في خطوة تعكس تصاعد الاهتمام الدولي بإعادة إحياء مسار السلام الفلسطيني-الإسرائيلي، استضافت مدينة نيويورك مؤتمرًا دوليًا رفيع المستوى حول حل الدولتين، بمبادرة مشتركة من المملكة العربية السعودية والجمهورية الفرنسية، في الثامن والعشرون من الشهر الجاري لعام 2025. هدف المؤتمر المعلن يتمثل في إعادة تسليط الضوء على مبادئ حل الدولتين باعتباره الإطار الوحيد القادر على ضمان الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، في ظل الانسداد السياسي الراهن، وتنامي التوترات الإقليمية والدولية.[1]
وقد سعى المؤتمر، الذي جاء في لحظة حرجة من التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية واستمرار الحصار على قطاع غزة، إلى تجميع جهود الأطراف الدولية والإقليمية الداعمة للسلام العادل، من خلال خلق أرضية سياسية جامعة تُعيد إطلاق مفاوضات جادة، وتوفر مظلة أممية داعمة لهذا المسار وفقًا لقرارات الشرعية الدولية.[2]
أولًا: السياق السياسي لانعقاد المؤتمر
انعقد المؤتمر في ظل تعثر المساعي الأمريكية التقليدية في تحريك المفاوضات، وفي لحظة تعاني فيها القيادة الفلسطينية من تآكل الشرعية الداخلية، بينما تمضي الحكومة الإسرائيلية اليمينية الحالية في توسيع الاستيطان وتقويض فرص إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة. على هذه الخلفية، جاءت المبادرة السعودية-الفرنسية كمحاولة لكسر الجمود عبر تفعيل الدبلوماسية متعددة الأطراف، وإعادة التوازن إلى مواقف القوى الكبرى المنخرطة في ملف السلام.[3]
تمثل هذه الخطوة امتدادًا طبيعيًا لتقاطع مصالح كل من الرياض وباريس ضمن أجندتيهما في السياسة الخارجية، حيث تسعى المملكة العربية السعودية إلى تكريس موقعها كقوة إقليمية رائدة عبر تبني ملفات مركزية تتصل بالسلم والأمن الدوليين، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، بوصفها قضية جامعة تُعيد إنتاج شرعية القيادة الإقليمية والدينية للمملكة في المحيطين العربي والإسلامي. وفي المقابل، ينخرط الدور الفرنسي في هذا المسار انطلاقًا من مسعى استراتيجي لإعادة التمركز كلاعب أوروبي محوري في قضايا الشرق الأوسط، خاصة بعد تراجع الحضور الأوروبي في الملف الفلسطيني لصالح الأدوار الأمريكية والروسية.
وفي السياق ذاته، لا يمكن فصل الحراك الفرنسي عن البُعد السياسي الداخلي، حيث يشكل ملف فلسطين بالنسبة للرئيس إيمانويل ماكرون فرصة لتوظيف أخلاقي-سياسي يستهدف استعادة جزء من ثقة الشارع الفرنسي، خصوصًا في أوساط الجاليات المسلمة واليسار التقدمي، وذلك في أعقاب التوترات التي أعقبت الحرب الأخيرة على غزة وتصاعد الانتقادات الداخلية لسياسات الإليزيه تجاه الشرق الأوسط. وهكذا، تتقاطع الاعتبارات الجيوسياسية والإستراتيجية مع حسابات السياسة الداخلية، لتجعل من القضية الفلسطينية منصة لإعادة صياغة أدوار إقليمية ودولية في لحظة تشهد إعادة رسم توازنات القوة في النظام الدولي.[4]
ثانيًا: مواقف الدول المشاركة: رصد اتجاهات المجتمع الدولي داخل قاعة المؤتمر
اتسم المؤتمر بحضور نوعي يمثل طيفًا واسعًا من المجتمع الدولي، تباينت فيه مواقف الدول وتوجهاتها بين الدعم الكامل، والتحفظ المشروط، والمواقف الغامضة أو الغائبة عن المشهد. وقد وفر هذا التنوع في التمثيل فرصة لرصد الخطاب الدولي بشأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ومدى التزام الأطراف الدولية بمبدأ حل الدولتين.[5]
- الدول العربية: ثوابت راسخة وتطبيع مشروط برؤية عادلة للسلام
عكست مداخلات ممثلي الدول العربية خلال المؤتمر تمسكًا واضحًا بالثوابت القومية تجاه القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها مركزية القضية في وجدان العمل العربي المشترك، وضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. وقد شددت كلمات ممثلي كل من “مصر والأردن والمغرب وتونس وقطر والكويت” على رفض الإجراءات الأحادية التي تقوض فرص السلام، لا سيما التوسع الاستيطاني، وتهويد القدس، والاقتحامات المتكررة للمقدسات الإسلامية والمسيحية، باعتبارها استفزازات مباشرة للمشاعر العربية والإسلامية وانتهاكًا صريحًا للقانون الدولي.
وبرز الموقف السعودي، بصفتها الدولة الراعية للمؤتمر، بوصفه ترجمة عملية لثوابت السياسة الخارجية للمملكة تجاه القضية الفلسطينية، والتي تتمسك بمبدأ أن التطبيع مع إسرائيل ليس خيارًا استراتيجيًا قائمًا بذاته، بل هو مشروط بتحقيق تسوية عادلة وشاملة تضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وفي هذا الإطار، أكدت المملكة أن مبادرة السلام العربية لعام 2002 لا تزال تمثل الإطار الأكثر شمولًا وشرعية لحل الصراع، إذا ما توفرت الإرادة السياسية لدى إسرائيل. وهو ما يُعيد التأكيد على أن السعودية، رغم انخراطها المتزايد في إعادة صياغة أدوارها الإقليمية والدولية، لا تزال تنظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها معيارًا أخلاقيًا وسياسيًا لمصداقية التحالفات في المنطقة، وأن أي انفتاح دبلوماسي مع إسرائيل يجب أن يُبنى على أساس استيفاء الحقوق الفلسطينية، لا تجاوزها.
وبذلك، جسد الموقف العربي في هذا المؤتمر حالة من الإجماع على أن التطبيع لا يمكن أن يكون منفصلًا عن جوهر الصراع، وأن السياسات الإسرائيلية التي تُبقي الاحتلال وتعمق الاستيطان، تُفرغ أي مسعى للتطبيع من مضمونه السياسي والأخلاقي.[6]
- الدول الأوروبية: إجماع على الحل واختلاف حول آليات الضغط
عكست المداخلات الأوروبية ميلًا جماعيًا لدعم حل الدولتين ورفض السياسات الإسرائيلية الحالية، مع تفاوت واضح في حدة الخطاب. فقد دعت فرنسا وألمانيا وإسبانيا إلى الاعتراف الفوري بدولة فلسطين، ووصفت الوضع الحالي بأنه “غير مستدام أخلاقيًا وسياسيًا”. فيما تبنت دول أخرى مثل هولندا والنمسا مواقف أكثر تحفظًا، مشددة على ضرورة التوازن في الطرح دون المساس “بالمخاوف الأمنية الإسرائيلية”، ومع ذلك، بدا أن أوروبا باتت أكثر استعدادًا لاستخدام أدوات ضغط سياسية واقتصادية، مثل تقييد تمويل المشاريع في المستوطنات، أو فرض عقوبات على مسؤولين متورطين في انتهاك القانون الدولي الإنساني.[7]
- الولايات المتحدة: دعم مشروط دون التزامات حاسمة
جاء خطاب الوفد الأمريكي مقتضبًا ومحكومًا بالحسابات الداخلية والخارجية المعقدة. وعلى الرغم من تأكيد واشنطن دعمها لمبدأ حل الدولتين، إلا أنها امتنعت عن تأييد المقترحات الداعية إلى آليات إشراف دولي ملزمة أو تحديد جدول زمني لإنهاء الاحتلال. وقد ربط ممثلوها التقدم في المسار السياسي بتحسين الظروف الأمنية على الأرض والعودة إلى مفاوضات مباشرة دون شروط مسبقة.[8]
- روسيا والصين: تأييد ضمني ومنافسة ناعمة للنفوذ الغربي
أظهرت كل من موسكو وبكين دعمًا عامًا لحل الدولتين ورفضًا للإجراءات الأحادية، مع تحذيرات غير مباشرة من انفراد الغرب بإدارة الملف. وقد دعت روسيا إلى عقد مؤتمر دولي جديد في إطار رباعية دولية محدثة، بينما شددت الصين على ضرورة إقامة آلية أممية متعددة الأطراف تحل محل الوسيط الأمريكي المنفرد، معتبرة أن واشنطن فقدت حيادها ومصداقيتها. هذا الموقف يعكس رغبة القوتين في استثمار الملف الفلسطيني لتوسيع دورهما في النظام الدولي، وتقديم أنفسهم كبديل سياسي للهيمنة الغربية، دون الدخول في التزامات مباشرة أو آليات تنفيذية.[9]
- الدول الإفريقية والآسيوية: تضامن مبدئي ودعم ضمني للمبادرة
وبالرغم من عدم القيام بالدور الريادي لعدد من الدول الأفريقية والآسيوية في هذا الملف، إلا انهم عبروا عن تضامنهم التاريخي مع القضية الفلسطينية، لا سيما جنوب إفريقيا وإندونيسيا وماليزيا، التي رأت في المبادرة السعودية-الفرنسية فرصة جديدة لإعادة تدويل القضية. في حين اكتفى بعض المشاركين من دول جنوب آسيا وأمريكا اللاتينية بإصدار بيانات تأييد شكلية دون مواقف محددة أو مبادرات عملية.
يظهر من رصد مواقف الدول داخل المؤتمر أن الخطاب الدولي العام يتجه نحو إعادة الاعتراف بضرورة حل الدولتين، مع تعاظم نبرة الانتقاد للسياسات الإسرائيلية، وإن بقيت آليات الضغط غائبة أو غير موحدة. وفي الوقت الذي تسعى فيه بعض القوى الكبرى والمتوسطة لتعزيز دورها في ملف السلام عبر بوابة الدعم الأخلاقي، تتجه مواقفها في كثير من الأحيان إلى تحقيق مكاسب استراتيجية أكثر من كونها التزامًا حقيقيًا تجاه القيم الإنسانية.[10]
ثالثًا: مخرجات المؤتمر وتوزيع المواقف الدولية
شهد المؤتمر حضورًا واسعًا لممثلين عن أكثر من 50 دولة، إلى جانب الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وجامعة الدول العربية. وقد ركز البيان الختامي على النقاط التالية:
- التأكيد على حل الدولتين كخيار لا بديل عنه، على أن تقوم الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
- دعوة المجتمع الدولي إلى الاعتراف بدولة فلسطين بما يشكل ضغطًا معنويًا وسياسيًا على إسرائيل.
- الرفض القاطع للإجراءات الأحادية من أي طرف، خاصة بناء المستوطنات والضم الزاحف للأراضي.
- الدعوة لإطلاق مبادرة دولية جديدة بإشراف أممي، تضمن آليات ملزمة للطرفين ضمن جدول زمني واضح.
وقد أيدت هذه المخرجات معظم الدول الأوروبية والدول العربية، في حين لوحظ تحفظ الولايات المتحدة على بعض البنود المتعلقة بآليات الإشراف الدولي، بينما أعربت روسيا والصين عن دعم مشروط لأي مبادرة تلتزم بالشرعية الدولية وتبتعد عن الانحياز لطرف دون آخر.[11]
رابعًا: الأبعاد الاستراتيجية للدور السعودي-الفرنسي
عكست قيادة المؤتمر من قبل السعودية وفرنسا تحولات في البنية الدولية الحاضنة للقضية الفلسطينية. فبالنسبة للسعودية، فإن التحرك في هذا التوقيت يأتي ضمن استراتيجية إعادة بناء صورة المملكة كقوة إقليمية مسؤولة تسعى لتوازن المصالح، وتحاول الإمساك بملف القضية الفلسطينية قبل أي تطبيع رسمي مع إسرائيل. كما يسهم هذا الدور في ترسيخ ثنائية “الشرعية الدينية والسياسية” التي تسعى الرياض لتعزيزها في محيطها العربي والإسلامي.
أما فرنسا، فقد بدت حريصة على استعادة نفوذها في الملفات الشرق أوسطية بعد سنوات من التراجع الأوروبي، خاصة في ظل تصاعد الدور الروسي والصيني، وتراجع التفاعل الأمريكي في بعض القضايا. وقد وفرت الشراكة مع السعودية غطاءً سياسيًا ومصداقية أوسع لأي جهد فرنسي في هذا المجال.[12]
خامسًا: تحديات التنفيذ ومآلات المستقبل
رغم الزخم السياسي والإعلامي الذي رافق المؤتمر، تبقى فرص نجاح أي مبادرة دولية مرهونة بمجموعة من التحديات، أبرزها:
- غياب الطرف الإسرائيلي عن المؤتمر وتجاهله لمخرجاته، وسط تمسك الحكومة اليمينية الراهنة برؤية أحادية للدولة اليهودية.
- ضعف الموقف الفلسطيني الداخلي نتيجة الانقسام السياسي بين الضفة وغزة، وتآكل شرعية المؤسسات الفلسطينية.
- انقسام المجتمع الدولي حول آليات الضغط، خاصة في ظل تباين مواقف واشنطن وبكين وموسكو.
- استمرار السياسات الإسرائيلية القائمة على الأمر الواقع (الاستيطان، التهويد، القمع)، والتي تقوض كل أسس حل الدولتين.
- تفاوت المواقف داخل الصف العربي، حيث لا تزال بعض الدول تتبنى مقاربات تطبيعية متفاوتة الإيقاع، تتأرجح بين شروط واضحة وأخرى فضفاضة، ما يؤثر سلبًا على تشكيل جبهة عربية موحدة وضاغطة. ويُعد هذا التباين تحديًا استراتيجيًا يقلل من جدوى أي مبادرة جماعية ويمنح إسرائيل هامشًا أوسع للمناورة السياسية والدبلوماسية.
ورغم ذلك، فإن المؤتمر جاء ليكسر حالة الجمود التي سادت المشهد السياسي في الفترة الأخيرة تجاه القضية الفلسطينية وحل الدولتين، وفتح الباب أمام مزيد من التحركات الدبلوماسية، خصوصًا إذا تم البناء عليه من خلال تشكيل لجنة متابعة دولية، أو عقد مؤتمر ثاني بدعوة أوسع للأطراف المعنية.[13]
ختامًا، يُمثل مؤتمر نيويورك خطوة متقدمة في مسار الجهود الدولية الهادفة لإحياء حل الدولتين. فبين الطموح الذي قاد السعودية وفرنسا لتنظيم هذا المؤتمر، وبين الوقائع المعقدة على أرض الواقع، تتحدد فرص تحقيق اختراق حقيقي في ملف السلام. ورغم أن المؤتمر لم ينتج آلية تنفيذية واضحة، إلا أنه أرسل رسائل قوية بأن المجتمع الدولي لن يستسلم للفراغ الدبلوماسي، وأن إرادة الدول الصاعدة قادرة على تحريك الملفات العالقة.
لكن يبقى التحدي الأكبر هو تحويل الإجماع السياسي إلى أدوات ضغط حقيقية، دون الاكتفاء بلغة البيانات الختامية. وهنا تتقاطع الحاجة إلى إعادة صياغة التوازنات الإقليمية والدولية، مع ضرورة بناء إرادة فلسطينية موحدة، قادرة على خوض معركة السلام بمرجعية وطنية وشراكة دولية.
المصادر:
[1] مؤتمر «حل الدولتين» ينطلق بزخم استثنائي… وترمب لا يبدي «ممانعة»، نُشر في 28 يوليو 2025، صحيفة الشرق الأوسط.
[2] ماذا نعرف عن مؤتمر حل الدولتين الذي تترأسه السعودية وفرنسا؟، نُشر في 28 يوليو 2025، اندبندنت عربية.
[3] مؤتمر “حل الدولتين” برئاسة السعودية وفرنسا.. نقطة تحول نحو إقامة الدولة الفلسطينية، نُشر في 28 يوليو 2025، الشرق.
[4] برئاسة السعودية وفرنسا.. انطلاق مؤتمر حل الدولتين بـ 8 لجان اليوم، نُشر في 28 يوليو 2025، العربية.
[5] وزير الخارجية السعودي: نؤمن بأن حل الدولتين مفتاح لاستقرار المنطقة، نُشر في 28 يوليو 2025، العربية.
[6] مؤتمر حل الدولتين: تداعيات مبادرة سعودية فرنسية، نُشر في 28 يوليو 2025، مركز تقدم للسياسات.
[7] انطلاق مؤتمر حل الدولتين بقيادة السعودية وفرنسا، نُشر في 28 يوليو 2025، جريدة الوفاق.
[8] وزير الخارجية السعودي:«حل الدولتين» يستند إلى موقف السعودية الثابت تجاه قضية فلسطين، نُشر في 28 يوليو 2025، العربية.
[9] مؤتمر أممي لحل الدولتين وسط مقاطعة أميركية وإسرائيلية، نُشر في 28 يوليو 2025، سكاي نيوز عربية.
[10] وزير الخارجية السعودي: حل الدولتين مفتاح لاستقرار المنطقة، نُشر في 28 يوليو 2025، صحيفة الشرق الأوسط.
[11] تغطية شاملة: مؤتمر تسوية قضية فلسطين وحل الدولتين، نُشر في 28 يوليو 2025، الأمم المتحدة.
https://news.un.org/ar/story/2025/07/1143112
[12] انطلاق أعمال مؤتمر الأمم المتحدة حول حل الدولتين في نيويورك، نُشر في 29 يوليو 2025، وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية.
https://www.wafa.ps/pages/details/126697
[13] السعودية وفرنسا تعززان التعاون الأمني بـ«وثيقة تنفيذية»، نُشر في 28 يوليو 2025، صحيفة الشرق الأوسط.
باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب