النهج والنمط المتبع في الاستيطان واختيار مواقع بعينها من أجل تفتيت وتقطيع أوصال الضفة حتى تصبح قرى ومدن الفلسطينيين عبارة عن كانتونات[5] Cantons متفرقة يستحيل إقامة دولة عليها بسبب غياب مقومات الدولة. وهكذا أصبح حل الدولتين الذي ينادي بإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967 مجرد شعارات؛ فالحدود الفاصلة بين الإسرائيليين والفلسطينيين ليست حدود الرابع من يونيو أو الخط الأخضر، بل هي الحدود الفعلية في داخل الضفة بين المستوطنات الإسرائيلية والمدن والمخيمات الفلسطينية المطوقة من كل جانب. ويرجع ذلك إلى الواقع الذي تمكنت إسرائيل من خلقه على الأرض في ظل الصمت الدولي. ولكن السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط لن يتحقق ما لم تقم دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967، حتى وإن نجحت إسرائيل في التطبيع مع جميع الدول العربية.

وتوضح هذه الخريطة تآكل أراضي الضفة الغربية وما تبقى من مدنها ومخيماتها التي أصبحت رهينة للاحتلال الإسرائيلي. كما تبرز آخر خريطة – المؤرخة بتاريخ 2020 – وضع الضفة الغربية في ضوء صفقة القرن التي أعلن عنها الرئيس ترامب في ولايته الأولى في 2020، حيث تحصل تلك الرقع المفتتة على بعض السلطات التي تجعلها لا تتعدى سلطة وحدة محلية في دولة فيدرالية.[6] وإضافة إلى ذلك، فإن أي اعتراف بالدولة الفلسطينية على تلك الشاكلة هو اعتراف بسيادة إسرائيل على أغلب أراضي الضفة والمستوطنات غير الشرعية والقانونية في نظر القانون الدولي؛ ولذلك تعتبر خطوة كتلك بمثابة خطوة سلبية لا تصب في مصلحة القضية.
ويمكن القول إن الزيادة الموضحة في حجم الأراضي الفلسطينية في إطار صفقة القرن ما هي إلا وعود من إدارة ترامب تقضي بإزالة المستوطنات التي لم تحصل على تصريح من حكومة الاحتلال، ولكن يستحيل أن تزيلها إسرائيل من تلقاء نفسها فهي في وجهة نظرها مستوطنات في يهودا والسامرة التي تريد إسرائيل إعادة تسكين اليهود فيها عن طريق قتل سكانها وسرقة أراضيهم ومنازلهم خلافًا للتفسيرات التوراتية الصحيحة.[7]
كما أن أية وعود أخرى لتلك الدولة المرجوة لن تجد طريقها إلى النور، وخير دليل اتفاقية أوسلو التي تضاعف بعدها عدد المستوطنين والمستوطنات في الضفة الغربية، ولم يتحقق من بنودها سوى سلطة فلسطينية. فاتباع الطرق السلمية والمفاوضات مع إسرائيل دون التسلح بقوة فعلية على الأرض؛ يعطي لإسرائيل الوقت والمساحة لتنفيذ مخططاتها،[8] حيث تعتبر إسرائيل هذا النوع من المفاوضات وسيلة لإسكات وتحييد أعمال النضال من أجل استكمال الاستيطان وخلق واقع على الأرض يصعب إزالته.[9]
كما يُعتبر اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل أحد أهم الطعنات لمشروع حل الدولتين، وترى إسرائيل أن “القدس موحدة” هي العاصمة الأبدية لها، وتقوم بجهود مضنية من أجل تهويد القدس عن طريق تهجير السكان، حيث تزيد الآن نسبة الإسرائيليين عن 60% من سكان القدس. ولا تقتصر سياسة التهجير فقط على القدس، بل تمتد إلى باقي المخيمات والمدن الفلسطينية في الضفة الغربية التي تحيطها المستوطنات من كل جانب. فعلى سبيل المثال، صرح يسرائيل كاتس وزير الدفاع الإسرائيلي في فبراير الماضي قائلًا: “حتى الآن، تم إجلاء 40 ألف فلسطيني من مخيمات اللاجئين في جنين وطولكرم ونور شمس التي أصبحت الآن خالية من السكان”.[10]
ثالثًا: مخطط التهجير في غزة والضفة الغربية
كما دمرت إسرائيل ما يربو على الـ 1000 منزل داخل تلك المخيمات، وفق اللجنة الإعلامية للمخيمات. ويتم تهجير هؤلاء السكان تحت تهديد السلاح، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية وشق طرق جديدة على حساب منازل المهجرين، في مخطط يجعل من المستحيل عودتهم لتلك المخيمات التي لجأوا إليها بعد أن هُجروا في بادئ الأمر إبان النكبة. ولا يمكن فصل ذلك المخطط عما يجري في غزة من إبادة ومحاولات للتهجير القسري بعد أن أصبح القطاع خالٍ من مقومات الحياة، فضلًا عن الإدارة العسكرية التي أنشأتها إسرائيل لتهجير سكان القطاع.[11]
وعندما نرى الإمعان الإسرائيلي في تهجير سكان قطاع غزة والتي لا تقارن أهميتها بالنسبة للضفة الغربية التي تنظر إليها إسرائيل على أنها “يهودا والسامرة”، يمكننا استشراف ما ينتظر الضفة من مخططات أكثر عدوانية. هذا فضلًا عن رغبة إسرائيل في توسيع مساحتها التي قال ترامب إنها صغيرة للغاية، وهو ما سيتحقق إذا ضمت إسرائيل الضفة الغربية واحتلت مساحات أخرى من دول محيطة كما فعلت في سوريا ولبنان.[12]
ختامًا، في ظل ولاية ترامب الثانية، من المتوقع أن تزيد إسرائيل من الاستيطان في الضفة الغربية، فقد ساعد ترامب أثناء ولايته الأولى إسرائيل في تحقيق مكاسب على الأرض من خلال اعترافه بسيادة إسرائيل على القدس والجولان. كما افتتح ولايته الثانية بإلغاء المرسوم الذي كان قد أصدره الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن بشأن فرض عقوبات على “المستوطنين اليهود المتطرفين الذين يهددون الأمن في الضفة الغربية”، كما صرح ترامب أنه يدرس ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، وكذلك قدّم مشرعون جمهوريون في مجلس النواب مشاريع قوانين لحظر استخدام مصطلح الضفة الغربية في الوثائق الحكومية الأمريكية، وأوصت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي باستخدام مصطلح يهودا والسامرة عند الإشارة إلى الضفة الغربية في جميع المراسلات الرسمية والتواصل والوثائق.[13]
وفي إطار ذلك الواقع المعقد الذي وصلت له القضية الفلسطينية، جاءت عملية طوفان الأقصى لتحاول إحياء القضية مرة أخرى بعد أن كادت أن تغيب عن الساحة الدولية؛ فالمناداة بحل الدولتين والانخراط في مسار السلام دون اتخاذ إجراءات فعلية وفر لإسرائيل المساحة والوقت لزيادة الاستيطان وقتل حلم الدولة الفلسطينية على أرض الواقع. وقد ساهمت تلك الدعوات في إضفاء هالة إيجابية على حل القضية الفلسطينية دون الكشف عما يجري على أرض الواقع من تآكل لما تبقى من فلسطين؛ ليصطدم في النهاية المنادون بإقامة دولة فلسطينية ببداهة سؤال “أين ستقام الدولة الفلسطينية بعد كل ذلك؟”.
[1] الدونم وحدة لقياس مساحة الأرض ويساوي 1000 متر مربع
[2]نورا الشيخ، “حولت التنقل إلى كابوس.. إسرائيل تخنق الضفة بأكثر من 900 حاجز،” 10فبراير 2025. https://youtube.com/shorts/m4n81w-w7HQ?si=Ulw2F7BClBquL9jV
[3] “الاستيطان يلتهم الضفة الغربية بالتزامن مع تدمير المخيمات،” الجزيرة، 30 مارس 2025. الاستيطان يلتهم الضفة الغربية بالتزامن مع تدمير المخيمات | أخبار | الجزيرة نت
[4] “أبرز الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية،” الشرق الأوسط، 17 يناير 2025. أبرز الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية
[5] وفقا للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، الكانتونات أو الكانتونية عبارة عن عملية سياسية لتكوين أقاليم ذات حكم ذاتي في مجالات حياتية مختلفة. وتكون هذه الكانتونات خاضعة لسلطة الحكم المركزي الذي يقوم بدوره بالإشراف على الشئون الخارجية والأمنية، كما هو الحال في سويسرا.
[6] Dany Tirza, Among the Maps: President Trump’s Vision vs. an Israeli Proposal,” The Washington Institute, 14 August 2020. “https://www.washingtoninstitute.org/experts/dany-tirza
[7] فاطمة التريكي، “لماذا تكتسب الضفة والقدس أهمية قصوى للمشروع الإسرائيلي؟” الجزيرة، 30 أغسطس 2025. لماذا تكتسب الضفة والقدس أهمية قصوى للمشروع الإسرائيلي؟ | أخبار | الجزيرة نت
[8] علا المصري، “صفقة القرن… التفاوض أم تصفية القضية؟” منتدى القدس الثقافي، 2020. صفقة القرن… التفاوض أم تصفية القضية؟ – ملتقى القدس الثقافي
[9] عوض الرجوب، “29 عاما على توقيعها.. تعرف على اتفاقية أوسلو وحصادها،” الجزيرة، 13 سبتمبر 2022. 29 عاما على توقيعها.. تعرف على اتفاقية أوسلو وحصادها | سياسة | الجزيرة نت
[10] “الجيش الإسرائيلي لـ«بقاء طويل» في الضفة… وكاتس يعلن «إجلاء» 40 ألف فلسطيني من 3 مخيمات،” الشرق الأوسط، 23 فبراير 2025. الجيش الإسرائيلي لـ«بقاء طويل» في الضفة… وكاتس يعلن «إجلاء» 40 ألف فلسطيني من 3 مخيمات
[11] “إدارة عسكرية إسرائيلية لتهجير الغزيين وتعزيز الاستيطان بالضفة،” الجزيرة، 24 مارس 2025، إدارة عسكرية إسرائيلية لتهجير الغزيين وتعزيز الاستيطان بالضفة | سياسة | الجزيرة نت
[12]” من هيرتزل إلى سموتريتش.. أوهام “إسرائيل الكبرى”، 12 أكتوبر 2024، www.aa.com.tr
[13] Barak Ravid, “Exclusive: GOP staffers told to call occupied West Bank Judea and Samaria,” Axios, 26 Feb 2025. https://www.axios.com/2025/02/26/west-bank-judea-samaria-name-change-gop
باحث علاقات دولية بمركز ترو للدراسات