يشكل خطاب أبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي في 28 أكتوبر 2025 نموذجًا كاشفًا للكيفية التي تُنتج بها السلطة والخطاب السياسي في سياق إقليمي مضطرب، تتداخل فيه أزمات الداخل الإثيوبي مع طموحات توسعية في محيط بالغ التعقيد. وتستمد أهمية هذا الخطاب من كونه لا يعبر فقط عن سياسة حكومية آنية، بل يعكس ما يمكن وصفه بـ العقل السياسي الإثيوبي الجديد، الذي يسعى إلى إعادة تعريف الدولة والهوية والمصلحة الوطنية، وإعادة رسم العلاقة بين الداخل والخارج ضمن سردية تستند إلى ثلاثية السلطة، المقاومة، والبلاغة السياسية.[1]
فالسلطة في الخطاب الإثيوبي المعاصر لم تعد تستند فقط إلى أدوات القوة المادية أو السيطرة العسكرية، بل إلى القدرة على إنتاج المعنى السياسي وصياغة السرد الوطني عبر اللغة، بحيث تُقدم أفعال الدولة في صورة ضرورات تاريخية وحقوق سيادية لا جدال فيها.
وفي المقابل، تتجسد المقاومة سواء من المعارضة الداخلية أو من دول الجوار في محاولات تفكيك هذا المعنى وإعادة تفسيره ضمن منظورات مختلفة. أما البلاغة السياسية، فهي الميدان الذي تتقاطع فيه السلطة والمقاومة معًا، وتتحول اللغة فيه إلى ساحة لإنتاج الشرعية، وإعادة ترتيب رموز القوة والانتماء.[2]
من هذا المنطلق، يتجاوز تحليل خطاب أبي أحمد حدود التوصيف، ليصبح ممارسة نقدية تُعيد قراءة التكوين الرمزي للعقل السياسي الإثيوبي، وموقعه في معادلة القوة الإقليمية. وبناءًا على ذلك، سوف يتم تفكيك الخطاب السياسي على أربعة محاور أساسية، معنونة على النحو الآتي:
- الدلالات الفكرية والسرديات الرئيسية في خطاب آبي أحمد
- التحليلات البلاغية والرمزية والكمية لمفردات الخطاب
- الأبعاد والدلالات السياسية المستنبطة من مضامين الخطاب
- الرؤية النقدية لمضامين الخطاب
أولًا: الدلالات الفكرية والسرديات الرئيسية في خطاب آبي أحمد
خلال كلمة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، يمكن ملاحظة أن آبي أحمد قد سعى إلى ترسيخ ثلاثة أهداف رئيسية، تعكس كل منها رسائل فكرية وسرديات محددة.
الهدف الأول: ترسيخ صورة الحكومة كفاعل سلام
بدأ آبي أحمد كلمته في البرلمان بالتأكيد على احتياج إثيوبيا إلى السلام والاستقرار ووقف الاقتتال الداخلي، وهو ما تهدف إليه الحكومة الحالية دائمًا، موضحًا أن أي جماعات مسلحة أو حركات تحرير تقاوم الحكومة تخسر، وذلك بسبب عدم قدرتها على دفع عجلة التنمية والديموقراطية في البلاد. وبناءًا على ذلك، أكد آبي أحمد أن الحكومة تفتح دائمًا بابًا للحوار أمام أي قوة أو مكون إثيوبي يواجه صعوبات أو مشكلات داخلية، وهو ما تبنته بالفعل مع إقليم تيغراي. ولذلك، نادى بإجراء حوار وطني شامل عدة مرات بهدف خلق قنوات للنقاش وتبادل وجهات النظر تكون فيه المصلحة الوطنية في المقام الأول، مؤكدًا على أن حكومته هي أول من دفعت باتجاه هذا الحوار الوطني.
ومن أجل ترسيخ صورة الحكومة كفاعل للسلام، أبرز آبي أحمد جهود حكومته في تقديم جميع الخدمات لإقليم تيغراي في إطار اتفاق بريتوريا الذي عُقد بين كل منهما، وهو ما يأكد رؤيته بأن عمليات التحرر لا تسطتيع تنفيذ أي شكل من أشكال التنمية داخل الإقليم، وإنما الحكومة وحدها هي من تفعل ذلك. كما شدد على دور الحكومة في توطيد المبادئ الديموقراطية ومسارها، وذلك في الالتزام بعقد الانتخابات القادمة في موعدها، بغض النظر عن أي تطورات داخلية سواء تمثلت في استمرار الحوار الوطني أو وجود توترات سياسية، مما يأكد على قدرة الحكومة على تنظيم الانتخابات وضمان الانتقال السلمي للسلطة دون الحاجة إلى حكومة انتقالية.
بالإضافة إلى ذلك، وبحكم أن هذه الكلمة ألقيت في جلسة برلمانية، صرح آبي أحمد بجميع انجازات الحكومة على المستوى الاجتماعي من توفير مراكز خدمات في البلاد جميعها، برامج تعليمية، برامج التأمين الصحي، فضلًا عن تطوير التجارة الإلكترونية، وتدريب القوادر التعليمية. وبناءًا على ذلك، يسعى آبي أحمد في كلمته إلى إعادة رسم صورته وصورة حكومته بشكل يُعيد تموضعهم كفاعلين للسلام، سواء أمام الأطراف الداخلية لكسب ثقاتها ولا سيما مع اقتراب الانتخابات القادمة، أو أمام الأطراف الخارجية لتحسين صورة إثيوبيا كدولة ديموقراطية تبحث عن الحلول السياسية.
الهدف الثاني: ترسيخ سردية المظلومية الوطنية
استطاع آبي أحمد في كلمته إلى بناء سردية توحي بأن عددًا من الدول تهدف إلى زعزعة النظام السياسي وإبقاء إثيوبيا ضعيفة، الأمر الذي يهدف إلى دعوة الأثيوبيين ليكونوا صفًا واحدًا وراء المصلحة الوطنية الجامعة، وعدم الانسياق وراء أي انقسامات داخلية. وظف آبي أحمد المظلومية الوطنية في إطار المظلومية الجيوسياسية، وذلك في قضيتين هما قضية نهر النيل وقضية البحر الأحمر، وذلك من خلال بناء سردية مزدوجة تجمع بين سردية المظلومية وسردية فاعل السلام والمصلحة المشتركة.
قدم آبي أحمد قضية نهر النيل وسد النهضة كجزء من مصلحة إثيوبيا القومية التي هي آخر دولة في المنطقة تنال حقها وتستفيد من مواردها الطبيعية، مؤكدًا على أن البرلمان يجب أن يبني موقفه على أساس هذا “الضرر التاريخي” الذي لحق بها، ومطالبًا إياه بالاعتراف بهذا الضرر، وهو ما يعكس وسيلته لتثبيت المظلومية الجيوسياسية. كما وضح أن استخدام إثيوبيا للنيل لم يضر أحدًا، متجاهلًا الفيضانات التي عانت منها السودان مؤخرًا بسبب الفتح المفاجئ لخزانات سد النهضة في سبتمبر 2025.[3]
ومن ثم تبنى سردية أن إثيوبيا فاعل سلام في المنطقة يسعى إلى تعاون مشترك، إذ ترى في المصريين والسودانيين أشقائها التي تجمع بينهم روابط نوبية وحضارية، داعيًا إياهم للتعاون وجاعلًا المصلحة بينهم مصلحة واحدة بهدف الاستفادة من موارد الثلاث دول عن طريق الحوار والتوافق والمحبة. كما أن استخدامه مفردات مثل “الحوار” و”التوافق” و”العمل بالمحبة” و”التفاهم” يؤكد ترسيخه للصورة الإيجابية عن إثيوبيا، بينما يجعل من يرفض هذا الطرح يبدو وكأنه الطرف المعادي للسلام والتعاون الإقليمي.
وبالمنطق ذاته، أعاد آبي أحمد توظيف المظلومية الوطنية في قضية البحر الأحمر، إذ لم يقدم قضية الحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر كقضية اقتصادية تنموية، وإنما كحق قانوني وتاريخي وجغرافي مفقود، وذلك من خلال استدعاء العلاقات التاريخية والسياسية مع إريتريا، والطعن بها. فقد شكك رئيس الوزراء في الأسس القانونية لقرار حرمان أديس أبابا من الحصول على منفذ البحر الأحمر، مشيرًا إلى غياب وثيقة وزارية رسمية تثبت ذلك وغياب السلطة التشريعية، فضلًا عن عدم وجود استفتاء شعبي عليه، وهو ما يجعله قرار غير قانوني وظلمًا تاريخيًا للشعب الإثيوبي.
وتتمثل خطورة هذا الخطاب في ارتباط قرار حرمان إثيوبيا من منفذ باستقلال إريتريا عن إثيوبيا في عام 1993، وبالتالي يمتد تشكيكه إلى شرعية استقلال إريتريا ذاته وفي اعتراف إثيوبيا بإرتريا كدولة مستقلة، الأمر الذي يهدد استقرار الدول المجاورة له، وهو ما أكده فيما بعد في ختام كلمته بـ”أن إثيوبيا لن تبقى حبيسة سواء أراد البعض أو لم يرد”. يعكس هذا التصريح تعامله مع القضية باعتبارها مسألة وجودية وجزءًا من الهوية الإثيوبية، ويعزز هذا التوجه هو تأسيس أديس أبابا قوة بحرية منذ 5 سنوات،[4] في خطوة تؤكد إيمانه باستعادة المنفذ البحري، فضلًا عن دعوته لكل من واشنطن وبكين وموسكو والدول الأوروبية والإفريقية للتوسط في هذا الملف.
الهدف الثالث: تعبئة الرأي العام الداخلي لدعم توجهات خارجية
يبرز السياق البنيوي للخطاب في هذا الهدف، إذ حرص آبي أحمد إلى التأكيد على فكرة الحوار الوطني الذي يلعب فيه الشعب دورًا محوريًا، وذلك منذ بداية الخطاب من خلال تشجيع مشاركة المواطن في الانتخابات والتأكيد على أهمية سماع وجهة النظر المختلفة، وحل أي مشكلات الداخلية، مثل قضية نهر النيل التي تعود على الداخل الإثيوبي بالنفع المتمثل في تجنب ظاهرة الجفاف.
وفي هذا السياق، طرح رئيس الوزراء السؤال “من اتخذ قرار خسارة المنفذ بشكل غير قانوني؟” للمواطن بشكل مباشر، في محاولة لإشراكه في قضية البحر الأحمر، وتعزيز الإحساس بالمصلحة القومية، والشك في مدى قانونية هذا القرار العائد على إثيوبيا بالضرر. جاء ذلك التساؤل ضمن مساعي أوسع لشحن الداخل الإثيوبي ولتوحيد صفوفه الداخلية وراء هذا الملف بشكل يمنحه الشرعيه في الدفع في إجراءاته، فضلًا عن تشتيته عن أي صراعات ومشكلات داخلية. وفي المقابل، وفي ظل تأكيده على مبدأ الحوار، رفض آبي أحمد أي اعتراضات من بعض أشكال المعارضة التي ترى أن ملف المنفذ قد يشعل صراعًا في منطقة القرن الأفريقي، إذ وصفهم بأنهم “بلا عقل” وأنهم “لم يتعظوا من تاريخهم”، في خطوة توضح مدى التناقض بين خطابه ورؤيته للمعارضة.
ثانيًا: التحليلات البلاغية والرمزية والكمية لمفردات الخطاب
- التحليل البلاغي والدلالي للخطاب
يُعد خطاب أبي أحمد نموذجًا واضحًا لما يُعرف بالبلاغة السلطوية، حيث تتقاطع مفردات الإقناع بالعاطفة الوطنية مع منطق الإكراه السياسي. فقد استخدم سلسلة من الرموز والعبارات ذات الطابع الوجودي مثل: البحر حقنا، النمو يُرى ويُسمع، إثيوبيا لن تُقصى، التي تحول التنمية إلى قضية مصير وحق مقدس.
ويمكن رصد ثلاثة مستويات بلاغية رئيسة في الخطاب:
- المستوى التصويري: استعارات حسية (الرؤية، السمع) تُحول النمو الاقتصادي إلى تجربة مادية محسوسة، تُقنع الجمهور بأن الإنجاز واقع ملموس لا وعد مؤجل.
- المستوى الهوياتي: ضمير الجمع نحن يتكرر بكثافة لتوليد شعور بالتماهي الوطني وتذويب الفوارق العرقية، بينما يُغيب ضمير الآخر ليُختزل الجوار في موقع غامض بين الشريك والمنافس.
- المستوى السيادي: استخدام عبارات ذات طابع قانوني “لا سجل رسمي”، “حقوقنا التاريخية” يمنح الخطاب طابعًا مؤسساتيًا، لكنه في الوقت ذاته يُخفي الطابع العاطفي والتعبوي للرسالة.
اللافت أن الخطاب لم يذكر دولًا بعينها (مثل مصر أو إريتريا) بشكل مباشر، بل استبدلها بمفاهيم عامة (الجيران، الحقوق، المنافذ)، وهي تقنية بلاغية تهدف إلى التصعيد دون التصريح، وإلى توجيه الرسائل السياسية من دون إغلاق باب التفاوض.
وإنطلاقًا من منظور فيركلوف[5] في تحليل الخطاب، يمكن القول إن أبي أحمد يوظف اللغة لإعادة ترتيب الحقول الرمزية للسيادة، إذ يجعل من التنمية “أداة للهيمنة المقبولة”، ومن الخطاب وسيلة لإنتاج الطاعة الطوعية. هنا، تتحول البلاغة إلى أداة سياسية لإقناع الداخل وتحييد الخارج، في وقت تتشابك فيه أزمة الشرعية الداخلية مع تحديات الجوار.
- التحليل الكيفي للرموز والاستعارات لمضامين الخطاب
يُعد من الملاحظ أن آبي أحمد استخدم في كلمته بعض الاستعارات والقصص الرمزية، الأمر الذي قد يحمل في طياته دلائل ورموز سياسية تعكس رؤيته للأطراف الداخلية وللقضايا الوطنية. ويذكر هذا الاستخدام بما طرحه المفكر الألماني ليو شتراوس حول لجوء الفيلسوف لاستخدام الرموز في كتاباته لتضمين معانٍ خفية، هربًا من سلطة القمع.[6] وهنا يمكن القول أن الحاكم هو الآخر يستخدم رموزه واستعاراته في خطابه، لا للهرب من السلطة مثل الكاتب وإنما ليُخفي القمع تحت غطاء الشرعية، كما أنه يجعل من الخطاب أساسًا لترسيخ بناء محدد من السلطة وعلاقات القوة. وهو ما أشارت إليه أطروحات المفكر الفرنسي ميشيل فوكو حول كيفية ترسيخ وبناء بنية معرفية محددة من قبل السلطة لتثبيت حكمها وإعادة انتاجها عبر الخطاب.[7] فقد قدم رئيس الوزراء ثلاث أمثلة أو قصص وهما قصة المعلم والطلاب، قصة الثعلبة والأسد والغزالة، وقصة الطالب ومعلم الفيزياء. يعكس استخدام آبي أحمد هذه القصص اتجاهاته في تحويل القضايا الوطنية إلى قضايا ذات بعد أخلاقي.
يتضح في القصة الأولى أن التعاون والوحدة يمثلان الأساس الذي يحتاج إليه المجتمع الإثيوبي، حيث يطلب معلم من طلابه أن يكتبوا أسمائهم على بعض الورق وإلقائها في الفصل، ثم يأخذ كل طلاب ورقة ويقرأ الإسم ويذهب ليسلمها لصاحبها، الأمر الذي يعكس أهمية العمل المشترك والتعاون الذي يؤدي إلى حل المشكلات بشكل سلمي. وهنا، يمثل المعلم السلطة والقيادة الحاكمة التي تطلب من مكونات المجتمع (الطلاب) التعاون معًا من أجل حل كافة المشكلات المتناثرة (الأوراق الملقاة) في الداخل (الفصل)، وهو ما يعكس الهدف الأول لآبي أحمد في ترسيخ دور الحكومة كفاعل للسلام داخليًا وخارجيًا، وتوطيد فكرة أن المشكلات ليست مسئولية فرد معين، وإنما هي مسئولية جميع مكونات الدولة ما داموا جزءًا من مجتمع واحد.
أما بالنسبة إلى القصة الثانية، تظهر أن ثعلبًا جاء ليتفاوض مع الأسد موضحًا أن مصلحتهم واحدة، وأنه سيجلب له ما ينفعه (فريسة)، ولكن ذهب لنشر إشاعات للغزالة مؤكدًا بأنه سيجلسها على العرش. ثم رجع إلى الأسد دون فريسة وبذيله مقطوع، فقام الأسد بقتله. وبعد ذلك دار حوار بين الأسد والغزالة حول تقسيم الثعلب بينهم ولكن الأسد غضب عندما أكلت الغزالة رأس الثعلب، لتوضح الغزاله أنه لم يكن للثعلب عقل.
جاءت هذه القصة الرمزية في إطار اعتراض آبي أحمد على تجمعات المعارضة وحركات التحرر، حيث يتجسد الثعلب المخادع الغير المسئول في هذه القوى المعارضة التي لا تهتم بقضية منفذ البحر الأحمر، مما يدل على افتقارها للعقلانية والتفكير السليم. وهنا يُعيد آبي أحمد إنتاج خطاب يصوّر فيه المعارضة في قضية المنفذ البحري على أنهم مخادعون يفتقرون إلى المعرفة والفهم، مما يتيح له تأسيس سردية المعارض المخادع الجاهل لمن يعترض على سياساته الحكومية. وفي المقابل، يرمز الأسد إلى الحكومة العاقلة التي تحرص على حماية البلاد وضمان استقرارها وذلك من خلال ضبط هذه القوى، الأمر الذي يشير إلى سياسات آبي أحمد تجاه حركات التحرر، لا سيما إقليم تيغراي حيث سُجلت العديد من الانتهاكات الحكومية خلال الحرب بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية وحركة تحرير تيغراي (2022 – 2020).[8] [9]
وتأتي القصة الثالثة لترسيخ آبي أحمد فكرة إصرار الإرادة الوطنية في الحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر وتوظيفها كأداة للتعبئة الداخلية، إذ استشهد بقصة عن طالب تأخر عن موعد حصته المدرسيه، فرفض المعلم دخوله الصف، لكن الطالب حاول الاطلاع على ما كتبه المعلم على السبورة، ودوّن سؤالين وحل أحدهما. وعندما جاء ليسلمهما للمعلم، اكتشف أن هذين السؤالين لم يكونا الواجب، بل مسائل مفتوحة لم يحّها علماء الفيزياء في العالم بعد. وتعكس هذه القصة سياسة آبي أحمد في التعامل مع القضية بوصفها قضية وجودية وهدفًا مشروعًا، بل وأمر حتمي لا مفر منه.
- التحليل الكمي لمفردات الخطاب
يتناول هذا الجزء التكرارات الإحصائية للمفردات والمفاهيم الأساسية التي استخدمها آبي أحمد في خطابه أمام البرلمان، بما يكشف عن الأولويات والدلالات السياسية للخطاب. وبناءًا عليه، يكشف التحليل الكمي للمفردات عن تركيز واضح على التعبئة الشعبية، إذ تكررت كلمة “الشعب/ People” أكثر من 77 مرة، وهو ما يعكس مساعي آبي أحمد في اكتساب الشريعية الشعبية لحكمه ولسياساته، وإظهارها كأساس للنظام الإثيوبي وكغطاء شرعي لسياساته. وبالمثل، جاءت مفردة “إثيوبيا/ Ethiopia” لإبراز الهوية الوطنية، وإعادة ترسيخ مفهوم الدولة القومية المركزية، وذلك في مقابل الانقسامات الإثنية التي تعاني منها إثيوبيا، فضلًا عن إظهار الدور الإثيوبي في منطقة القرن الإفريقي.
وفي السياق ذاته، استخدم آبي أحمد مفردة “السلام/ Peace” أكثر من 40 مرة، الأمر الذي يعكس تأكيده على سردية الحكومة كفاعل سلام داخليًا وخارجيًا، لتبرير سياساته في ظل وجود توترات داخلية وخارجية. ومن ثم جاءت مفردة “الحكومة/ Government” للتأكيد على دور السلطة التنفيذية في حماية البلاد ودفع عجلة التنمية، وهو ما يعجز عن تنفيذه تكتلات المعارضة والحركات التحررية حسب وجهة نظر آبي أحمد، وبالتالي تصويرها كمنقذة للوطن. وبناءً على ذلك، وظّف آبي أحمد هذه المفردات الأربعة بطريقة تبرز أن السلام لا يمكن أن يتم إلا عن طريق الحكومة التي هي الممثل الشرعي للشعب وإرادته.

أما بالنسبة للمفردة التالية، فهي “الانتخابات/ Election” التي تكررت عدة مرات في الخطاب بهدف تأكيد مساعي الحكومة الإثيوبية الحالية نحو ترسيخ الأسس الديموقراطية، من خلال ضمان إجراء انتخابات وحق المواطن عن صوته. وهو ما أكدت عليه كل من تكرار المفردات “الحوار/ Dialogue” و “الدستور/Constitution” في خطاب آبي أحمد.
إلى جانب ذلك، تُشير مفردتا “المشكلات/ Problems” و”القضية/Issue” إلى الأعتراف بوجود العديد من الأزمات الداخلية، من أبرزها النزاعات المحلية، وهو ما تجلى في تكرار مفردات مثل “تيغراي/ Tigray” و “الصراع/ Conflict”. الأمر الذي يعكس مدى أهمية هذا الإقليم في استقرار الدولة الإثيوبية، كما يؤكد حجم عدم الاستقرار الذي شهده مؤخرًا. أما على المستوى الخارجي، فيظهر موقع إثيوبيا وكونها دولة حبيسة عقبة وأزمة أمام امتلاكها ميناء بحري. ويبرز ذلك الطرح طبيعة الخطاب كخطاب برلماني شعبي من الدرجة الأولى، نظرًا لتركيزه على مناقشة كل من القضايا الوطنية والإقليمية.
وفي المقابل، لم يُخل الخطاب من دون تكرار المفردات “إرتريا/Eretria” و”المنطقة/ Region” و”المصالح/Interests” والتي تعكس مدى تركيز الخطاب على القضايا الإقليمية، ولاسيما قضية البحر الأحمر والانفصال الإيرتري الذي قٌدم على أنه غير قانوني، بما يغزي سردية المظلومية الوطنية ويبرر سعيها لتحقيق مصالحها في المنطقة.
ثالثًا: الأبعاد والدلالات السياسية المستنبطة من مضامين الخطاب
- إعادة قراءة العقل السياسي الإثيوبي في ضوء التوترات الداخلية والإقليمية
تُظهر الخطابات الرسمية الأخيرة لأبي أحمد، وآخرها خطابه أمام البرلمان، بنية فكرية تتجاوز حدود الواقعية السياسية إلى ما يمكن تسميته بـ العقيدة الوجودية للدولة. فمن خلال عرضه لمؤشرات النمو الاقتصادي ومشاريع التنمية، بدا أبي أحمد يسعى إلى ترسيخ سردية جديدة ترى في الدولة الإثيوبية مشروعًا حضاريًا يتجاوز التحديات العرقية والفدرالية، ويتعامل مع التنمية لا كخيار اقتصادي، بل كـ أداة خلاص وطني.[10]
لكن المثير في هذا الخطاب هو توظيف البرلمان كمنبر رئيسي للشرعية، وهو ما يعكس محاولة لتعزيز الصورة الديمقراطية للدولة، أو على الأقل تثبيت شرعية رمزية أمام الداخل والخارج. فالبرلمان هنا لم يكن مجرد ساحة سياسية، بل مسرحًا لإعادة إنتاج الشرعية في سياق داخلي متأزم.
غير أن هذا الاستخدام الرمزي للمنبر البرلماني يخفي تناقضات واضحة، إذ يعلن أبي أحمد في أكثر من موضع أنه “يريد التنمية لا القتال” في إقليم تيغراي، بينما يستخدم في الوقت ذاته لغة القوة والردع كقوله “لن نُجرب بعد اليوم” و”الحكومة لا تُقهر“. إن هذا التناقض بين خطاب التنمية ومنطق الردع يعكس صراعًا بين سرديتين داخل العقل السياسي نفسه، سردية التنمية كسلام وسردية السيادة كهيمنة.[11]
يتبنى تحليل الخطاب السياسي لرئيس وزراء إثيوبيا رؤية مفادها ان هذا التداخل بين الدعوة إلى السلم واستخدام عبارات القوة يجعل الخطاب أقرب إلى العرض الجدلي (rhetorical performance) منه إلى استراتيجية سياسية مدروسة. فهو يقدم صورة متماسكة لفظيًا لكنها متناقضة وظيفيًا، إذ يسعى إلى احتواء الأزمات عبر الرمزية أكثر من معالجة الأسباب البنيوية للنزاعات.
وعلى المستوى السياسي الواقعي، يبدو أن الخطاب محاولة واضحة لتحويل الانتباه من الداخل المتفكك إلى مشروع قومي أكبر وهو مشروع الوصول إلى البحر وبناء التنمية بهدف إعادة صياغة أولويات الرأي العام. ومع ذلك، لا يُخفي الواقع أن إثيوبيا لا تزال تواجه اضطرابات عميقة في أقاليم أمهرا (Amhara) وأوروميا (Oromia) وتيغراي (Tigray)، ما يجعل الخطاب أقرب إلى إعادة توزيع الرموز الوطنية أكثر منه إلى معالجة حقيقية للأزمات.[12]
إن الإشكالية الجوهرية في الخطاب الإثيوبي الجديد تكمن في الفجوة بين الرمز والأداء، فالمواطنون لا يقيسون شرعية الحكومة بما تقوله في البرلمان، بل بما توفره من أمن وخدمات وعدالة. وبذلك، تصبح اللغة رغم قوتها عاجزة عن تحويل الشرعية الرمزية إلى شرعية عملية ما لم تُترجم إلى نتائج ملموسة.
- الرؤية الإثيوبية للعالم والجوار كفضاء لإعادة إنتاج النفوذ
كما يعكس الخطاب رؤية إثيوبية جديدة للعالم تقوم على مزيج من الواقعية البراغماتية والوعي التاريخي بالذات. فإثيوبيا، وفق ما عبّر عنه أبي أحمد، لا ترى نفسها دولة هامشية، بل دولة مركزية في القرن الإفريقي، تمتلك رصيدًا حضاريًا وتاريخيًا يجعلها الأحق بالمنافذ والموارد والمكانة الإقليمية. بهذا، يتحول الجوار من كونه بيئة للتفاعل، إلى حيز للنفوذ والسيطرة الرمزية.[13]
يصف أبي أحمد في خطابه فقدان إثيوبيا للمنافذ البحرية بأنه “أمر غير موثق رسميًا“، في إشارة إلى أن الواقع السياسي الحالي لا يعبر عن الحقيقة التاريخية، بل عن ظرف مؤقت يمكن تعديله. هذا الخطاب يهدف إلى إعادة تأطير العلاقات الدولية في القرن الإفريقي، بحيث يصبح البحر الأحمر امتدادًا طبيعيًا للمجال الحيوي الإثيوبي. ويُعيد هذا التوجه إنتاج منطق المركز والأطراف في السياسة الإقليمية، فإثيوبيا ترى نفسها مركزًا حضاريًا محاطًا بدول صغيرة أو محدودة الموارد، ما يبرر في تصورها تبني خطاب الوصاية التنموية أو الريادة الإفريقية.[14]
- البعد الإقليمي من القوة الرمزية إلى سياسة التهديد
في الجانب الإقليمي، يبرز خطاب أبي أحمد كتحول من لغة التنمية إلى سياسة التهديد الرمزي والمباشر، خصوصًا فيما يتعلق بقضية الوصول إلى البحر. لقد أكد أبي أحمد أن هذا الملف وجودي لإثيوبيا، ما يعكس إدراكًا حقيقيًا لرهان استراتيجي طالما تجاهله الخطاب الإثيوبي في الماضي، نظرًا لكون إثيوبيا أكبر دولة إفريقية بلا منافذ بحرية.
لكن هذا الطرح يحمل في طياته مخاطر جيوسياسية بالغة. فالتهجم الضمني على الكيان الإريتري، والإشارة إلى أن “من قرر حرماننا من البحر لم يوثق ذلك رسميًا“، يُعد بمثابة تشكيك مباشر في السيادة الإريترية. من شأن ذلك أن يُنظر إليه في أسمرة كتهديد وجودي، وقد يؤدي إلى تصعيد سياسي أو أمني جديد بين البلدين.
كما أن إعادة تقديم الرواية التاريخية حول فقدان المنافذ البحرية يمكن أن تفتح الباب أمام صراعات سردية وجغرافية تُعقد العلاقات مع دول الجوار بدل أن تُمهد للحوار. وفي السياق الأمني الإقليمي، فإن تحريك موضوع البحر الأحمر في هذا التوقيت قد يُربك موازين القوى الإقليمية، ويضع الحكومة الإثيوبية أمام خيار صعب بين التهديد أو التفاوض.[15]
وهنا يطرح الخطاب سؤالًا جوهريًا: هل يشكل هذا الطرح خارطة طريق استراتيجية واضحة لمستقبل السياسة الإثيوبية، أم أنه تكتيك رمزي لتوحيد الداخل وإعادة إنتاج الشرعية عبر خطاب قومي؟
المراقبون السياسيون والإقليميون يميلون إلى الاحتمال الثاني، خاصة وأن عبارة أبي أحمد لن ننتظر 30 سنة أخرى تحمل تهديدًا ضمنيًا يعكس لغة تعبئة أكثر منها رؤية دبلوماسية منظمة. وعليه، فإن خطاب أبي أحمد على المستوى الإقليمي لا يمكن فصله عن سياسة الردع والهيمنة الرمزية التي باتت إحدى أدواته المركزية لإعادة تموضع إثيوبيا، وإن كان ذلك على حساب استقرار محيطها المباشر.
رابعًا: الرؤية النقدية لمضامين الخطاب
تكشف القراءة النقدية لخطاب أبي أحمد عن عدد من المفارقات والدلالات التي تتجاوز محتواه المباشر لتصل إلى طبيعة التحول في الفكر السياسي الإثيوبي ذاته.
فالخطاب في جوهره يحمل طابعًا رمزيًا أكثر من كونه خطة تنفيذية واضحة، إذ رغم تركيز أبي أحمد على مشاريع كبرى مثل الوصول إلى البحر وتحقيق التنمية، إلا أن الخطاب لم يقدم آليات عملية أو مراحل محددة يمكن قياسها أو محاسبته عليها. وبهذا، يتضح أن الخطاب يسعى إلى إنتاج معنى سياسي تعبوي أكثر من كونه وثيقة سياسة عامة.
كما أن استخدام البرلمان كمنبر رئيسي للخطاب يعبر عن رغبة في إظهار الشرعية الديمقراطية أو على الأقل تعزيز الرمزية الديمقراطية أمام الداخل والخارج، إلا أن هذا الإطار المؤسسي لا يخفي هشاشة الشرعية الواقعية في ظل الانقسامات الداخلية وتراجع الثقة الشعبية، خاصة في أقاليم مثل أمهرا وأوروميا وتيغراي. ومن هنا، يمكن القول إن الخطاب يسعى إلى توظيف الشكل الديمقراطي لاحتواء التوترات، أكثر مما يعكس ممارسة ديمقراطية فعلية.
وعلى الصعيد الإقليمي، تبرز لغة التهديد والتصعيد تجاه إريتريا كأحد أبرز عناصر الخطاب، إذ تعكس تصريحات أبي أحمد حول الاستعداد للقيادة في مسار المواجهة منحى تصعيديًا غير محسوب، يمكن أن يُفهم كتمهيد لتبرير تحركات عسكرية مستقبلية. هذا التوجه ينذر بتحول في طبيعة الخطاب الإثيوبي من خطاب تنمية إلى خطاب ردع، وهو ما قد يفتح الباب أمام مواجهات إقليمية غير ضرورية ويقوض فرص التهدئة في القرن الإفريقي.
ويُضاف إلى ذلك أن استدعاء الرواية التاريخية حول فقدان المنافذ البحرية، وربطها بعبارات مثل من قرر أن نفقد الوصول إلى البحر، يعكس نزعة نحو إعادة فتح ملفات سيادية قديمة بدلاً من معالجتها بالحوار أو الوسائل القانونية. هذه المقاربة التاريخية العاطفية تُعيد إنتاج الذاكرة السياسية لاستخدامها كأداة تعبئة، لكنها في الوقت ذاته تهدد بإحياء نزاعات جيوسياسية قديمة في منطقة البحر الأحمر.
من زاوية داخلية، يُظهر الخطاب محاولة واعية لنقل بؤرة الاهتمام من الصراعات الداخلية إلى مشروع وطني جامع يتمثل في البحر والتنمية. غير أن هذا التحول في الخطاب لا يُخفي حقيقة أن الأزمة البنيوية للدولة الإثيوبية ما زالت قائمة، وأن الانقسامات العرقية والسياسية لا يمكن تجاوزها بخطاب تعبوي مهما بلغت قوته الرمزية. فالقوة اللغوية لا تكفي لتغيير الواقع السياسي، ما لم تُترجم إلى إصلاحات ملموسة تعالج القضايا العالقة في الداخل.
كذلك، يتجلى في الخطاب تناقض بنيوي بين لغة السلم ولغة القوة. ففي الوقت الذي يؤكد فيه أبي أحمد أنه يريد التنمية والسلام، نجده في مواضع أخرى يعلن أن إثيوبيا مستعدة للمعركة. هذا التباين يُضعف من اتساق الرسالة السياسية ويجعل الخطاب أقرب إلى خطاب تعبوي مزدوج، يعكس الصراع بين الرغبة في إظهار القوة والحاجة إلى الاستقرار.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن التحقق من مصداقية الادعاءات حول الانتقال من أرقام النمو إلى نمو ملموس يطرح تساؤلات جدية. فالمؤشرات الواقعية للأداء الاقتصادي الإثيوبي خلال السنوات الأخيرة لا تتطابق مع الأرقام الرسمية المعلنة، ما يثير الحاجة إلى مراجعة مستقلة وشفافة للبيانات الحكومية. إن الخطاب، في سعيه لإقناع الجمهور بوجود تحسن اقتصادي ملموس، يغامر بتأسيس شرعية رمزية على معطيات غير مثبتة، وهو ما قد يؤدي إلى فقدان المصداقية حين يصطدم المواطن بالواقع المعيشي الصعب.
وفي هذا السياق، يُلاحظ أن غياب مؤشرات ميدانية حقيقية للنمو والتنمية يجعل الخطاب عرضة للانفصال عن الواقع، فاعتماده على سرديات كمية غير دقيقة من نسب نمو ومشروعات قيد التنفيذ وتوقعات مستقبلية يُفضي إلى فجوة بين الخطاب الرسمي والتجربة اليومية للمواطن. وهذه الفجوة تُمثل خطرًا على استقرار العلاقة بين الدولة والمجتمع، لأنها تُحول اللغة السياسية إلى بديل عن الإنجاز.
وبناءً على ذلك، فإن تحول الخطاب من الرمزية إلى التخطيط الواقعي يمثل ضرورة استراتيجية للدولة الإثيوبية، إذ لا يمكن الاكتفاء بالشعارات الكبرى من قبيل السلام، التنمية، البحر، دون ربطها بخطط زمنية ومؤشرات أداء واضحة يمكن قياسها ومساءلة الحكومة بشأنها برلمانيًا ومجتمعيًا. إن الاستدامة السياسية في إثيوبيا لن تتحقق عبر الرموز وحدها، بل عبر المؤسسية والمساءلة.
وفي الإطار الإقليمي، تبدو الحاجة ملحة إلى ضبط لغة الخطاب وتجنب الانزلاق نحو التصعيد أو التهديد، لأن ذلك من شأنه تقويض الجهود الدبلوماسية في القرن الإفريقي. فعبارات مثل لن ننتظر 30 سنة أخرى تحمل دلالات ضغط وتهديد مبطن يمكن أن تُفسر من جانب إريتريا أو غيرها كمساس مباشر بالسيادة، مما يزيد من احتمالات التوتر العسكري ويفتح الباب أمام دوامة جديدة من الصراع.
في المجمل، يمكن القول إن الرؤية النقدية لخطاب أبي أحمد تكشف عن تناقض بين الخطاب كأداة إنتاج للشرعية وبين السياسات كوسيلة لبناء الاستقرار. فالخطاب قوي بلاغيًا ورمزيًا، لكنه يفتقر إلى العمق التنفيذي، ما يجعل تأثيره في الواقع محدودًا إذا لم يُترجم إلى خطوات سياسية واقتصادية ملموسة. إنها معضلة الدولة الإثيوبية الجديدة، خطاب طموح يتجاوز الواقع، لكنه لا يستطيع تجاوزه فعليًا.
ختامًا، يمثل خطاب أبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي وثيقة سياسية فكرية تُلخص التحول العميق في بنية الخطاب السياسي الإثيوبي من لغة التنمية كأداة وحدة إلى التهديد الرمزي كأداة نفوذ. داخليًا، استخدم أبي أحمد المنبر البرلماني لترسيخ شرعية رمزية تعوّض هشاشة الواقع الأمني والاقتصادي، إلا أن التناقض بين خطاب السلم وممارسة الردع يبقى عقبة أمام تحويل الرموز إلى استقرار فعلي. أما خارجيًا، فقد كشف الخطاب عن نزعة جيوسياسية جديدة تحاول جعل إثيوبيا مركزًا حيويًا للمنطقة، ولو عبر خطاب يُلامس حدود التهديد.
تكمن أهمية هذا الخطاب السياسي لرئيس الوزراء الإثيوبي في أنه يربط الوجود الوطني الإثيوبي بمشاريع خارج الحدود، ما يجعل أي إخفاق في تحقيقها تهديدًا مباشرًا لشرعية النظام ذاته. وبذلك، يتحول الخطاب من مشروع تعبئة إلى رهان وجودي مزدوج، داخلي في مواجهة التفكك، وخارجي في مواجهة المحيط.
وبهذا، لا يمكن النظر إلى خطاب أبي أحمد إلا بوصفه نصًا تأسيسيًا في مشروع إثيوبيا الجديد مشروع الجمع بين التنمية والهيمنة، بين الخطاب والشرعية، وبين الداخل والبحر في محاولة لصياغة هوية دولة تبحث عن معنى وجودها في لغة القوة والرمز معًا.
[1] Ethiopian PM Speech At the Ethiopian Parliament, 28 Oct 2025.
https://borkena.com/2025/10/28/ethiopian-pm-speech-at-the-ethiopian-parliament/
[2] رسائل آبي أحمد لمصر والسودان وإريتريا… مسار للتعاون أم «خطاب تهدئة»؟، نُشر في 29 أكتوبر 2025، صحيفة الشرق الأوسط.
[3] “هل تتأثر مصر بفيضانات السودان بعد فتح خزانات “النهضة”؟”، عربية Sky news، 30 سبتمبر 2025، https://www.skynewsarabia.com/middle-east/1823972-%D8%AA%D8%AA%D8%A7%D9%94%D8%AB%D8%B1-%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%A8%D9%81%D9%8A%D8%B6%D8%A7%D9%86%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D9%81%D8%AA%D8%AD-%D8%AE%D8%B2%D8%A7%D9%86%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%87%D8%B6%D8%A9%D8%9F
[4] “إثيوبيا تطلب وساطة لإيجاد “حل سلمي” مع إريتريا يمنحها منفذا بحريا”، الجزيرة، 28 أكتوبر 2025، https://www.aljazeera.net/news/2025/10/28/%D8%A5%D8%AB%D9%8A%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D8%AA%D8%B7%D9%84%D8%A8-%D9%88%D8%B3%D8%A7%D8%B7%D8%A9-%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%AC%D8%A7%D8%AF-%D8%AD%D9%84-%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A-%D9%85%D8%B9
[5] التحليل النقدي للخطاب، نُشر في 31 يوليو 2024، المركز الديمقراطي العربي.
https://democraticac.de/?p=99102
[6] ” ليو شتراوس: الاضطهاد وفن الكتابة.”، نظر، 16 أبريل 2016، https://nthar.net/persecution-writing/
[7] ” السلطة والمعرفة والجسد: مقاربة فوكو المتجددة للسلطة”، العربي القديم، 9 يناير 2025، https://alarabialqadeem.com/foucault
[8] “Ethiopia: Crimes Against Humanity in Western Tigray Zone”. Human Rights Watch. April 6, 2022. https://www.hrw.org/news/2022/04/06/ethiopia-crimes-against-humanity-western-tigray-zone
[9] “ما أسباب المخاوف من اندلاع حرب جديدة في تيغراي؟”، الجزيرة، 27 أغسطس 2025، https://www.ajnet.me/news/2025/8/27/%D9%85%D8%A7-%D8%A3%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AE%D8%A7%D9%88%D9%81-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%86%D8%AF%D9%84%D8%A7%D8%B9-%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%81%D9%8A
[10] أزمة أخرى.. إثيوبيا تصر على الوصول إلى البحر الأحمر ومصر ترد، نُشر في 30 أكتوبر 2025، سكاي نيوز عربية.
[11] آبي أحمد يتمسك بمنفذ على البحر الأحمر: ميناء عصب الإريتري ضمن حدودنا، نُشر في 28 أكتوبر 2025، الشرق نيوز.
[12] هاشم علي حامد، هل بات المنفذ البحري الإثيوبي واضحا في مدى المدافع؟، نُشر في 29 أكتوبر 2025، انديبندنت عربية.
[13]Ethiopian PM Speech At the Ethiopian Parliament, 28 Oct 2025.
https://borkena.com/2025/10/28/ethiopian-pm-speech-at-the-ethiopian-parliament/
[14] آبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي.. رسائل إلى مصر والسودان وإريتريا، نُشر في 28 أكتوبر 2025، العين الإخبارية.
https://al-ain.com/article/new-ethipia-parliament
[15] د. نادية عبد الفتاح، أستاذ العلوم السياسية بكلية الدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة.
باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب
باحث في العلاقات الدولية بمركز ترو للدراسات والتدريب